لا أحد ينكر، من الأدباء ومؤرّخي الأدب، أن أدب اليوم أحدث تحولًا كبيرًا عن أدب الأمس. لكن لا أحد يعرف ما هي المكانة التي ستحتلّها الأشكال الماضية، ولا ما ستكون عليه الأشكال القادمة. إن الأدب يُحدث تغيّرات عميقة مفاجئة. فمن كان يعلم أن الملحمة ستختفي دون عودة، وأن المقامة ستبقى محصورة في دائرة صغيرة، وأن الشعر الكلاسيكي سيصبح مقروءًا بدرجة محدودة، بل ومن كان يظن أن الشعر سيتراجع درجات نحو الأسفل في سلم الأجناس الأدبية، وأن الترجمة التي كانت تُعتبر تفكيرًا ضائعًا ستصبح هي التفكير عينه؟
1
يذكر مؤرخ الأدب الفرنسي آلان فيان (Alain Vaillant) ثلاثة تحوّلات لا يعترض عليها أحد. كانت الآداب الحديثة مرتبطة، وإلى اليوم، ببروز الهويات الوطنية. ورغم استمرار حضور هذه الثقافة الوطنية، إلا أن العولمة وضعت هذا النموذج الوطني موضع سؤال. فأصبح كل أدب، الأوروبي أو الأميركي، يرى في نفسه مثالًا مرصودًا لإعطاء المثال للآخرين. وقد حدث هذا التحوّل الأول، حسب آ. فيان، بطريقة عنيفة. لكن بعض الآداب لم تكن لها الوسائل للاضطلاع بهذا الدور، منها الأدب الفرنسي. وقد رأت بعض الدول، خصوصًا الرائدة اقتصاديًا، في فوز كُتّابها أو علمائها بالجوائز العالمية الكبرى، مثل نوبل، مناسبة لفرض نموذجها الأدبي، والبدء في بناء أدب عالمي على أسس وقواعد جديدة.
حدث التحوّل الثاني حين ظهرت وسائل التواصل الجديدة، وشرعت، تدريجيًا، في إزاحة شكل من الكتابة هيمن وساد في الحياة الأدبية طيلة عقود. وهذا التحوّل جعلنا نتوقع بتشوّق نتائج لعبة الشطرنج هذه غير المنتظرة. فالأدب في الماضي كان يرتكز على مهارة الكتابة التي سادت وتقوّت منذ القرن التاسع عشر، في نموذجه الأمثل غوستاف فلوبير، سيد التشطيب والمراجعات في الأدب الفرنسي. كانت لفظة “أسلوب” محاطة بتقدير مذهل من قبل الأدباء والأكاديميين. واليوم لم تعد الكتابة قائمة على حُسن الأداء وتقدير الأسلوب، وأحيانًا على حساب الشهادة أو الالتزام. فنشأت نظرية كاملة تهتم بما عُرف بـ”أدبية الأدب”، سادت إلى حد أنها أصبحت عقيدة، أو إيديولوجية أدبية. لكن العولمة ساهمت في تذبذب هذه العقيدة، فعادت الكتابة إلى العفوية والوظيفية.
2
حين بدأت تسود عقيدة أدب الغد، غير المهتمة بالأسلوب وبالشكل وبحسن الأداء، وهو اهتمام قام على أنقاض تذويب فن الكتابة ومحاولة طمسه، بل واعتباره عقيدة ماضوية، بدأت تظهر ملامح كتابة جديدة، خصوصًا في جنس الرواية، التي اعتُبرت منذ نشأتها فنًا صعبًا في تشكّل دائم. وإذا حاولنا تتبّع هذه الملامح نجدها واضحة في الرواية العربية، إذ ظهر نموذج من الكُتاب لا يعيرون اهتمامًا للكتابة الروائية باعتبارها فنًا، بل مجرد رُكام من الورق والحبر يكاد يخلو من كل فنية، ومن كل منهج لغوي يجعل لكل كاتب فرادة غير مسبوقة، كما هو الشأن في نماذج سابقة من الرواية العربية والعالمية. لذلك، سيكون لهذه المرحلة المفصلية من تاريخ الرواية العربية نتائج هائلة ومؤثرة؛ فإما سننتج رواية هي خليط من المشاعر العفوية، وإما رواية على شكل مقالة غنائية، أو رواية فنية تنهض على القواعد الصلبة لهذا الفن العظيم. وفي الجانب النظري، سيكون المحلّلون مضطرين إلى تأطير أسئلة نوعية عن جدوى كل فرع من هذه الفروع. حينها، لا شك ستعود مناهج الستينيات والسبعينيات، خصوصًا البنيوية والشكلانية، والأسلوبية، التي ترسخت في المؤسسات الجامعية، بعد عمر طويل من الممارسة. سيعود الفحص المتنبه للنصوص، كما كان في العقود الماضية.
3
إن الأدب لا يمكن أن يُلحق بحقول لا تهمّه، مثلما فعل منظّرو الأدب والمناهج حين ألحقوا مناهج نقد الأدب بعلم الاجتماع، والتاريخ، وعلم النفس، واللسانيات. إنها حقول لا تهمّ الأدب مباشرة، لكنها أفادته كثيرًا في الفحص والتحليل، بل وأدّت وظيفة تربوية مكّنت التلاميذ والمدرسين، قبل النقّاد والأطباء والمؤرّخين وعلماء الاجتماع.
ومهما حاول بعض الكُتّاب أن يضعوا أمام أعين القراء نسقًا واحدًا بديلًا للأدب والكتابة، وهو الكتابة الرقمية، والأدب الذي تضمّن شيوعه وسائل التواصل الاجتماعي، فإننا ما زلنا ننظر إلى الكتابة التي يبذل فيها المؤلفون جهودًا فنية كثيفة، الجنة التي ستضيع من أيدينا. وما على مؤسسات الأدب، والمؤسسات التربوية إلا أن تبذل جهدًا مضاعفًا لنشر قيم الكتابة نفسها التي سادت مند قرون. وهي قيم الأدب الكلاسيكي المبني على قواعد في التأليف الأدبي. وإلا فإن النقد والمؤسسات الجامعية لن تعثر في يوم ما على نص تخضعه لتحليل مناهجها الوصفية، التي راكمتها إبستيمولوجيا النقد والنظرية على مدى عقود.
إن كفاءة الكتابة التخييلية ينبغي الحفاظ عليها، وهي شرط ضروري لبقاء الأدب في تصاعد متراكم، من أجل إثراء التجربة الإنسانية، التي ستبقى مغامرة مدهشة. وعلى الكُتّاب تحصين قلعة الكتابة ضد التدخّلات غير المنتظرة، التي تفتح المجال لأي شيء. يجب على الخيال أن يبقى في حركته الدائمة من أجل فعل فكري وتربوي، على هدي من الأعمال الكلاسيكية الكُبرى. إن الأدب لا يمكن تجديده دون منطلقات ومعطيات فكرية قوية، كما حدس بذلك أفلاطون وأرسطو وسارتر وكامي. وهذا يشكّل، في حد ذاته، تواصلًا مع الإنسان، دون الحد من تزايد نشاط التواصل الذي يثير المزيد من متعة القراءة اليومية.
(ضفة ثالثة)