في 27 آذار/مارس 1960، ليلة عيد الفطر، أطلقت نجاة الصغيرة “أيظن”، من شعر نزار قباني ولحن محمد عبد الوهاب. بثّت الإذاعة المصرية الحفلة على الهواء، وحصدت الأغنية نجاحاً هائلاً وباتت حديث الناس، وكان صاحب القصيدة يومذاك، سفير سوريا لدى الصين، وظلّ في بكين يتلقّى التهنئة بأغنية لم يسمعها إلا بعد شهرين من إذاعتها في القاهرة.استقبلت القاهرة “شاعر أيظن” في القاهرة في الصيف، والتقى نزار للمرة الأولى بنجاة في منتصف حزيران/يونيو، وأدلى بالعديد من الأحاديث الصحافية والإذاعية، وعبّر عن فرحه بنجاح الأغنية كما عبّر عن حزنه بهذا النجاح، وقال: “نعم حزين، لأني لست شاعر أغنية. ولقد أمضيت عشرين عاماً من حياتي أكتب الشعر لوجه الشعر، ولا أريد أن تكون “أيظن” بطاقة تحقيق شخصية يعرفني الناس من خلالها”.
نجحت “أيظن” في مصر، كما نجحت في سائر البلدان العربية، وأُعلن فوزها بجائزة “أحسن أغنية عربية” للعام 1960 في بيروت، وتوجّه أصحابها إلى بيروت لافتتاح “مهرجان الأنوار للأغنية”، وغنّتها نجاة في مسرح كازينو لبنان في ختام هذا المهرجان في الثالث من تموز/يوليو. كما في القاهرة، تابعت الصحافة أخبار نزار قباني الذي أمضى الصيف في لبنان كما يبدو، ونشرت مجلة “الأسبوع العربي” في 22 آب/أغسطس صورة له وهو يراقص إحدى السيدات، مع تعليق يقول: “شاعر أيظن في رقصة هادئة. هل تظن أنه في وصلة حب؟ نزار قباني أمضى احدى سهراته في الأسبوع الفائت في ملهى الكارافيل بين شلة من الأصدقاء”. وفي 3 تشرين الأول/أكتوبر، عادت ونشرت له صورة أخرى في بيروت، مع تعليق يقول: “شاعر الليل والكأس والمرأة، وصاحب أغنية أيظن، نزار قباني، كما ظهر عند بار لايف، دون امرأة، ونظرة شاعرية بجانب كأس. ترى بماذا يظن؟”.
في نهاية كانون الثاني/يناير 1961، نشرت المجلة صورة للشاعر وهو يلقي قصائده في أمسية شعرية أُقيمت في دمشق، وقالت في تعليقها: “عاد نزار قباني إلى دمشق بعدما غاب عنها سنوات وسنوات، فاستقبله عشاق أدبه بحرارة، في المركز الثقافي”. افتتح الشاعر يومها أمسيته بكلمة حيّا فيها “عشاق أدبه”، وقال: “كالسفينة المتعبة أعود إليكم، لأريح جبيني على جبين أصغر حصاة في بلادي. ثلاث سنوات وأنا أطوف. طموحي أوجع الشمس، ويدي احترقت وهي تصطاد النجوم، وهي تنكش في ضوء النجوم. حروق يدي لا تؤلمني. ما أشقى اليد التي تخاف تلقيط النجوم. ثلاث سنوات وأنا على خشبة مغامرة أغرقت البحر ولم تغرق. زرعت خيمتي عند سد الصين العظيم، نمت في مزارع الشاي وحقول اللوتس. غسلت وجهي بأمطار الغابات الاستوائية، حيث لزنود النساء طعم التبغ ونكهة البن المحروق. ثلاث سنوات وأنا دائخ وراء كلمة، وراء فلذة كلمة، أضيفها إلى ألوف الكلمات الحلوة التي صنعت أدب بلادي”.
وأضاف: “ثلاث سنوات وأنا أحمل بلادي في صدري، أخبّئها في جفون كل حرف كتبته، أقطّرها في كل نقطة حبر سفحتها على الورق. ثم يأتي إليك من يقول: أين الوطن في شعر هذا الشاعر؟ الوطن مرسوم في كل فاصلة، بل في كل ورشة حبر يتركها أديب على الورق. رائحة الوطن هي رائحة مدادنا. وشواطئه وجباله وأقماره ونجومه وعيون نسائه هي بعض أبجدياتنا. بلادنا مجموعة كلمات جميلة، كلمة منك، وكلمة مني، قشة تحملها أنت، وقشة أحملها أنا. هكذا يُصنع الربيع. وأنا يسعدني ألف مرة أن أكون عشبة صغيرة في هذا الربيع، أن أكون خطا بين خطوط اللوحة الكبيرة التي ترسمها أصابع الموهوبين في بلادي”.
في مطلع آذار/مارس، عاد نزار إلى بيروت، وأقام أمسية في قاعة الاجتماعات في الجامعة الأميركية، وكان قد أقام أمسية في هذه القاعة في آذار/مارس 1957، قبل انتقاله سفيراً إلى الصين. كعادتها، رصدت “الأسبوع العربي” الحدث، وكتبت معلّقة: “السلاسة والنعومة والليونة في الكلمات وفي الحضور، كانت هي الطابع المميز للأمسية الشعرية التي أحياها نزار قباني بدعوة من طلاب الهندسة، فمعظم الحضور الذين غصّت بهم القاعة كانوا من الجنس اللطيف، لطف أشعار نزار الذي أثار بها عاطفتهن. كما أثار عاطفة الجنس الخشن عندما انتقل من المرأة في شعره إلى الوطنية”. بعد أسبوع، عادت المجلة ونشرت مجموعة من الصور تجمع بين شاعر “أيظن” وملحنها في بهو فندق سان جورج، “بعدما هبط الليل، وتحت المصابيح الخافتة”، ونقلت قول عبد الوهاب لنزار: “أنا عايز غنوة جديدة كمان، وحياة أبوك، علشان أقدمها لفيروز، فالكنوز المتخبّية في حنجرتها الحريرية أنا مهتم بيها قوي، والأعمال الفنية اللي بيحقّقوها الأخوان رحباني أنا مرتاح لها خالص. فان شاء الله تقدر تقدم قصيدة حلوة تغنيها فيروز بالطريقة الحلوة اللي غنت بيها يا جارة الوادي”.
أمضى نزار الربيع في لبنان، كما يبدو، ونشرت “الأسبوع العربي” في 2 نيسان/ابريل صورة له مع سعيد عقل ونور سلمان في منزل أمين الحافظ وقرينته ليلى عسيران، وذلك في سهرة أقيمت احتفاء بصدور كتاب “فضحكت” لنور سلمان. بعد أسبوعين، حطّ نزار قباني في مدينة طرابلس حيث أقام أمسية شعرية بدعوة من جمعية “شركة نفط العراق”، وذلك بالتزامن مع صدور ديوانه السادس، “حبيبتي”، ثم حضر مأدبة أقيمت على شرفه، وألقى خلالها بعض القصائد. مرة أخرى، رافقت “الأسبوع العربي” هذا الحدث، وقالت في تعليقها ان الشاعر “قرأ قصائد من ديوانه الجديد وصفق له الحاضرون كثيراً مع كل قصيدة، لكن الكلمة التي قدّم فيها لأمسيته كانت هي القصيدة التي أسر بها نزار الناثر الجميع”.
قال نزار الناثر في هذه القصيدة الآسرة: “حين سُئلت ان أعطي أمسية شعرية في مدينتكم الحلوة لم أستطع أن أقاوم الدعوة المغرية، فطرابلس في هذه الأيام هي قارورة طيب، ومن ذا الذي يرفض السكنى في قارورة طيب. المشوار من بيروت إلى طرابلس إسراء على شريط من صحو وفيروز ولؤلؤ مكسر. إسراء على سجادة من عبير، سجادة مصنوعة من زهرات النارنج والليمون. عند مشارف مدينتكم استقبلتني رائحة زهرات النارنج والليمون. ملأت صدري، وملأت ثيابي، حتى خُيّل لي ان حدود مدينتكم مصنوعة من رائحة الجنة. هل تريدون لمدينتكم حدوداً أحلى من هذه الحدود التي لا تُرى ولا تُلمس؟”.
واصل الشاعر الكلام، وقال: “هذه أوّل مرّة أقف فيها على منبر من صنع نيسان. هذه أوّل مرّة أقرأ فيها شعري وأنا واقف على أجفان زهرة، وأنا مختبئ في ضمير زهرة. في طريقي إليكم كنت أفكّر في القصائد التي سأقرأها عليكم. أحسست بالحزن حين رأيت المزارع على طول الساحل تشتعل بألوف القناديل البيضاء والحمراء، وبألوف القصائد، وسألت نفسي: ماذا تستطيع قصائدي أن تفعل بمدينة تتسلّق القصائد على أشجارها ونوافذها وسقوف منازلها؟ أنا حزين لأنني لا أستطيع أن أضيف فلذة جمال واحدة على هذا المرفأ الذي يغزل الجمال كما تغزل العيون الإسبانية اللؤلؤ الأسود. حسب قصائدي إذن ان تكون نغمة صغيرة متواضعة في سمفونية النارنج والليمون التي تعزفها كل شجرة في مدينتكم الحلوة”.
هذه بعض من محطات الشاعر الدمشقي في لبنان في ربيع 1961، وقد تواصلت هذه المحطات في الأشهر التالية بالوتيرة نفسها. في 1962، عُيّن نزار قباني سفيراً لسوريا في مدريد لمدّة أربع سنوات، وعاد بعدها ليستقرّ في بيروت. كتبت مجلة “الحسناء” في 16 أيار/مايو 1966: “قرّر الشاعر نزار قباني ترك وظيفته في السلك الدبلوماسي والانصراف نهائياً إلى الحياة الأدبية والفنية. وقد جاء نزار إلى بيروت بعدما تقدّم باستقالته إلى وزارة الخارجية السورية، ليبحث عن شقّة في منطقة الروشة المطلّة على البحر، فقضى يومين في العاصفة اللبنانية ثم غادرها إلى دمشق على أن يعود نهائياً قبل نهاية الشهر الحالي للإقامة فيها بصورة دائمة”.
(المدن)