مرتكزات الانتقال إلى الجمهورية السورية الثالثة (*)

0

د. عبد الله تركماني

كاتب وباحث سوري

أوراق العدد 12

الدراسات

لئن تمكّن نظام البعث من تأسيس جزء من شرعيته على عوامل فوق وطنية، فلقد تمكّن من تفتيت آليات وبنى الولاء الوطني بشكل يولد حالياً حالة من الفراغ وافتقاد الزعامة بشكل خطير. ومع دخول الصدام مرحلة الاستعصاء الراهنة ووصولنا إلى مرحلة توزان الضعف، يستمر المجتمع السوري في تقديم التضحيات الجسيمة، وليصبح التحدي الأكبر الذي سيواجه الجمهورية الثالثة هو كيفية نقل السلطة ومفاتيحها إلى شرعية دستورية ديمقراطية.

لقد عبّرت الثورة عن رغبة أصيلة لدى أوسع قوى الشعب في إقامة جمهورية سورية ثالثة، والانتقال بالبلاد من عهد ” الشرعية الثورية ” إلى ” الشرعية الدستورية ” القائمة على الحكم المدني الديمقراطي. لكنّ الإشكال أنه في غياب أي مستوى مقبول من القيادة السياسية واللوجستية، بل وغياب الحد الأدنى المقبول للقيادة العسكرية، يصبح السؤال الأساسي: كيف يمكن إعادة توليد عقد اجتماعي سياسي جديد يكفل تحويل حالة الفوضى الراهنة إلى عملية بناء لشرعية لا تقوم على تعسف منطق الصراع بل على توافقات منطق العقد الوطني.

فما هي مآلات الجمهورية السورية على صعيد الدولة والمجتمع؟ وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا؟ وهل مازال ثمة أمل يرجى من استمرار هذه الجمهورية؟ وما هي الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين الجدد؟

1- لا تتطور المجتمعات إلا في كنف الدولة [1]

لا سبيل للجماعات لكي تتقدم وتنتج وتراكم وتنظِّم كيانها الداخلي إلا بأن تتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي. وتتفاوت الدول في درجة قيمتها وتطور نظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكوِّنها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات.

وفي سياق الدولة لا تكتمل السيادة الوطنية من دون تمتُّع كافة المواطنين بالحريات غير المنقوصة: حرية الرأي والتعبير، حرية التجارة والتنقل، حرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية. أي لابد أن تتأصل الديمقراطية في مفاصل الحياة السياسية، بحيث لا تبقى مجرد آلية لانتخابات شكلية، وبالتالي توظف لخدمة الفئات الحاكمة. كما أنّ ممارسة السيادة الوطنية، من قبل سلطة الدولة الحاكمة، تستدعي وجوب وجود معارضة سلمية منافسة تضبط الحكم، من خلال تطلعها للحكم مستقبلاً، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية.

وهكذا، فإنّ السيادة الوطنية تتحدد بمدى احترام سلطة الدولة لحقوق المواطنين، وضرورة إشعار الفرد بأنّ الدولة هي الحصن لحمايته، وهي بناء مستقبل زاهٍ لأبناء الوطن كلهم دون استثناء، وما من عوائق دون ترقية الاندماج الوطني، بما يقتضيه من جهود فكرية وسياسية واجتماعية وقانونية كبيرة.

على أنّ ترسيخ قيم المواطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، أصبحت من واجبات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، هذه القيم التي يأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها، وبكيفية تشكيل القرارات السياسية، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبنظم الحكم العالمية، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفية المشاركة في الانتخابات، وتشكُّل المجالس النيابية، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية، وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون. هذه الدولة، التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها ستشكل الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة وقوتها من جهة، وترسيخ القيم الإنسانية لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.

والنتيجة إنّ قابلية الدولة لاستعادة دورها التوحيدي في سورية لا تزال قائمة ومطلوبة، وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني، بمختلف فئاته وفعالياته، ليمارس دوره في حماية الوحدة والتلاحم.

2- الانتقال من الثورة إلى الدولة

على الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته من هيئات وتجمعات تولت إدارتها، باختلاف الآليات والأدوات والأشخاص وسطوة متغيرات الظرف الإقليمي والدولي، إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم، والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، والمتمثل اليوم بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها.

وإن كان الانتقال من الحالة الثورية إلى فكر الدولة يحتاج إلى مجموعة خطوات وآليات، فإنّ إيجاد رجالات دولة حقيقيين في مختلف المجالات، يعون أهمية وخطورة المرحلة وحجم التحديات والمسؤوليات التي ستفرزها، هو أساس هذا الانتقال والأرضية والحامل الأهم.

وأثناء البحث والإعداد لتلك القيادات لابد من مراعاة مجموعة عوامل لا يمكن تجاوزها نتيجة خصوصية الوضع السوري، ولعل أبرزها [2]:

أ – كف البحث عن القائد الرمز، والتوجه لبناء المؤسسات، التي تمثل التجربة الأقرب للثورة السورية والأكثر واقعية، وهي القادرة على إنتاج قادة والحفاظ على عامل الديمومة وقطع الطريق بوجه أي استئثار بالسلطة وإعادة إنتاج دكتاتوريات.

ب – إنّ إغفال مفهوم القائد الرمز لا يعني إنهاء مفهوم القيادة، والذي يؤمّن بالدرجة الأولى وحدة واتساق القرار.

ج – إنّ من أهم شروط ومواصفات أولئك القادة المرتقبين تشرّبهم وإيمانهم بالفكر المؤسساتي، وليس الفكر الوصولي السلطوي، ما يجعل معيار الكفاءة والأداء هو الأساس في اختيارهم.

د – لابدَّ أن تتمتع تلك القيادات بهامش حر دون أي قيود أيديولوجية، وذلك لقراءة الواقع والالتزام بمعطياته والاشتقاق منه.  

إنّ تحقيق الانتقال إلى وظائف وممارسات الدولة لا يعني أبداً إلغاء فكرة الثورة أو تهميشها أو التنازل عن أهدافها، فالثورة بمعناها الوظيفي حالة مستمرة ومتجددة، وإنما المقصود به تشذيب الفكرة الثورية وتدعيمها عبر دمجها بمؤسسات الدولة وتحويل الثورة إلى فكرة وبوصلة، أي الإبقاء على الحالة الثورية كموجه للعمل وتحويل الآليات إلى صيغة مؤسساتية تؤدي وظائف الدولة.

3- في الوطنية السورية الجامعة [3]

منذ بدء الثورة، ومع تصاعد العنف المحض الذي بدأته سلطة آل الأسد، باتت أغلب المكوّنات السورية تستشعر نفسها كجماعات وهويات عابرة للكيان، وتتخيل نفسها أقرب الى دول ومجتمعات خارج بلادها، أكثر مما تستشعر قرباً وتماهياً مع المكوّنات الوطنية ضمن الكيان السوري. مما أدى إلى تداعي الإطار الوطني للصراع لمصلحة الانتماءات الفرعية، ما دون الدولة الوطنية الجامعة. ولا شك أنّ سلطة آل الأسد كانت الرائدة في تحطيم الإطار الوطني للصراع، كما أنّ ظاهرة الأسلمة المتطرفة للثورة، خاصة مع وجود الجهاديين الأجانب، تركت آثاراً على انهيار الإطار الوطني تدريجياً.

ويتعدى انهيار الإطار الوطني النطاق السياسي والجغرافي إلى النطاق الزمني أيضاً، إذ لدينا من يعيشون زمناً أصولياً لا يتغير، يستعيدون فيه بواكير الإسلام المفترضة، ومن يعيشون زمن سلطة آل الأسد ” الأسد أو نحرق البلد “، ومن تنشدّ أنظارهم إلى الوطنية السورية الجامعة.

ونرى أنّ خيار الوطنية الجامعة يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة تحديات المستقبل، إذ إنّ التفكير في المعطيات الراهنة يقتضي التأسيس لتصور جديد لهذه الوطنية، يقوم على النظر إلى المكوّنات السورية المختلفة كمكوّنات تأسيسية متساوية الحقوق والواجبات، ويؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، ويسهم في تكوّنهم كمواطنين أحرار متساوين.

4- في الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد

في ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الأرحب. وبطبيعة الحال، ليس المدخل إلى ذلك مشروع ” الفدرالية الكردية ” في شمال سورية وشرقها، ومشروع ” سورية المفيدة ” في غربها. مثل هذه المشاريع، لن تؤول، في ظل الأوضاع الراهنة، إلى قيام دولة فدرالية في سورية، بل سوف تنتهي – غالباً – إلى العصف بالكيان الوطني القائم، حيث كان لخرائط القتال المتغيرة، على مدى أكثر من تسعة أعوام، وخرائط المجازر والتغيير الديموغرافي، الدور الأساس في رسم الحدود، وفقاً للهُويات الطائفية والإثنية.

وبعد انهيار الدولة الشمولية لا بدَّ من إعادة تأسيس النظام السياسي بدءاً من القاعدة، وإعادة تأسيس قيم الديموقراطية بدءاً من مشاركة كل مواطن في تحديد القرارات المباشرة التي تمسه على الصعيد المحلي، بانتظار أن تولّد العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قوى سياسية واجتماعية جامعة، تستطيع توليد مجتمعاً مدنياً قوياً وأحزاباً سياسية قوية وقيادات وزعامات، يمنحها المجتمع قدراً كافٍ من الثقة والسلطة. فما سقط في سورية هو قيم الشمولية الجامعة، وما يجب أن يرتفع فيها هو روح التوافق الطوعي، المستند إلى المصالح العملية للناس ولقيمهم الثقافية والوطنية المشتركة.

من خلال هذا التحليل لا يمكننا أن نتصور سورية دولة موحدة، إلا من خلال بناء دولة تتمتع فيها مختلف المحافظات والمناطق بقدر كبير جداً من اللامركزية الإدارية الموسّعة، على أساس جغرافي وليس قوميًا أو طائفيًا. بحيث يمكن التفكير لاحقاً في تعزيز طوعي للوحدة الوطنية السورية والبنية الوطنية الموحدة، من خلال الاندماج الطوعي لكل مكوناته. فلقد انتهى زمن الفرض والقمع والاستبداد العقائدي لكل الهويات الفرعية للمواطنة السورية.

لذلك فإننا نعتقد أنّ شكل أي مخرج للأزمة يجب أن يتأسس – بالضرورة – على هذه الحقائق المؤسسة على الطوعية وتعدد الهويات والدولة اللامركزية الإدارية، ولابد من بنية وطنية سورية تستند إلى دولة تتمتع بقدر كبير من اللامركزية كأساس إداري، تتمكن فيها كل شرائح ومكونات الشعب من إعادة بناء هيكليتها الإدارية المحلية واقتصادها وأمنها وكل بنيتها على أساس محلي، لتنتسب طوعاً ومصلحياً للوطن السوري، ومن خلال تنميتها ونموها في الإطار الوطني.

5- أسئلة برسم المستقبل

تطرح الثورة السورية في متغيراتها الكثيرة سؤال الدولة بشكل رئيسي، فما من شك أنّ الدولة كما عرفناها بعد الاستقلال، ودولة البعث، لم تعد قادرة على توليد شرعية الحكم، أو تلبية مطالب الشعب، والأهم من ذلك، أنّ الثورة نفسها، كشفت طبيعة الخلل في العقد الاجتماعي والسياسي السوري، واختراقه من قبل بنى تعود إلى ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، فقد طفت على السطح نزعات قبلية، ودينية، ومناطقية، وقومية، ولا يمكن بأي حال الاكتفاء بإدانة هذه النزعات، فما هو مهم دوماً، معرفة مدى قدرة المجتمع على رأب الصدوع؟ وما هي الأشكال المؤسساتية والإدارية القادرة على توليد عقد اجتماعي وسياسي جديد، وبناء المفهوم الوطني على أسس جديدة؟ وأن تكون الأشكال الجديدة كفيلة بإنتاج مستوى مختلف من العلاقات بين مكونات الشعب السوري، على تنوعها واختلافها، وأن يكون هذا المستوى الجديد، مؤهلاً لإنتاج الدولة ككل.

إنّ طرح اللامركزية الإدارية الموسّعة يمكن أن يلبي طموحات التنوع السوري في لوحته الفسيفسائية، ويمكن أن يشكل رافعة للجمهورية السورية الثالثة [4]، كما أنه يعيد مسألة انبثاق الشرعية وتطورها إلى المستويات المحلية، بعد أن أصبح من الصعوبة بمكان توليد منظومة مركزية للشرعية، مع وجود خلاف فكري حاد في مرجعيات القوى الثورية سياسية كانت أم عسكرية.

6- نحو الجمهورية السورية الثالثة

بعد أن عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية‏،‏ التي تخبّط في أوحالها وظلماتها أكثر من 50 سنة‏،‏ ويعود حرّاً كما ولدته أمهاته‏.‏ فما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لابدَّ من إدارته؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحوّل؟ وهل يمكن لثقافة بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟

والسؤال الرئيسي هو: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟ [5].

لا شك أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.

إنّ سورية أحوج ما تكون إلى الدولة الديمقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي. هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي.

ولعلَّ مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إنّ التقدم الشامل لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التغيير السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتّع فعال بالحريات السياسية والفكرية. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها.

ومن غير الممكن تصوّر سورية لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. إنّ الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من مجتمعها المدني، وليد مفاهيم السياسة المدنية والعقد الاجتماعي، تكون هشة وضعيفة مهما ادّعت القوة.

وفي كل الأحوال، وطالما أنّ كرامة وحرية الإنسان هي التي تشكل أساس تطور أي مجتمع، فإنّ الرقابة المُمَأسسة، التي تمكّن من وضع الإنسان السوري المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق الانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية بأقل الخسائر، واستئصال شأفة العنف من العلاقات الاجتماعية والسياسية.

إنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية. وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوّناتها المتنوعة.

والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة. ففي المرحلة الجديدة لن يقبل السوريون بعدم المشاركة في صياغة مستقبلهم، بل سيتصرفون انطلاقاً من حقهم الطبيعي في الكرامة والعدالة والمساواة التامة في وطنهم. وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكاً لجميع مكوّناته وليس لفرد أو حزب أو أقلية.

وفي سياق الثورة السورية من أجل التغيير فإنّ القوى الحقيقية، التي نزلت إلى الشارع وقدمت الشهداء من أجل الحرية وإعادة الكرامة للشعب، بلغت بسقف مطالبها ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، مع المطالبة بمحاكمة رأس السلطة ومسؤولي الأجهزة الأمنية وقادة الشبيحة. وهي تتبنى، بشكل واضح، تصوراً مستقبلياً لسورية: ديمقراطية، مدنية، دولة كل مواطنيها، ودولة قانون وحريات عامة وفردية تنبذ العنف والطائفية.

خاتمة

إنّ أهم ما يواجه عملية التحول الديمقراطي في سورية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية، بما يؤدي إلى رفع الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل – إنسانياً وقانونياً – مع الماضي بطريقة تجنّب المجتمع السوري ردود الفعل بالانتقام أو الثأر أو الكيدية، أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة.

ولكي يتم تسهيل مهمات المحاسبة يمكن تشكيل هيئة عليا مستقلة للحقيقة لكشف الانتهاكات في الماضي وخلال الثورة، بحيث تضم ممثلين عن جميع القطاعات والحقول القضائية والقانونية والإعلامية والأكاديمية والأمنية والعسكرية والصحية والنفسية، إضافة إلى ممثلين عن منظمات المجتمع المدني، ويكون لهذه الهيئة شخصية اعتبارية ومعنوية وضمان استقلالها المالي والإداري، ويتم ذلك قانوناً بحيث تحال إليها جميع الملفات، ذات العلاقة بالمجازر واجتياح المدن وقصفها بالصواريخ والبراميل المتفجرة والاغتيالات أو التعذيب أو السجن أو جرائم الفساد أو غيرها.

إنّ المصالحة الوطنية لا تعني النسيان وإنما إلغاء الثأر والانتقام عبر اللجوء إلى القضاء، وذلك يعني أنه لا بدَّ من أن يقبل كل السوريين، من يشعر أنه كان ضحية للنظام ومن يخاف أن يكون أحد ضحايا التغيير، بأنّ سورية المستقبل قادرة على حمايتهم جميعاً وأن تؤمّن لهم مستقبلاً أفضل. وهنا لا بدَّ من التشديد على مبدأ ربح الجميع، بمعنى أنّ المسؤولين الحاليين الذين سيصبحون سابقين، ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب السوري وبالفساد العام، يتوجب عليهم إدراك أنّ تفاوضهم بشأن التحول الديمقراطي هو ضمانة لعدم تعرضهم للمساءلة في المستقبل. كما أنّ على الضحايا السوريين أن يدركوا أنّ مستقبل سورية يتعلق بمدى قدرتهم على تجاوز الماضي من أجل الشراكة في سورية المستقبل، وهذا لن يتم بالطبع إلا عبر المفاوضات المشتركة من أجل وضع خريطة طريق للانتقال الديمقراطي.

(*) – راجع كتابي الجديد ” أنماط من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث “، الصادر عن دار “إي – كتب” في لندن.


[1] – د. عبدالله تركماني، مقدمات ربيع الثورات العربية ومآلاته، دار نون – غازي عينتاب، تركيا 2017.

[2] – ساشا العلو، إعادة إدارة الفكر الثوري بمنطق دولتي، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية – 22 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

[3] – د. عبدالله تركماني، في الوطنية السورية الجامعة – صحيفة ” جيرون ” الإلكترونية 31 تموز/يوليو 2016.

[4] – د. عبدالله تركماني، اللامركزية الموسّعة لسورية المستقبل، محاضرة في إطار ندوة ” منتدى هنانو/مركز حرمون للدراسات المعاصرة ” حول ” العلاقات العربية – الكردية خلال الثورة ” – غازي عينتاب في 9 كانون الثاني/يناير 2017.

[5] – د. عبدالله تركماني، أسئلة الانتقال السياسي في سورية – صحيفة ” جيرون ” الإلكترونية – 6 شباط/فبراير 2017.