مروان عبد الرزاق: «موت صغير».. ابن عربي بين ترحال الحبّ والعقاب وغياب التصوّف

0

الشيخ الأكبر، وسلطان العارفين، محيي الدين بن عربي 1164-1240، في سطور الروائي السعودي محمد حسن علوان في روايته «موت صغير»، التي حازت البوكر في 2017، نظراً للغتها المحبوكة والسهلة، ولاختيارها موضوعاً تاريخياً فريداً، وهو حياة الفيلسوف الصوفي الإنسان ابن عربي، رغم الجدل الكبير حوله بين أتباعه والداعين لتكفيره مثل ابن تيمية، وابن خلدون، والوهابية، وكل حاملي الفكر التوحيدي.
وقد أراد الروائي أن ينزع الحالة الأسطورية التي يتعامل بها البشر مع ابن عربي، ويكشف الغطاء عن إنسانيته، وتفاصيله المليئة بالعشق واللذة، والحزن والوجدان، والحب الإلهي والحياة والموت. فهو يشرب الخمر ويقلق، ويحتار ويخطئ ويمرض، ويُسجن ويشعر بلذة الحرية، ويشعر بالغيرة في العشق، وهو عاشق أولاً وأخيراً. فهو ليس بالملاك النقي، وليس بالشيطان الشرير أيضاً. وفي ترحاله المستمر تمت كتابة تصوراته وحياته في رحلته إلى الله. والراوي هو ابن عربي، الذي يُنشد في البداية «يا إلهي أحببتك وحدك». وأنه رأى «برزخين: برزخ قبل ولادتي، ورأيت أمي يوم ولادتي، وفي الثاني، رأيت ابني وهو يدفنني»، وكانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها بالولادة. «فالوجود كله سفر في سفر، ومن ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم». ولذلك كانت البارقة من «فاطمة» مربيته، بأنه ليس مثل أبيه، وأن عليه «أن طهر قلبك، ثم اتبعه، وعندها فقط يجدك وتدك»، والأوتاد يعرفونك، وهم أربعة الذين يحفظون الأرض من السوء، إذا أردت أن تكون ولياً بإذن الله.
وابتدأ رحلته من مرسيه إلى إشبيلية، حيث حدثت المجاعة، وكان المرابطون والموحدون يتصارعون على الحكم، وكانت كراهية الناس للخليفة كبيرة فهو «ذئب خسيس»، لأنه كان متحالفاً مع ألفونسو زعيم الإسبان، ثم انتقل إلى قرطبة، وأرسله والده إلى عميد الفقهاء «أبي بكر الخلف»، لدراسة القرآن والحديث والتفسير والفلسفة، ودرس مع الشيخ في الخلوة «رسالة القشيري»، وتزوج مريم وكانت «أديبة وخلوقة، وعالمة وجميلة» وأنجبت له زينب، وعمل في قصر الخليفة، وقابل ابن رشد، وقال له: «إن الفلسفة لا تكشف غيباً، ولا قانون في الكون إلا إرادة الله»، وتحدث مع الخليفة عن العقل والفقهاء والمتصوفة، وبأنه «إذا ركنت للفقهاء عطلوا عقلك، وإذا ركنت للفلاسفة عطلوا قلبك، وإذا ركنت للأولياء جعلوا قلبك وعقلك تحت نور الله المبين»، لأنه من المتصــــوفة. وتم إحراق كتب ابن رشد وسجنه لمدة ثلاث سنوات، لأن الفقهاء اعتبروه كافراً، وعند خروجه من السجن، قال للخليفة «إن تعفو عني في الدنيا، فلا أعفو عنك في الآخرة»، واستقبله أهل قرطبة جميعهم لدفنه بعد أسبوعين، والحزن يغطي المدينة.
وشعر «بأن غمامة سوداء أتت على شمسه»، وأنه اعتاد على طعام القصر، وامتلاء الجيب، ولذة جسد مريـــم، وشرب الخمـــر والرقص، وأشعار هوميروس، إلى أن حصـــل على «جذبة الصوفــــــية» الأولى، وهو مخمور. وتفسيره أنه «بالإيمان المتصل، والمعصـية المتقطعة»، يمكن لله أن يغفر لك إذا قبضك الله مع الإيمان، وتكون خاتمتك حسنة. فـ»كل ورعٍ مقصور على أمر دون أمر لا يُعّولْ عليه». وهذا غير ملائم للمؤمن ولي الله. فقرر الذهاب إلى المقبرة كل يوم، كي يُطهر قلبه، إلى أن أوجده الشيخ يوسف الكومي، «وتده الأول»، ونصحه في الذهاب إلى افريقيا لوتده الثاني، حتى يثبت قلبه.

2

في مكة وجد الحج والمعرفة. والشيخ الخياطي وتده الثاني. وكيف جاءت زوجته إليه من الأندلس ومعها زينب التي توفيت في الطريق، وحين دفنها بيديه حزن بشدة عليها، وعادت مريم إلى بيت أهلها في بجاية، التي توفيت هناك، والتي «خرجت من قلبه بدون وداع»، و»هكذا أرادت مكة». والحقيقة كما أراد ابن عربي لأنه التقى بنظام، بدون أن يأخذ بعين الاعتبار حبه لمريم، وكيف أجبرها على البقاء في بيت أهلها مع رغبتها بالسفر معه، والأثر المدمر لوفاة ابنتهما وهي في حضن أمها، وشعور مريم بأنها أقل أهمية من أوتاده، لذلك قررت السفر وتركه من غير وداع، إنه كنس مريم من قلبه لأجل نظام، كما تشير «مها بنسعيد». وأيضاً التقى بعشقه الأكبر إلى «نظام» بنت الشيخ زاهر الأصفهاني، التي عشقته أيضاً، وكان يقضي معها الأماسي برفقة عمتها «فخر» أو بدونها، في أحضانها وهو يذوب في عشقها، ورحيق الأزهار من شفتيها. وهي «امرأة قُدّت من رحيق الأزهار»، و»عين الشمس والبهاء»، وكانت العشق «كاللبلابة التي تلتف على شجرة العنب»، وهي عالمة وعابدة وذكية. وحين طلبها للزواج رفضت، وقرر بعدها السفر إلى دمشق. وبدافع الحنين والاشتياق كتب لها «ترجمان الأشواق» في دمشق – كما يقول الروائي لؤي عبد الإله، وليس في مكة كما ذكر الروائي – غزلاً في عينيها وشفتيها وجسدها الذي يتمايل عشقاً ولذة وغراماً، يحلق به إلى السماء. وحين عاتبه صديقه الشيخ زاهر بأنهم مرغمون على السفر بسبب ديوانه الغزلي بابنته، قرر أن يكتب شرحاً لـ»ترجمان الأشواق» بأن القصائد ليس محض غزل وتشبيب في «نظام»، إنما كان «إيماءً ورمزاً من الواردات الإلهية، والنزلات الروحية، والمناسبات العلوية»، وأن «الحب سر إلهي»، ولم يتوقف عن الارتجاف مثل قط أعمى، لأنه قام بإذلال زاهر بالتشبب بابنته. وحين سافر إلى بغداد، ووجد الشيخ زاهر، وابنته في مكان للعزلة والخلوة، وحين طلبها ثانية للزواج رفضت ذلك لأنها «وتده الثالث، والأوتاد يتزوجون الأرض ياحبيبي».

وحين عودته إلى القاهرة يقوم الملك بسجنه استجابة لرأي الفقهاء والعوام، بأنه يخالف تعاليم الدين، إذ «كيف يفهم العامة أن فرعون مؤمن، وأن الله والوجود واحد؟ وأن الألوهية تسري في جميع المعبودات حتى الأوثان». وتم الإفراج عنه بواسطة الشيخ «أبو الحسن البجائي» الذي يخرج من قبره ويشفع له، على أن لا يخالف الشرع، وأنه هو وتده الثاني وليس الخياط، وأوصاه بأن يطهر قلبه. اقتنع أن «الحب موت صغير» و»الإنسان عالم صغير.. والعالم إنسان كبير»، «وكل حب يكون معه طلب لا يُعّول عليه»، «وكل شوق يسكن باللقاء لا يُعّول عليه»، وهذا كلام غاضب لرجل طلب الزواج منها مرتين وتم رفضه. وبالتالي عنوان الرواية رد فعل غاضب على الحب الفاشل لنظام، الذي اعتبر «كل حب يزول ليس بحب». وكيف ذلك وقد سعى للحب من جديد، حين رأى في منامه تنوراً مشتعلاً ووجد نفسه في داخله بدون أن يحرقه. فتزوج فاطمة التي انجبت له «عماد الدين» وكانت «حنطية البشرة، وشعرها طويل كأنه ليل العاشق»، ثم تركها لزوجها الذي كان أسيراً في بلاد الروم، ولأنها لم تبادله مشاعر الحب نفسه. وتزوج صفية التي أنجبت له سعد الدين الذي واراه الثرى يوم مماته، كما رأى في البرزخ الثاني، بعد جهد كبير كان يبذله كعامل يقطف الزرع في مزرعة لكي يؤمن لعياله قوت يومهم. ويبقى السؤال: أين هو الحب الكبير الذي يسعى إليه، طالما يتمتع بالصغير حتى وفاته؟ هل حب الله يوم القيامة؟ وكيف يلقاه في الدنيا؟ تلك أسئلة لم تتم الإجابة عليها. فهل سيبقى شارداً، متأملاً، عاشقاً، كما هو في غلاف الرواية، ووجهه إلى السماء الذي صممه سومر كواكبي؟ أم أنه حين يصبح «الغوث»، أو «القطب» الذي يكتشف الذات الإلهية، والذي يعلم صفات الله، خاصة حين ترك بن عربي بغلته تسير على هواها إلى أن أوصلته إلى وتده الرابع، وهو الشيخ شمس التبريزي الذي كان يقرأ الكفّ، وأوصاه بالحب، وبالحب يتطهر القلب، وتتطهر الروح بالزهد، وبالصيام يتطهر الجسد. وما هي العلاقة بين الموت الصغير الممارس يومياً، والموت الأكبر الذي يسعى إليه ابن عربي؟

3

هي رواية تاريخية تبحث في السيرة الإنسانية لابن عربي، وليس السيرة الروحية والصوفية، لأننا لم نجد في الرواية طريقته وأفكاره في التصوف، سوى ذهابه إلى المقبرة لعدة أسابيع من أجل تطهير القلب، وكان من الأفضل تزويدنا بلمحات من طريقته الصوفية عامة وبـ«الأكبرية» التي يمارسها أتباعه. ولماذا لم تشبه الرواية «قواعد العشق الأربعون» في تفاصيلها عن شخصية الرواية؟ أو غيرها من الروايات التاريخية، رغم أهمية الرواية بأنها أفرزت لنا شخصية ابن عربي الإنسان، مثل زوربا. وهي رواية سهلة اللغة المحكمة، لغة تراثية ممتعة، تجعل «النص الذي ينحدر من الثقافة فلا يُحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة»، بتعبير رولان بارت، وهنا تكمن اللذة في القراءة. وفيها قدرة تصويرية شاعرية لكل الأماكن والمسالك، في الأندلس والصراع بين الموحدين والمرابطين، أو عند الأيوبيين، والعباسيين والسلاجقة، والحروب والفتن التي عاصرتهم. وكيف استفاد من الخلفاء، بالعمل عندهم، وكيف خالفهم، مع فقهائهم الذين يبثون كراهية للمتصوفة، «وما نقموا منا إلا لحبنا الإلهي، وعجزت عقولهم عن إدراك الباطن فأخذوا بالظاهر» الذي لن يفيدهم بشيء. وأصبح ابن عربي مشرداً آخر العمر يلتقط رزقه كعامل في مزرعة وهو في السبعين من عمره. وأيضا تصوير للبنية النفسية لأشخاص الرواية وإخفاقاتهم وفرحهم، وشوق ابن عربي للأوتاد التي تشكل الحبكة الرئيسة للرواية، التي ترتسم منذ وصية فاطمة بأن يطهر قلبه. والسرد المتقطع مفيد حتى يتخلص القارئ من الملل والروتين، خاصة عندما يتصدر الفصول قول لابن عربي فيه حكمة ما. لكنه جعل الرواية في مئة فصل، وكل الفصول ليس في صدارتها حكمة، إنما كلام عادي، يثير الاستغراب، ويبعث ذلك على التشتت، وعدم اللذة في القراءة. وسأنضم إلى القراء القائلين بأن المخطوطات حتى «2012» ليست ضرورية، حتى لو كان الهدف جعل الرواية أطول، وهذا غير محبب. وكان من الأفضل الإبقاء على الأحد عشر قسماً، مع بعض الفصول التي تعبر عن صوفية ابن عربي.

٭ المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here