مديح الاختلاف أم سيادة الصوت الواحد: “الخطاب السوري بعد الثورة”

0

أنور بدر، رئيس التحرير

مجلة أوراق – العدد 14

افتتاحية العدد

الخطابُ السّوريّ في كل أشكاله المتداولة، هو منتج تاريخي بمعنى ارتباطه بالزمن والمتغيرات الطارئة في المجتمع، كأي خطاب آخر في كل المجتمعات البشرية، جاء كمحصلة أو انعكاس لمجموع قيم وثقافة المجتمع بكل تلاوينها وتعدديّاتها، السياسيّة والحضاريّة على مرّ العصور، بحيث يمكن القول أنّه محصلة تراكمية ومتطورة باستمرار.

غير أنّ الخطاب السوري بعد عقد انتفاضات الربيع العربي، كان وما يزال، مربكاً بإرث النصف قرن الأخير من ديكتاتورية الحزب الواحد والقائد الواحد والخطاب الواحد، الذي ساد منذ انقلاب 1963، إذ سعى حزب البعث إلى جَبّ ما قبله وتدّجين كل شيء تحت مظلته الأيديولوجية، باعتبارنا شعب متجانس بهوية قومية ونظام اشتراكي وديمقراطية شعبية تنكر كل منظومة حقوق الإنسان ومفهوم المواطنة، وحق الأفراد بالمشاركة في بناء أو إعادة تشكيل المجالين العام والسياسي في مجتمعهم وتطوير ممكنات الحياة لديهم.

*****

في سنوات دراستي الأولى، طالما استفزني ترديد الشعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، والذي رافقنا حتى الانتهاء من المرحلة الثانوية، حيث امتلكت بعدها الجرأة للسؤال عن ماهية الرسالة الخالدة، دون الحصول على أي جواب ذي قيمة معرفية، خارج لغو الأيديولوجيا، وبشكل خاص عندما تَعرف أن هذا الحزب لم يحقق شيئا من أهدافه المعلنة “وحدة * حرية * اشتراكية”، إذ اشّتغلَ بدأبٍ خلال خمسة عقود بعكس هذه الأهداف.

وفي مرحلة لاحقة قرأت كتاب “مديح الاختلاف” للمؤلف ألبير جاكار، حين نقله عن الفرنسية الصديق الدكتور إياس حسن، والذي يبحث في موضوع الأعراق البشرية ونظم التوريث في المجتمعات، لكنه استعادني من خارج السياق، وربما بقوة العنوان، إلى سؤال ثقافتنا وخطابنا الذي يُصرّ على رفض الاختلاف، كقيمة ترقى إلى مستوى الشعار، وتحديداً في ايديولوجية “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي يحكم دولة ديكتاتورية سار بها باتجاهات شمولية/ توتاليتارية، كرّست في إنجازاتها مفهوم أو مصطلح “القائد الخالد”.

هذا القائد الخالد بعدما استتب له الأمر، ومن منطق الخلود والأبدية المتوالد في شعارات هذا النظام، القائد الخالد حتى بعد موته، والخالد في  وريثه الابن، طرح شعار “قائدنا إلى الأبد حافظ أسد”، ثم قام بتهميش الحزب والأيديولوجيا التي أنتجته، عبر عملية قتل رمزية تستحضر قتل الأب في الميثولوجيا الإغريقية، حين استبّدَلَ الحزب وأيديولوجيته معاً بذاته كدلالة وطنية، حيث أصبح الانتماء له والإيمان به هو معيار الوطنية وليس الانتماء للوطن أو الدفاع عنه، وعلية تحولت كل المؤسسات والمهام الوطنية إلى مؤسسات ومهام عقائدية، وأي مساس بالدلالة الوطنية للأب القائد أو محاولة تجاوزها تعتبر خيانة وطنية، يحاسب عليها القانون الذي شكل أحد استطالات الأب القائد باعتباره رئيس مجلس القضاء الأعلى وفق دستور 1973، وتمّ تكريس ذلك لصالح الوريث الجديد في المادة 132 من دستور 2012، بل منح ذاته كرئيس للجمهورية صفة الضامن دستوريا لاستقلال السلطة القضائية!

*****

إشكالية هذه الأنظمة الكليانية أنها لم تَقمْ على، أو تعّترف بفكرة العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة، ولم تعّترف بأهمية المسألة الديمقراطية في العلاقات السياسية، لذلك ظلّ نظام الأسد يسير عكس منطق التاريخ وقوة الأشياء، حين رفع شعار “الأسد للأبد”، وحتى بعدما بدأت ثورات الربيع العربي كتعبير أصيل عن ديناميات قوى التغيير والديمقراطية وطموحاتها باتجاه حياة أفضل للشعوب ومنهم السوريين، ظلّ يُنكر حاجة المجتمع للتغيير أو الإصلاح، لأن ما يجري ليس أكثر من مؤامرة كونية تستهدف نظام الممانعة والصمود الأخير في المنطقة، وكل من يختلف مع هذا الخطاب وتلك الرؤية هو خارج ومندس وغير وطني، حتى أنه رفع شعار التصدي للمؤامرة بصيغة “الأسد أو نحرق البلد”.

لا خيار للإصلاح أو المصالحة الوطنية، فقد أحرق نيرون روما سابقاً، وها هو الأسد الصغير يكرر المأساة إذ أحرق وما زال يُحرق سوريا بالمعنى الحقيقي للعبارة، بل ربما يكون النصر الوحيد له في معركته ضد السوريين، إنه أحرق البلد حقيقة عبر الكثير من القتل والخراب المعمم والدمار في كل مستويات العمران والاجتماع، وصولاً للحرائق التي التهمت الكثير من غابت ومحاصيل سوريا، ونحن لن نناقش هذه النتائج حالياً من منظور المآلات العسكرية والسياسية الراهنة، أذ أضحت رهناً بقوى ومستويات ودوائر غير سورية البتة، إلا أننا معنيون بأسئلة الخطاب السوري في تلك الفترة باعتباره خطابنا نحن ولغتنا نحن.

*****

سؤال الخطاب السوري بعد مرور عشر سنوات ونيف على انطلاقة الربيع العربي، يُعيدنا لأصداء البدايات الجميلة والتي انتهت مع انتهاء مرحلة التظاهرات السلمية وأهازيج الفرح والشعارات الأولى وورود شباب داريا الثائرين، لتبدأ المأسسة والتي كانت طموحاً للبعض في مواجهة عفوية الانطلاقة الأولى.

لكن تلك المأسسة التي تجاهلت إرث التنوير في مجتمعاتنا كما تجاهلته وحاربته الأنظمة المستبدة لخلق قطع معه معرفي وسياسي، إرث بدأ مع الشيخ رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرزاق وطه حسين، واستمر في سبعينات القرن الماضي وما بعدها، مع الكثير من المثقفين والمفكرين الذين غيبهم قمع النظام وهمشهم، فجاءت المأسسة لتكّمل هذا التغييب والتهميش لصوت العقل ومفاهيم الديمقراطية والعقد الاجتماعي وتداول السلطة، وبناء دولة المواطنة المتساوية.

حتى أنّه يمكننا القول أنّ كل المعارضات التي وُجِدت لاحقاً، وبكل تبايناتها، تشاركت مع النظام في تقديم خطابات اقصائية، خطابات لا تعترف بالآخر ولا تَعرف الحوار فيما بينها، خطابات تُجزّئ ولا تُجمّع، خطابات توزعت بين المعارضة والموالاة وبين بُنى ما قبل الدولة ومفهوم الوطن، وبدأت تطفوا على السطح انتماءات وهويات صغرى تبحث عن شرعيتها ومصالحها تحت سقف العشيرة أو القبيلة، وتحت تقسيمات إثنية وعرقية، وأخرى جغرافية أو مناطقية، خطابات أقصت العقل وعطلت الفكر ورفضت المشروع التنويري الذي يمكن أن ينهض بسوريا المستقبل.

*****

من يتابع إعلام الثورة السورية سيكتشف أنه شكّل كعب أخيل في جسد الثورة، حين عجز عن منح حياة جديدة للّغة بعيداً عن قوالبها الجامدة والخطابية لزمن البعث، كما عجز عن ترجمة إرادة السوريين المطالبين بالحرية والكرامة وحقوق الانسان والتغيير الديمقراطي، وربما يتحمل بعض المثقفين جزءاً من هذه المسؤولية حين استكانوا في خانة السياسة والمناصب القيادية، فأهملوا الثقافة والإعلام، وذهب بعض آخر ضمن محاصصات القوى والفصائل باعتبار الإعلام مجرد وظائف وامتيازات ورواتب وليست عملاً احترافياً وفعلاً تنويرياً بالمعنى الأخلاقي والوطني.

فشاهدنا تصنيع أسماء وواجهات إعلامية على عجل، تفتقد الحد الأدنى من الكفاءة الثقافية والمهنية الإعلامية، وجرى تصديرهم كنجوم في عالم الفضائيات المتعددة، لدرجة أن هذا الإعلام بدا بلا هوية أو خط عام أو لغة متميزة تنتمي للّعصر ولمضّمر الثورة في اجتراح كل ما هو جديد ومبدع، لأن هذا لا يكون بالعودة للمحاكم الشرعية ولا بالعودة إلى زمن الخلافة وقطع الرؤوس وجلد النساء وامتهان كرامة البشر.

الخطاب السوري ليس كما يتخيل البعض مجرد مرآة عاكسة للواقع بكل علله وأمراضه التي زرعها فيه نظام الفساد والاستبداد عبر عقود مضت، بل هو حامل ومساهم في عملية التغيير الاجتماعي المنشودة، هو خطاب نهضوي وتنويري وحداثي، فكيفَ لمنْ لا يمتلك رؤيةً ومشروعاً تنويرياً ووطنياً، أن يبني رؤيةً ومشروعاً وطنياً لشعب أراد التغيير والانتماء إلى العصر؟