قبل أن أبدأ الحوار تذكرت، ليس بترتيب زمني معيّن، العبارات التالية: “أدين بدين الحب”، و”المكان إذا لم يؤنّث لا يعوَّل عليه”، ولزامًا أن “كلّ معرفة لا تتنوّع لا يُعوَّل عليها”، و”الوجد الحاصل عن التواجد لا يُعوَّل عليه”، كما يقول ابن عربي. والمغامرة الحواريّة في دلالة العبارات، تلزمنا أيضًا أن نُخضعها لقرب من “فن الخط”، بما يمكّننا من توضيح شيءٍ لأجل بيان دلالته. فـ”الخط هندسة روحانيّة بآلة جسمانيّة”، و”الكتابة هي الرسم الهندسي، أو: تطابق نقاء الكتابة ونقاء الروح”، والخط، هو رسوم وأشكال حَرْفيّة تنهض بالمبنى في سبيل المعنى، كلمات مسموعة دالة على ما في النفس. فنُّ جليل وجميل لأنّه من خواص الإنسان، كما يقول آخرون.
لأنّ أثر هذه العبارات لا يتأبَّدُ، إنّما هو كذلك لأنّه يوحي بدلالات مختلفة، “فالأثر يقترح والإنسان يتصرف” كما يقول “رولان بارت”. تصرفٌ يأخذك إلى عوالم “منير الشعراني” المعرفيّة، وعالمه الخطيِّ. تتخيَّل عبر مسراها ومجراها صرير القلم وصداه، أنين الإشارات وحنين الحرف إلى نقطته. تتمنّى لو تتسع العبارة والرؤية في آنٍ معًا، لتعرف أكثر مما تعرف، بأنّ ثمّة معرفة تتنوّع بوجْدٍ عبر الأنساق الخطيّة المفرطة في حساسيّة فنيّة جديدة: كلّ عبارة عِبْرة، وكلّ الحروف حِرفة، بعضها ينحرف من عذاب، وبعضها الآخر يستقيم بعذوبة تتغذّى من ذاكرة امتدّت لعقود، تدفقت، وفاضت حتى انصبّ سواد لغتها وبياض بلاغتها في مجرى العمر لتنهمر بحُلَّةٍ جديدة، له فيها شروق حبّه وغروب أيام خلتْ.
أسلوبٌ فريدٌ وذوقٌ خاصٌ في الوصل والقطع والشكل، وهكذا دواليك. الحركات تتحول إلى سكون، وسكونٌ يشْتَّدُّ في موضعه، فيتحول بعد طول اشتدادٍ إلى حركة في جدليّة لا تنتهي، كتناوب الليل والنهار، والنور والظلام.
أمّا النقطة، وباختصارٍ واتساعٍ شديدين كأنّّها وحدةٌ تعبيريّةٌ صغيرةٌ تمثل لقطةً فنيةً تصويريّةً خاطفة، وأحيانًا أخرى تصبح جزءًا من تصويرٍ مُرَكَّبٍ أكثر شموليّة تتشكّل داخل الفراغ الفسيح صورًا مركّبةً وكثيرة المدّ والجزر، وأحيانًا نقطة بعيدة كأثر ما بعده أثر.
لقد فهم “الشعراني” من تجليّات الخط وإيقاعاته، في ضوء تجربته الطويلة، فهمًا جديدًا، حيث نقله إلى السلوك الإنساني الجمالي، والأسلوب الفني المتأدّب والمُتَخَلِّقِ بما يعرف من أسرار العبارة وتنويعات الخط في الوجدان، وتلك وجهة يهتم بها في توليف الحروف، وفي تأليف التراكيب، ويواكب نمو التصميم بدءًا من منطق العقل ومرورًا بمنطقة القلب. ليطالعك بلوحة ما رأيتها عند غيره.
و”حكاية ما انحكت” ثمرة حوار، وكفاية توثيق يتحدّث فيه “الشعراني” عن المعرفة والخط، عن تفاصيل كانت غائبة في “شقوق الذاكرة”، وعن التي تطفو على السطح بفعل “التداعي الحرّ”، القائم على تدفّق الكلمات المعبّرة والواضحة كما تَحْدُثُ في عقله، وامتزاجُ ذاكرته القوية بالتجارب الماضية والحالية. حوار على قدرٍ من جماليةٍ تتمثّل في استخدامه صورًا تشبهه هو، ليتردّد صداها في أرجاءِ لوحاته.
ممّا رأيتُ، خلال تأملاتي الطويلة في تجربتك المتميزة، خاصيّة “التناص”، خاصة، في لوحاتك التي تقوم على العبارات الصوفيّة، البداية بها، والمنتهى المراد منها في منجزك الخطي. طبعًا، أفهم أن التناص ليس من باب العقيدة، فعندك ما عندك من نزعةٍ علمانيّةٍ منفتحةٍ وواضحةٍ. سؤالي: هل تُعوِّل على قوة العبارة، وتستدرجها إلى “المكانة” التي تريدها في لوحتك؟ لو تتوسّع قليلًا في شرح هذا التبادل النصي، والنَّسْج المحبوك، وهذه الحواريّة العالقة بين العبارة وبينك، وبين اللوحة أخيرًا.
حياتي، كإنسان يعيش في هذا العالم، معجونة من، وبكلّ شيء؛ من أفكار ورؤى ومشاهدات.
العبارة، عندي، هي ذريعة للعمل الفني تحتوي على شيء يحرّض المتلقّي بصريًّا، ويحرّكه معنويًّا نحو الغاية، لأنّني أعتقد أنّ الخط العربي هو الفن الوحيد الذي يعتبر فنًا تجريديًا، ويجمع بين المحتوى والشكل، وبين المبنى والمعنى. في عملي لا آخذ العبارة بالضرورة نحو قصدها، بل أقوم بتوجيه المحتوى بحيث يُقرأ بالقصد الذي أوجهه إليه وتحتمله صياغته.
دعني أحدّثك عن أولى لوحاتي، والتي عرضتها في معرضي الأول: “ما لكم كيف تحكمون–الآية”. تحكمون هنا بمعنى تقضون (من القضاء)، أمّا في عملي فأوجه التساؤل إلى الحُكُم-السلطة. والذي ساعدني في ذلك هو تركيبة الحروف والعلاقات اللونيّة، وقد طلبت من المترجم أن يترجم كلمة “تحكمون” بمعنى الحُكُم، وليس بالدلالة القرآنيّة.
عبارة أخرى، “إنّ المعارف في أهل النُّهى ذِمَمٌ”. شطر جميل جدًا. ولو قمنا بالمقارنة بين قصد المتنبي في سياق القصيدة من جهة، وبين المقصد الذي تحيل إليه اللوحة من جهة أخرى، لوجدتَ الفرق، المتنبي يخاطب سيف الدولة الحمداني على أنّ بينهما معرفة يطلب مراعاتها، أمّا في عملي فقد أخرجت القول من دلالته الشخصيّة إلى المعرفة الثقافيّة. أيّ، حمّلته معنى مختلفًا عمّا حمّله المتنبي، فصار المعنى: كلّ المعارف المجتمعة عندك ما هي إلّا أمانة يجب أن توصلها إلى غيرك.
إنّني أقوم بإعادة توظيف العبارة في اتجاه مقاصدي. و من هنا يأتي اختلاف المعنى والمبنى على حدٍّ سواء. بهذا المنطق أتعامل مع العبارات الصوفيّة، آخذ صيغتها اللغويّة البحتة لكني أوظفها في اتجاه آخر أرضيّ متصل بحياتنا وما يعنينا.. إلخ.
بعض العبارات الصوفيّة فيها لغة وبلاغة جميلة يمكن توظيفها في أعمال تتعامل مع مشاعرنا وتدخل في ممارسة فنّيّة فعليّة.
أذكر واحدة من أولى العبارات التي أخذتها من ابن عربي، وهي: “كُلُّ فنًّ لا يُفيد عِلمًا لا يُعوَّل عليه”. وأيضًا: “الحركة حياة، فلا سكونٌ، فلا موتٌ، ووجودٌ فلا عدمٌ”. هذه العبارة أعتبرها جدل (ديالكتيك)، بعيدًا عن التفسيرات المألوفة. عبارات ابن عربي متجاوزة لمسألة التقيَّة، وفيها قراءة مختلفة للدين وجدل مادي واضحٌ.
في حدود معرفتي، كان لدى “ابن عربي” ذكاء لغوي فريد. يقول، مثلًا: “نزول الحمام يُقيّد الأقدام”. عبارة تحتمل عدّة تأويلات. فكلمة الحمام، قد تُقرأ الحَمَام: الطائر، أو الحِمام: الموت، أو الحَمّام: مكان، وجميعها جائزة في سياق العبارة. هذه المسألة تأخذني إلى مدى تأثّرك بالأدب الصوفي (لغة وبلاغة). هل تُلمّح لشيء دون أن تصرِّح به كُلّيًّا؟ أو تترك اللفظ وتقصد المعنى، أم على العكس؟ بالمختصر، هل الشكلان متشابهان إلى حدٍّ يجعلك تنتقل منه إلى عملك دون أن تغيِّر من أفكارك جذريًا؟
لا يوجد تأثّر بالمعنى الكلّي، والدليل أنّني لم آخذ إلّا عباراتٍ محدّدةٍ لابن عربي، وقلّةٍ قليلةٍ من بعض المتصوّفة. عباراتٍ بصورةٍ جديدةٍ تتفق مع فكري. مثلًا، “كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، النفّري”، هي عبارة جميلة لغويًا، وقابلة لأن تُقْرأ من عدّة أوجه. “الرؤية”، هنا، تتسع أكثر عند العارف بالمعرفة. وهذه المعرفة تمّ تكثيفها في لوحة أخرى مستوحاة من عبارة ابن عربي: “العارف صاحب تجريد”. لذلك، أُخرِج العبارة من عوالقها الميتافيزيقيّة، إنْ وُجِدت، وأحيلها إلى حالة جديدة تدفع المتلقّي نحو التفكير والتدبّر في الذات التي لا يمكن تحقيق وجودها إلّا باستئصال مسبّبات الجهل وزرع بذور عالم حقيقي جميل يُروى بماء المعرفة.
نصّي مغاير للنص الصوفي، وطالما أنّ المتلقي في ضيافة نصّي، فيجب عليه أن يقرأ العبارة ضِمْن سياق اللوحة. لوحتي، إذن، تدعو المتلقي، بقدر من الوفاء، لمقصدي، ولطبيعة العصر والزمن الذي ألَّفت فيه أعمالي. لذا فإنّ الأثر الفني، وبالتالي، منجزي الخطيِّ الذي هو شأن هذه المعرفة بتجلياتها لن يحمل بين طياته معنى واحدًا فقط، وتقتصر القراءة على اكتشافه، كما أنّه لنْ يكون في الوقت ذاته منفتحًا على قراءات شتى تجعل منه نصًا قابلًا لأيّ تأويلٍ يُوضع له.
هل في أعمالك نوع من “التقيّة”؟
لا. ليس لديّ تقيّة. كلّ أعمالي فاضحة وواضحة، معروفة ومكشوفة، وعلى علاقة بالمعرفة والفن. إلّا أنّني لا أنكر وجود صعوبات في فهم المعاني المتوارية في أعمالي، وهذه مهمة المتلقّي، كما ذكرت قبل قليل: ينظر، يتأمّل، ثمّ يكتشف. ماذا يكتشف؟ الجهل الذي في الداخل: في الذات وداخل المجتمع، ولا يتحقّق وجود الذات إلّا باستئصال مسببات الجهل وزرع عالم حقيقي جميل يُروى بماء المعرفة.
“كلّ معرفة لا تتنوّع لا يُعوَّل عليها”. على وقْع هذه العبارة أجد تنوّعًا هائلًا في أعمالك، من حيث الشكل الجمالي والمحتوى المعرفي. أليس كذلك؟ ولكن، ربّما لا يستطيع المتلقّي إدراك هذا التنوّع. كيف تجعله يعيش (معرفيًا وجماليًا) هذا التنوّع في وحدة واحدة؟
بالعودة إلى عبارة ابن عربي، والتي ذكرتَها الآن، أرى أنّ من صفات المعرفة: الاتساع –بشكل أفقي وعمودي- والعمق. وبالتالي، ومن دون هذا التنوّع نكون أمام معرفة أحاديّة لا يُعوَّل عليها. لأنّها لا تصلح لتنمية الفرد أو الجماعة، وتمكينه من محاكمة الأشياء. وإلا فــ”الجهل عمود الطمأنينة” (لوحة). و”القلق امتلاء” (لوحة). عبارات تصف بإيجاز حال الخنوع والخضوع، وحالة الانقياد والتّقيد، ثمّ الاستسلام. وهذه معرفة لا تُعَوَّل عليها.
كثيرًا ما يُقال إنّ الخط “زخرفة”. بمعنى، ليس فيه طاقة تعبيريّة وقوّة فنيّة، كالرسم والتصوير. أعتقد أنّ عندك ما ينفي هذا القول. برأيك، هل في الخط ما يخوِّله أن يكون فنًّا قائمًا بذاته؟
أولًا، لنعد إلى عبارة “الجهل عمود الطمأنينة”. بمعنى، ليس كلّ من خَطَّ أو كتب أو قرأ عن الخط عرف الخط. ثانيًا، لقد تعرّض هذا الفن للظلم طِوال العهد العثماني. من يقرأ تاريخ الخط، سيرى أنّه نما وتطوّر بسرعة كبيرة. من حيث النوع والكيف في العصر العباسي. وكلّ شيء ظهر بعد ذلك يدخل في إطار التنويع على الخطوط، وتحسينها أو تجويدها، لا أكثر ولا أقلّ.
كانت المرحلة العباسيّة زاخرة. خُذ مثلًا الخطّاط ابن مقلة: قلّة من الناس تعلم أنّه كان المؤسّس الحقيقي للخطوط المرنة التي كان “قطبة المحرّر” قد اشتقها زمن الأمويين من خط البسط (الكوفي). وهذه القلّة نسيت كلّ أنواع الخط الكوفي التي كانت لها صلة بالفنون أكثر من الخطوط المرنة التي اختصّت لكتابة المخطوطات: ابن مقلة، وابن البواب، وياقوت المستعصمي، هؤلاء كانوا كُتَّابًا مجيدين ومبدعين في الخطوط المرنة يتعاملون مع المخطوط بعيدًا عن الفنون الأخرى.
في العصر العثماني، تمّ استبعاد كلّ أنواع الخط الكوفي، وقد عَمِلَ العثمانيون، فقط، على تطويع الخطوط الموجودة، وليس على تطوير الأنواع والقواعد. لقد تمّ تجميد الخط العربي، فلم يسمحوا إلّا بتجويد الخطوط المُباحة في عصرهم. أمّا الكوفيات فقد تمّ دفنها لأكثر من أربعة قرون، حتى أُعيد اكتشافها والاهتمام بها في مصر والشام وتونس.
هذا الظلم الذي وقع على الخط الكوفي على يد العثمانيين، هل تعتقد أنّ سببه مذهبي؟
ممكن أن يكون قوميًا. ولكن مهما كان السبب، فإنّ الكوفيات دُفنت.، حتى بدايات القرن الماضي عندما بدأت عمليات ترميم الآثار.
لو تسمح لي، دعنا نقف قليلًا عند هذه القضيّة. أنا أتفق معك أنّ الخط الكوفي قد هُمِّش وحُيِّدَ تمامًا. لو تعود إلى الأسباب، لتؤكّد على نفي البعد المذهبي. البعض يفترض أنّ للخط الكوفي جذور مذهبيّة، ولذلك حُيِّد من المجال الفني أو الكتابي الخاص بالذهنيّة العثمانيّة.
لا أبدًا، لم يكن السبب مذهبيًا. كان الخط الكوفي من أكثر الخطوط انتشارًا، والدليل على ذلك أنّ الخط الكوفي كان موجودًا على كلّ الأوابد (الدينيّة والمدنيّة)، في الحواضر والمدن على اختلاف المذاهب التي سادت فيها، وكذلك كانت المخطوطات التي سبقت الفترة العثمانيّة، وظلّ كذلك في حواضر لم تخضع لهم، ولم يكن بينها وبينهم اختلاف في المَذْهَب.
إذًا، لماذا حَيَّدَ العثمانيون الخط الكوفي وركّزوا على الديواني الجلي والطغراء؟
خلال قراءتي، وقفت على مسألتين، لعبتا دورًا، الأولى، أنّهم لم يستطيعوا التعامل مع هذا الخط، حيث لم يكن عند العثمانيين هذا الزخم الفني والإرث الحضاري الموجود عند العباسيين. والمسألة الثانية، كان هَمُّ العثمانيين تثبيت سلطان عنصرهم وطريقتهم، والدليل هو تركيزهم على الخطّاط ياقوت المستعصمي كمرجع لأنّه من أصل تركي، على رغم أنّه يتبع المدرسة البغداديّة، وتربى عليها في بلاط المستعصم، لأنّه كان مملوكًا له. وهذا الأمر (النزعة العصبيّة) ما يزال قائمًا حتى اليوم: تكريس للمدرسة الخطّيّة العثمانيّة.
بغية الفائدة القصوى من هذه المسألة الشائكة، سأسألك مرة أخرى حول هذا الموضوع: هل توافق على أنّ الكوفيات والخطوط الخاصة ببلاد المغرب، كانت مستبعدة في الفترة العثمانيّة لأسباب تتعلّق بالمذهب، أيضًا؟
التاريخ سياسي أكثر من كونه ديني. الدين والمذهب مُتَّكَأٌ. لم يكن الخط الكوفي خاصًا بالشيعة، وإلّا لِم استخدم العثمانيون خط “النستعليق” وهو خط إيراني بالأصل؟! ظهر النستعليق على يد الخطّاطَيْن مير علي التبريزي وعماد الحسني، والأخير كان سنيًّا، لكن التبريزي وغيره من الخطّاطين كانوا شيعة.
أفهم من كلامك أنّ الخطّاطين العثمانيين لم يقدّموا الجديد على صعيد فن الخط، وكلّ إسهاماتهم كانت من باب التجويد دون إضافة تُذكر في القواعد والميزان؟
تجويد فقط، وليس ابتكار وإبداع. ولكن، حتى لا يُفهم من كلامي على أنّه تحامل، أودّ أنْ أُشير إلى أنّ العثمانيين قد عَمَلوا على الخط الديواني والديواني الجلي، هذا من جهة، وقاموا بتقنين استخدام الخطوط الأخرى، الثُلُث والنسخ، للمصاحف والمساجد والأشياء المقدّسة والتعليق للقصائد والمدائح والأشعار، والديواني الجلي لترويسات الفرمانات والأعمال الدواوينيّة والحكوميّة، والديواني للفرمانات والشؤون الدنيويّة والمدنيّة ولا يجوز أن يُكتَب المقدس به لأنّه خط “وظيفي”، وأمّا الرقعة فلتحسين الكتابة العاديّة.
إشارة: اللوحات المشغولة بالخط الديواني بدأت على أيدي خطّاطين، أمثال: مصطفى غزلان من مصر، وبدوي الديراني من بلاد الشام، ثمّ قام الخطّاط هاشم محمد البغدادي بالجمع بين الأسلوبين.
تقول، “الخط العربي”! هل توافق على هذه التسمية؟ في الوقت الذي نجد فيه شعوبًا وأممًا كانت في ظل الإسلام، بالمفهوم السياسي، وقدّمت من الفنون ما قدّمت. ألا تعتبر أنّ في هذه التسمية إجحاف وضيق بحق الآخرين غير العرب؟
لا علاقة لقولي هذا بالقوميّة.
سؤالي من باب الاستفسار وليس من باب التوكيد.
كلّ الكتابات في أوروبا الغربية كُتِبت بالحرف اللاتيني، وفي أوروبا الشرقيّة وروسيا بالحرف السُّلافي. الحرف هو الأساس الذي استُقيَ منه شكل الحرف. هذا لا ينفي اللغات ولا تشكّل القوميات. ما أريد قوله، هو أنّ الحرف العربي كان موجودًا قبل الإسلام، بحسب المكتشفات الأثريّة. هذا الأمر ليس له علاقة بالقوميّة، إنّما بالجذر. أبجديّة رأس شمرا هي أساس كلّ الكتابات في العالم.
لا أسألك عن الكتابة العربيّة، إنّما عن تسمية الخط بالخط العربي.
أفهمُك. الخط العربي هو ذروة تطوّر الحرف عن أصله، وشُهدت هذه الذروة في العصر العباسي. بمعنى، هذا الحرف الذي نكتب، أو نخطُّ به، هو متطوّر عن الكتابة العربيّة، سواء كُتبت، فيما بعد بالفارسيّة التي كانت تُكتب قبل ذلك بالحرف الفهلوي، أو بالتركيّة التي لم تكن لها كتابة أصلًا، إنّما كانت كلامًا منطوقًا.
يُذكَر أنّ أوّل مرة كتب العثمانيون، كتبوا بالحرف العربي.
لكن، في مخطوطة معراج نامه، ثمة كتابة أويغوريّة تركيّة.
معراج نامه أصلها فارسي.
لا أتحدث عن أصل المخطوطة، إنّما أريد أن أقول: كانت للعثمانيّة كتابة أويغوريّة.
كيف تشكَّلت الدولة العثمانية؟ من عدّة أقوامٍ، أقواهم كانت العثمانيّة. ثمّ إنّ العطاء الأهم، على الصعيد الفني تمّ في العصر الأموي، ثمّ العباسي. وأعتقد أنّني أول من ميَّز بين الكتابة كوظيفة توصيليّة، وبين الخط، أو الخَطَاطَة، كحالة أرقى من الناحيّة الفنيّة والجماليّة.
النقطة التي ساعدت على هذا التمييز بين الكتابة كوظيفة والخط كفن هي بنية الحرف والوصل والقطع والنقَط والبناء والمدّ والأعلى والأسفل. كلّ هذه العوامل لها علاقة بالفن التشكيلي للحرف. أضف إلى ذلك، تنوّع الخطوط التي حملت طاقة تعبيريّة، يستطيع الخطّاط–الفنّان أن يصل من خلالها إلى المحتوى. وحيث يوجد المبنى والمعنى توجد الطاقة التعبيريّة والقيمة الجماليّة.
لنعد إلى تجربتك: أنت تُعوِّل كثيرًا على الفراغ كعنصر أساس من عناصر التصميم. وأذكر، ذات مرة، قلت لي إنّ أحدهم اقتطع مساحة من لوحتك لغرض الدعاية لمعرضك في بريطانيا. هل لك أن تقول شيئًا عن قيم الفراغ وقيمته بالنسبة لأسلوبك المتميّز، وبناء لوحتك؟
أولًا، لا أريد أن أقول الكلام المكرّر في أنّ الفراغ جزء من العمل الفني، أو كما يراه الفنان. الفراغ جزء حيوي من حياة العمل. وأيّ خلل في حجمه لا بد أن يحدث خللًا في اللوحة كلّها.
أمر آخر، وله علاقة بالتجريد أيّ بالطبيعة، لماذا يكون حجم الفراغ في الجزء الأعلى من اللوحة أكثر من الجزء الأسفل؟ إنّ الجواب عن هذا السّؤال يكمنُ في سؤال آخر يرْغبُ في معرفة ما الذي يجْعلُ الفنان-الخطّاط يبحثُ عن المتلقي، والمتلقي يسعى نحو الفنان؟ وما الذي يجعل الحرفَ العربي مثار جدل وجمال؟ أيّ روح توجّه هذه الحركة؟ بل أيّ معرفة تسعى إلى هذا الترابط وهذا التكامل بين الفِكر البشري كافة (شرقًا وغربًا)؟
في الحقيقة، لا أرغب أن أتحدّث عن هذه الأمور، ولا أن أُسأل عنها أو أشرح أعمالي أيضًا، فهذا دور المتلقي. لكن، بإمكاني أن أروي لك حكاية: في معرضي الأول، في القاهرة سنة 1987، كان همّي أن أكون قادرًا على الدفاع عن تجربتي أمام الفنّانين التشكيليين الذين كانوا موجودين، أمثال: حسين بيكار وحسن سليمان وحامد ندا، والخطّاطين القديرين: محمد عبد القادر وسيد إبراهيم، وأمام الغرافيكيين أمثال: محي الدين اللبّاد وحلمي التوني، وفي مواجهة النقّاد. وأن أكون جاهزًا للإجابة على أيّ تساؤل، وأطرح عملي كعمل تشكيلي. المفاجأة هي أن الجميع أشادوا بتجربتي. كنت أتوقع أن يقول أحدهم أنّني لست خطّاطًا، أو لست تشكيليًا، أو أنّ هناك ما يؤخذ علي في البناء أو التنفيذ، ذلك أنّ الخطّاطين اعتادوا المفهوم التقليدي السائد والذي يعادي الفراغ، ومعظمهم باتوا محافظين، أمّا الرسامين والفنانين فكان معظمهم لا يعترف بالخط العربي كَفَنٍّ تشكيليٍّ، وليس لديهم فكرة واضحة عنه.
أنت تعلم أنّ رسّامين وخطّاطين وشعراء أبدعوا روائع أثيرة من الموسيقى، استجابوا لها وتأثّروا بها، وأجزم أنّ في لوحاتك شيء من هذا المغنى والمعنى. لقد أخبرتني مرة عن هذه الثيمة البصريّة، كيف تصف هذا المشي على نغمٍ، أو الرقص على لحنٍ تصويري-بصري، على حبال لوحتك؟
صحيح. ولكن، كما قلت لك، لا أحبّ أن أتحدث عن أعمالي. هناك من يشعر، دون أن يستطيع تفسير شعوره، كما قلت أنت قبل قليل، ويستطيع أن يلتقط ويفهم هذه الموسيقى البصريّة، وخير من عبّر عن هذه الموسيقى في عملي وكتب عنها الفنان حسين بيكار، وهو موسيقيٌّ أيضًا. لقد كتب عن كيفيّة استلهامي للموسيقى في تلحين وتشكيل اللوحة، دون التغافل عن البنية الإيقاعيّة، وخاصة منها المتعلّقة بالحركة الداخليّة للحروف، مع التركيز أيضًا على البنية الفنيّة التشكيليّة المُتجليّة، سواء من خلال ألوان الحرف الخارجيّة أو الداخليّة أو ألوان النقاط، وهذا كلّه بهدف الوصول إلى ذهنيّة جماليّة بصريّة توحي بلحنٍ ما.
الخط مثل التصوير، والتصوير مثل الشعر، والشعر مثل الموسيقا.. إلخ. أيّ، هناك علاقةٌ جماليّةٌ دفينةٌ بين الفنون جميعها، ولكن وللأسف، الفنانون، عندنا اليوم تربّوا على الفصل بين الخط وبين الفنون الأخرى من جهة، وبين الفنون نفسها من جهة أخرى. هناك من يعتبر الخط صنعة وليس فنًا، وأحسب أنّ الفنون تقولبت، وبرأيي أنّ القوالب تقتل الفن. هذا باختصار.
كيف تعبّر عن الحالة السياسيّة في أعمالك الخطيّة؟
أنا لست سياسيًا بالمعنى الحرفي، بل إنّني معنيٌّ بالإنسان وقضاياه، وقد دخلت في السياسة من باب المشاركة برفض الاستبداد والسعي نحو الحريّة، في وقت قلّ فيه المشاركون في هذا، أمّا كيف أعبّر اليوم عن الحالة السياسيّة، أو كيف أوظّف الفكر السياسي في أعمالي؟ فمن خلال الملصقات التي تعبّر عن موقفي من حدث معين. وأمّا في الأعمال الفنيّة فالحالة مختلفة وشاقّة، لأنّها تحمل خلاصة فكري وعصارة رؤيتي.
هَمّيَ السياسي مستمر بدءًا من لوحاتي الأولى: “مالكم كيف تحكمون”، و”كلّ حال يزول”، و”كلّ فن لا يفيد علماً لا يُعوّل عليه”. وحتى أعمالي الأخيرة، كلّها تدل وتعبّر عن توجّهي الفكري، وموقفي من الإنسان وقضاياه ومن الحياة اليوميّة.
منذ مشروع تخرجي الذي كان موضوعه القمع والتسلط العسكري ومرورًا بالعبارات التي ذكرتها، كان خياري السياسي والفكري مُعبَّرًا عنه بالشكل الفني الذي أنجز به أعمالي.
تجدر الإشارة إلى أنّ لوحتي: “الشام مرآة روحي”، التي كان لها الحظ الأكبر من الانتشار كانت تعبيرًا عن البُعد، عن الفَقْدِ، عن الحالة التي كنت أعاني منها والتي اضطرتني إلى مغادرة البلد، واستمرت خمسًا وعشرين سنة.
من موقعي كإنسان وفنان، أُعتَبر مسؤولًا عن التعبير العميق والخلاق عن التجربة الجماليّة بشكل عام، والخطيّة بشكل خاص، لذا فأنا مَعْنِيٌّ أكثر من غيري بالسعي لتحقيق التوازن بين الضروريّات النفسيّة وضرورات المجتمع وممارسة هذه الأخيرة بشكل إنساني قادر على تتبّع الفكرة والتقاط الإشارة الإبداعيّة مع امتلاك القدرة على التحليل والتركيب والتقويم والتأليف والتقييم لإيصال ما استطعت إليه سبيلا من المعرفة الفكريّة والجماليّة، وإظهاره بهذه الصورة لغيري من الناس.
كلّما نظرت إلى لوحتك البديعة “لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه” شعرت بكميّة الحزن والحسرة والألم وبغياب الحق والعدالة. هذا المضمون جليٌّ وإن جاء بشكل جميل وساحر. هل توافقني؟
لم أستوحش طريق الحق بالخط فقط، بل عشتُ الحالة. في الوقت الذي كان البعض ساكتًا، كنتُ منخرطًا في الحالة السياسيّة وأنا في غنى عنها. لا أحسّ بالراحة دون راحة الناس. أنا مهموم بالهم العام. ولعلّ السير في هذا الطريق، رغم قلّة سالكيه، تمرين في كبح النفس وفي الالتزام بالسعي إلى الحق والخير عن طريق الجمال.
لا شكّ أنّ معرفة الحق من المعارف الرفيعة، ولا شك أيضًا، أنّ نهاية السير في هذا الطريق الموحش والشائك، هي غياب السالكين. لقد اقتبست من العبارة البدءَ، ومن تجربتي الحياتيّة جملة المنتهى، وما بين الجملتين بقلبٍ يتألم وقلبٍ يشبه حرف الأمل، صَمَّمْتٌ هذه اللوحة. لوحةٌ في مديح الطريق، أو لوعةُ العابر، أو حرفٌ يَحِنُّ ونقطةٌ تَئِنُّ.
كيف تقرأ واقع الخط في سوريا والعالم العربي؟
للأسف، هو تحت وطأتين: هيمنة مدرسة الخطوط العثمانيّة، ووطأة الإهمال، أيّ، لا توجد عناية بالخط ورعايته في بلادنا.
لو سمحت لي، بكلمة أخيرة.
هي أمنية في كلمات: أتمنى أن يكون الخلاص قريبًا، وأن يستطيع شبابنا وأطفالنا أن يعيشوا في مجتمع حرّ كريم يتساوون فيه بالحقوق والواجبات، بغض النظر عن الجنس والأصل والدين والمذهب، ليستطيعوا بناء ذواتهم وبلدهم، ويشاركوا في تقدّم الإنسان على هذا الكوكب.
(حكاية ما انحكت)