يوسف المحيميد، روائي وقاص وإعلامي من السعودية
أوراق 19- 20
الملف
لم يكن نوفمبر ٢٠٠٧ عاما عاديّا وأنا أحط لأول وآخر مرة في الأرض السورية، حيث تلقيت الدعوة للمشاركة في مهرجان الأديب الكبير الراحل الدكتور عبدالسلام العجيلي الثالث للرواية العربية.
لا أعرف إن كنت متوهما أو أن رائحة الياسمين كانت تهبط من الشرفات أينما ذهبت، كما كانت في قصائد نزار قباني الذي تربيت عليها في المرحلة الثانوية، في الفندق الصغير الذي أقمنا فيه لليلة ودعتني الصديقة الروائية الفلسطينية نعمة خالد، وقد عرفتها في ملتقى القاهرة الدولي الثالث للإبداع الروائي، تمنَّت لي رحلة سعيدة قبل أن ننطلق نحو الشمال السوري، حيث مدينة الرقَّة الوادعة، الساكنة على ضفة الفرات، حيث كان الطريق طويلاً وحميما، كأننا نسير في جنة صغيرة من الأشجار، والنهر يلحق بنا، أو ربما نحن من يلحق به.
كانت سيارة الميكروباص التي تحملنا، والمحطة التي تزودنا منها بـ “المازوت”، والباعة الصغار الذين يفوقون أعمارهم، تجعلني أشك أنني مررت من هنا ذات زمن، وتجعلني أضع يدي على قلبي لوهلة، ويأخذني الحديث مع رفاق الرحلة والمهرجان، عمر قدور، وروزا ياسين حسن، وخيري الذهبي، وعبدالله أبو هيف، ووجدان الصايغ وغيرهم.
كنت أقول لمن يجاورني في الميكروباص، أنني كنت هنا، لا أعرف متى، لكنني متأكد أنني – بصورة أو أخرى – كنت هنا، لقد تأكد لي ذلك حينما انطلقت فرقة الرقّة الشعبية، بلبسها التقليدي الجميل ورقصها الاستعراضي، وهم يترنمون بـ “هجينية” نعرفها جيدًا في نجد، لتشدّني من تلابيبي إلى طفولتي البعيدة في الرياض: “هبَّت هبوب الشمال وبردها شيني، ما تدفي النار لو حنا شعلناها” نبرة الرجل الضاربة في الحزن، ورنَّة المرأة التي تجرح ذاكرتي، لتحلِّق أمي في فضاء المسرح: “ما يدفي إلا حب مريوشة العيني، إلى عطشنا شربنا من ثناياها”، هنا التفتُ إلى عمر قدور هامسا، ألم أقل لك أنني جئت هنا في زمن ما.
كانت الرقة والشمال السوري الحزين جزءا من ذاكرة أمي وأسلافي، كم داهمتني غيمة حزن وأنا أردد معهم تلك الهجينية، بينما تتأهب دمعة خجلى في عيني، ذاك الدمع الذي سيتدفق بسخاء حين يخطف تنظيم “داعش” تلك المدينة الناعمة، النائمة بخفر.
حينما أستعيد تلك الأيام البعيدة، وقت أن استضافنا أحد شيوخ قبائل الرقّة في خيمة ضخمة جدا، والشباب النشامى الذين يحملون الصحون وقد شمَّروا عن أذرعهم، وأصوات الترحيب والكرم والرجولة، أتوقف ذاهلاً، كيف لهذه المدينة المدهشة، بتاريخها وتراثها وشعبها العظيم أن تقع في أيدي ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”؟ كيف لهذه المدينة الخالدة، مدينة الفنون والإبداع، أن تُطمر فجأة لتصبح عاصمة الدولة الإرهابية؟ كيف؟
حينما كتبت شهادة بعنوان “ليل الأساطير في طفولتي”، وألقيتها في المهرجان، بصوت مبحوح ذات مساء ناعم، لم أكن أظن وقتها، حتى لو ظنّا، أنني بعد بضع سنوات، سأتابع في القنوات الفضائية، ليل الظلام في الرقّة، واحتلالها من قبل تنظيم إرهابي، سيقف زعيمه أبو بكر البغدادي على المنبر، يخطب في الناس، ويبشِّرهم بجاهلية في الألفية الثالثة، ترعبهم فيها جزُّ الرؤوس وتصويرها…
لم أظن أن هؤلاء الناس الطيبين سيغادرون الرقة، مدينة الرقة والحلم والذكريات، هاربين بأرواحهم وعائلاتهم بحثا عن أرض آمنة.