يلفتني منذ فترة عدد المشاريع الإعلامية والمدنية التي تزجّ بكلمتي (الحوار والسلم الأهلي) في كل مشروع تطلقه، أعلم تماماً أنّ هذين الموضوعين هما اليوم الأكثر تسويقاً، والأكثر إمكانيةً للتمويل من قبل جهات الدعم العالمية، لأنّ الأمر ببساطة أصبح أشبه بصيحات الموضة.
في بداية الألفية الثانية، وصلت شرارة التمويلات إلى منطقتنا العربية؛ ونحن الذين لم نعرف يوماً ما يعنيه المجتمع المدني بشكل حقيقي، في ظلّ حكوماتنا القمعية والاستبدادية.
المهم أنّها وصلت وكانت الموضة في ذلك الوقت، أو لنقل “تريند” المرحلة، هو حقوق الإنسان كعنوان عريض، واندرجت تحته عناوين فرعية، مثل حقوق المرأة والطفل والأقليات، وحقوق السجناء بشكل عام، والسياسيين بشكل خاص، كخصوصية لمجتمعاتنا العربية “خص نص” وبالتالي تكاثرت في ذلك الوقت المنظمات المدينة التي كانت تسعى للتمويل ( وهذا حق أي منظمة أو مؤسسة أو مشروع)، وكانت كل منها تضع حقوق الإنسان كلازمة إجبارية في صلب اختصاص عملها، لتضمن بذلك حصولها على التمويل المبدئي -تمويل التأسيس- ومن ثم تبني مشاريعها وتزجّ بحقوق أي كان في أي مشروع تريده أن يتموّل، سواء لتفريغ أعضاء، أو لتشغيل فريق عمل، المهم أن تكون فحوى المشروع تختصّ بالحقوق المنصوصة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حتى الإسلاميون كانوا يخترعون مشاريع تنضح بحقوق الإنسان والتستر خلف هذا العنوان لتسيير منظماتهم المدنية (غير الخيرية).
بعد ذلك بدأ نجم حقوق الإنسان بالفتور، وظهرت على السطح موجة جديدة حول الجندرة وتمكين المرأة، ودعم وتنمية الديمقراطية، وأيضاً لا أستطيع أن أحصي عدد المشاريع التي هرولت المنظمات لتقديمها، وباتت تخلط تمكين المرأة والجندرة والديمقراطية في كل شيء، الجندرة في السياسية والتاريخ والجغرافية وتمكين المرأة منذ بدء الخليقة، وتنمية الديمقراطية حتى بالمطبخ، وأخذت تلك الحقبة حقّها لسنوات ليست بالقليلة، في كل المنطقة العربية، وظلّت سوريا مقتصرة على منظمات حقوق الإنسان، ليس أكثر مع مراعاة حرية الصحافة والتعبير، ولكن بشكل خجول، نظراً لخصوصية الوضع الإعلامي في سوريا والمعروف للجميع.
استمرّت هذه المرحلة لما بعد انطلاق الثورة السورية ودخول السوريين بشكل واسع إلى سوق التمويل وإنشاء المنظمات، خاصة في دول الجوار ودول اللجوء.
ومع اختلاف الظروف، اختلفت ضرورات التمويل بعد الثورة، فأخذت المنظمات ذات الطابع الإغاثي الكثير من الاهتمام، ودُفعت مبالغ طائلة لهذه المنظمات، والتي لم يصل من تمويلاتها أقل من ربعها للمستفيدين الحقيقيين -بالطبع لا أتهم ولا أعمم- ولكن هذا ما لمسه الجميع في الفترات الماضية.
وانطلقت مشاريع لا تحصى لتميكن النساء بعنوانه العريض، فظهرت منظمات سورية تعني بهدا الموضوع في الخمس سنوات الأولى من عمر الثورة، ما أنشأته مصر على سبيل المثال في عشرين عاماً في ذات الاختصاص.
استمرّ تغيير مزاج المموّل، وبناء على أجندات معينة كما أعتقد ولا أجزم، فاتجه التمويل إلى الإعلام لتنتشر المواقع الإلكترونية، والجرائد، والتفلزات أحياناً، فيما سمي بالإعلام الثوري.
هذا الإعلام الذي عوم الكثير من الأخبار والفبركات التي ساهمت في فقد الثقة فيه، وفي الأحداث على الأرض أحياناً، على المستوى المحلي والعربي والعالمي فيما بعد، فجرائم النظام لم تكن بحاجة للمبالغة أو الفبركة لإظهار وحشيته وانتهاكاته التي تصل وبكل يسر إلى جرائم حرب غير مسبوقة بالعالم.
وظلّت “موضة” تمويل الإعلام الثوري لفترة تجاوزت الست سنوات، ليتغير بعدها المزاج العام تجاه تمويل المؤسسات الإعلاميّة، فأغلقت مواقع ومحطات وإذاعات وغرف عمل، ليستمر منها عدد قيل ممن فهم اللعبة بشكل صحيح، واستطاع أن يتعامل بديناميكية ومرونة مع أمزجة شركائه الممولين لمشروعه، والتقط بذكاء ما هو المطلوب في كل مرحلة من المراحل، فتغير الخطاب من الثوري، إلى الاجتماعي، إلى الدعم النفسي… إلخ. وهذه نقطة لهم وليست عليهم، فالبقاء للأقدر على التلاؤم ولا مكان للثوابت هنا. واستمرّت قضايا حرية التعبير وحرية الرأي والحوار منذ بداية الألفية وحتى بداية العقد الثاني منها.
وكما تتغير موضة اللباس ويتبع السوق الدارج والمرغوب من ألوان وغيرها، هكذا استمر تغير تريند أو موضة التمويلات، فشح التمويل تجاه المشاريع السورية بشكل عام، والمشاريع الإعلامية بشكل خاص، ومشاريع الإغاثة والجندرة وسواها من الموضوعات التي مُوِّلت في فترات ماضية، فلم يعد يعني المنظمات العالمية كثيراً هذه الموضوعات ولم تعد تبدي أي اهتمام بمشاريع تعنى بحقوق الإنسان أو النسوية أو الجندرة أو التمكين أو حتى الديمقراطية.
اليوم يظهر على السطح موضوع جديد ويأخذ حيزاً كبيراً من التمويلات، وهو موضوع الحوار والسلم الأهلي، والحقيقة حاولت أن أجد جواباً شافياً تحديداً حول السلم الأهلي، كيف يمكن لمشاريع أثبت الزمن أن لا وجود لها سوى على نطاقات ضيقة لا تتجاوز بضعة مئات من القرّاء أو المستمعين أو المتدربين أو العاملين في هذه المشاريع؟ وكيف ستساهم مثل هذه المشاريع في الوصول إلى السلم الأهلي؟ هل السلم الأهلي يحصل بهذه الطريقة، بكلمتين في جريدة، أو برنامج في إذاعة؟
السلم الأهلي.. هذا العنوان المؤلف من كلمتين يحتاج إلى سنوات من العمل الحقوقي التراكمي وعلى مستويات سياسية واجتماعية تبدأ من قاعدة الهرم إلى رأسه وبالعكس، وتجري فيه المحاكمات العادلة التي تقتص من مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان، محاكمات تصدر أحكاماً تُنفذ بحق هؤلاء، تشعر الضحايا وذويهم ولو قليلاً باستعادة حقوقهم.. فأي سلم أهلي والناس اقتلعت من مناطقها، وسُرقت أراضيها وأملاكها؟ أي سلم أهلي وحوار، بين القاتل والمقتول، أي تساوٍ بين الضحية الجلاد؟
نحتاج اليوم إلى عمل جاد يعطي الحقوق لأصحابها، يعيد المهجرين إلى أراضهم، يبني بيوتهم التي دمرتها حرب الأسد وحرب الفصائل والميليشيات والجيوش العابرة، ويطرح السلام في نفوس من فقدوا فلذات أكبادهم.
السلم الأهلي يا أعزائي لا يتحقق بمشاريع تعدّ من أبراجكم العاجيّة، ولا بمواد تكتبونها لا يقرأها إلا من كتبها لتضاف كلينك في تقرير التنفيذ المقدم للجهة الممولة.
السلم الأهلي والحوار لابد أن يكون سلة إضافية مع سلال ديمستورا الأربع سيئة الذكر، وأن يكون مساراً موازياً لعملية سياسية متكاملة تنهي المأساة السياسية وتضع البلاد على طريق الحل الأخير المرجو، والعودة إلى الحياة، نقطة ومن أول السطر
*ليفانت نيوز