عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة/ بيروت) صدر للباحثة د. إليزابيث سوزان كسّاب كتاب “تنوير عشيّة الثورة: النقاشات المصريّة والسوريّة” (280 صفحة من القطع الكبير مع مراجع بالعربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية) في ترجمة أنيقة ودقيقة نهضَ بها د. محمود محمد الحرثاني، يتناولُ نقاشات دارتْ بشأن التنوير في القاهرة ودمشق خلال عقديْن سبقا الثورات العربية التي اندلعت في عامي 2010 و2011، ويسبرُ غورَ كلّ مجموعة من هذه النقاشات بوضعها في سياقها التاريخي والسياسي والفكري، إضافة إلى تحديد القضايا والمسائل الرئيسة التي ارتبطتْ بهذه النقاشات.
تلحّ د. كسّاب على أن تلك النقاشات لم تكن أكاديميّة في التنوير، على اعتبار أنها تُحيل إلى فترة التاريخ الفكري الغربي المعروف باسم التنوير، كما لم تكن دراسات تناولتْ ذلك التنوير، لكن استخدمتْ تلك النقاشاتُ التنويرَ في ضوء المعنى الواسع للتنوير الغربي، باعتباره مُشايعًا للعقل والحريّة والتسامح، ولم تهدفْ إلى تقديم تفاصيلَ مفاهيميّة بشأن تلك الأفكار، بل ركّزتْ على الواقع المعيش في مصر وسورية في ذلك الوقت، وعالجتْ قضايا اللحظة الضاغطة، إذ انصبّ اهتمامُ القضايا على هيمنة الإسلام السياسي واستبداد الدولة الوطنية، إلّا أنّ هذه القضايا اتخذتْ أشكالًا مختلفة، فكانَ لها بالتالي أولويات متغايرة في البلديْن.
تشير د. كسّاب إلى أنّه في تسعينيات القرن العشرين دشّنت الدولة في مصر حملةَ تنوير كان الغرضُ منها مواجهة تصاعد التعصّب والعنف الدينييْن، وهي حملةٌ قامتْ في جزء كبير منها على إحياء إرثِ النهضة بإعادة نشر أعمالها الكلاسيكيّة وبتنظيم مؤتمرات عن أعلامها، مثل الطهطاوي وقاسم أمين، لكن هذه الحملة تعرّضت للنقد والتصدّي من قبل مفكرين إسلاميين.
أمّا في سورية فترى د. كسّاب أنّ كتابات التنوير لم تُولِ الإسلامَ السياسي كثيرَ اهتمام، فالتفتَ المثقّفون هناك بشجاعة إلى تصوير قمع الدولة العنيف والشرس وما نجمَ عنه من تدمير للمواطن السوري، إلا أنه في أشهر قليلة سُحقَ ربيعُ دمشق، ورغم زوال ربيع دمشق مع اندلاع الثورة السورية، جاءت أدبيّات المثقّفين السوريين تُظهر فهمًا للتنوير يَرقى إلى أن يكونَ فلسفة إنسانوية سياسيّة، وهذه في نظر المؤلِّفة رؤية بديلة للرؤية السائدة آنذاك؛ رؤية غرضها استعادة الكرامة الإنسانية والحريّة من خلال ممارسة العقل العام، أي المشاركة السياسيّة بالمعنى الواسع لهذا المصطلح.
تشيرُ د. كسّاب إلى أنّه في كتابها السابق “الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن” (2010) لم تكن لديها أدنى فكرة بأنّ اضطرابًا هائلًا كان سيهزّ معظمَ العالم العربي، ومن هنا جاء كتابها الآن قراءة متأنية لمجموعتين من النقاش حول التنوير هيمنتا على القاهرة ودمشق في العقود الثلاثة الأخيرة، ومن هنا كان هدفها أن تحدّد مكانةَ هذه النقاشات في تاريخ الفكر العربي الذي سادَ في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى ثورات 2011 العربيّة، إذ رأت د. كسّاب أن هذه النقاشات تناولت الإخفاقات المتصاعدة في دول ما بعد الاستقلال، وأن ما دعتْ إليه هذه النقاشات تحت اسم التنوير لم يَعْدُ كونه شكلًا من أشكال الفلسفة الإنسانوية، إذ دعتْ تلك النقاشات إلى إعادة بناء الإنسان في المجتمع العربي وتأكيد الحياة الكريمة وحمايتها، إضافةً إلى تعزيز حقّ الناس في المشاركة السياسية والتعبئة المدنيّة، إلا أن الباحثة ترى أنّه بين شروعها في إعداد هذا الكتاب (ربيع 2011) وفراغها منه (صيف 2018) حدثت تغيّرات جذريةٌ في العالم العربي بأسره، لا سيّما في مصرَ وسورية، فالاحتجاجات السلميّة ضدّ الطغيان والفساد والظلم سُحقتْ سحقًا وحشيًّا، فتلاشتْ فُسحة الأمل.
تؤكّد د. كسّاب في مبحثها المرجعيّ أنّ الكتابات المصريّة والسوريّة صوبَ نهاية القرن العشرين بشأن التنوير جاءت واضحة جليّة إذ أنها ناقشتْ ظلمةَ أزمانها التي شاعتْ جرّاء تطوّرات أنظمة المرحلة اللاحقة على الاستقلال، وفي رأيها أنّ التنويرَ القاهري والتنوير الدمشقي اللذيْن تقوم بتحليلهما في كتابها ما هما إلّا مساعٍ فكرية للتوصّل إلى حلّ بشأن هذه الظلمة، وللاشتباك معها وتشخيصها ومن ثمّ اقتراح الإصلاحات، إذ كان واضحًا لدى روّاد التنوير استحالة تطبيق هذه الإصلاحات، فبالنسبة إلى التنويريين النقديين كان المأزق في أصلِه سياسيًا، فلم يكن ممكنًا علاجه إلا باستعادة الحقّ في المشاركة السياسيّة، ذلك أنّ التنوير بالمعنى العملي لاستخدام العقلِ وممارسة الحريةِ هو الإسهام الكفيل بتحرير المرء واستعادة كرامته ورفاهِه، وعليه ترى د. كسّاب أنّ هذا التنوير يَرقى إلى أن يكونَ فلسفةً انسانوية سياسيّة، أي نظرة مركزُها المرء إذ هو غايتها من خلال إعادة الحياة السياسيّة والديمقراطيّة.
تخلصُ د. كسّاب إلى أن نقاشات التنوير والمطالب الثوريّة أظهرتْ أن أي مطلب سياسي بالمشاركة والتحرّر كان قد بدأ بالتشكّل فعليًا في عقول الناس قبل اندلاع الثورات، إذ انفجرَ التوقُ الممتدُّ عقودًا طويلة إلى الحرية في شوارع القاهرة ودمشق، وغيرها من مدن العرب، في تظاهراتٍ جماهيريّة، إلا أنّ الأنظمة سحقتْ هذه التظاهرات، فحوّل القمعُ مصرَ إلى مملكة صمت، وحوّل العنفُ الجامحُ سورية إلى حقول قتل ومقابر جماعية وخرائب، فأمسى التنويرُ نضالًا شاقًّا أكثر من أي وقت مضى. بهذا النفَس التشاؤمي يخبتُ بصيصُ الأمل في إحياء التنوير المنشود.
“تنوير عشيّة الثورة: النقاشات المصرية والسورية” مبحثٌ رصين وكشفٌ نقدي جدّي، في ترجمة أنيقة تردّ إلى العربية رونق عبارتها.
“ضفة ثالثة”