محمود الزيباوي: تشرب المرطبات وتنتخب..فيروز في صورة جماعية فريدة من البدايات

0

هي صورة تعود إلى نهاية العام 1952، نُشرت في العدد الأول من مجلة “الموعد” في كانون الثاني 1953، مع تعليق يقول: “لأوّل مرة يجتمع هذا العدد من المطربات في صورة واحدة وهنّ: سوسن مفرج، فيروز، محبوبة جبور، ملفينا أمين، زكية حمدان، كروان، ناديا حمدي، دولت سلطان. وكان ذلك في انتخاب الهيئة الجديدة لنقابة الموسيقيين اللبنانيين”.


تبدو هذه الصورة اليوم استثنائية، إذ تظهر فيها فيروز وهي تمسك زجاجة بيبسي وتشرب منها وسط جمع مؤلف من سبع مغنيات، غير انها في زمنها صورة عادية احتلّت مسافة متواضعة إلى جانب أربع صور مغايرة خصّصت كل منها لخبر مستقل. في طرف هذه الصورة الجماعية، على يسار فيروز، تظهر سوسن مفرج، وهي مطربة منسية دخلت عالم الفن في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وانطلقت في حفلة أقيمت في مسرح رمسيس في القاهرة، ثم أحيت حفلات عديدة، وافتتحت صالة على كورنيش الإسكندرية باسمها، وبعدها نزحت عن مصر إلى دمشق ثم إلى لبنان، وعملت في محطة الإذاعة التي أنشأها الفرنسيون باسم راديو الشرق، واستضافت محمد القصبجي في مطلع الخمسينات وتعاونت منه، وواصلت عملها في الإذاعة اللبنانية، غير أنها لم تتحول إلى نجمة من نجمات الصف الأول.

على يمين فيروز تجلس محبوبة جبور، وهي بحسب خبر ورد في مجلة “الصياد” في خريف 1948 “أحسن المطربات اللواتي يؤدّين اللون الغنائي اللبناني، وهي لم تشتهر في الأوساط اللبنانية، إلا لأنها تخصّصت في غناء هذا اللون وبرعت فيه”، غير أنها اتجهت إلى “الطرب الحديث”، وغنّت أنواعاً عديدة في لبنان وسوريا والعراق، ثم دخلت في الظل كما يبدو، وتسجيلاتها المعروفة معدودة. على يمينها، في وسط الصورة، نقع على ملفينا أمين، وهي فنانة دخلت الإذاعة كمغنية، ثم اتجهت إلى التمثيل، كما أنها ظهرت خارج الإذاعة في سلسلة من الأفلام السينمائية لعبت فيها أدواراً ثانوية. إلى جوار هذه الممثلة، تحضر المطربة القديرة زكية حمدان، وهي نجمة من نجوم الأربعينات، نشأت في حلب وسط عائلة فنية احترفت العمل المسرحي، وتمرّست باكراً في فن الغناء الحلبي والشامي المتواتر منذ أجيال وأتقنته في صباها، وعُرفت أوّلاً بين أهالي مدينتها حيث أحيت العديد من الحفلات الاجتماعية. بعدها، عملت في ملاهي سوريا ولبنان حيث استعادت العديد من أغاني مشاهير الطرب.

استقرّت زكية حمدان في بيروت في نهاية الأربعينات، وأصبحت إحدى ألمع مطربات الإذاعة اللبنانية، وارتبطت فنياً مع الملحن اللبناني خالد أبو النصر الذي قدّم لها باقة كبيرة من الأغاني تميّزت بطابعها الحديث. وتابعت مسيرتها متنقلة بين ملاهي سوريا ولبنان، كما تعاونت مع أشهر الملحنين العاملين في الإذاعة السورية وإذاعة لبنان ومحطة الشرق الأدنى، غير أنها لم تحقّق النجاح الذي حصدته في الماضي القريب. والغريب أن نجمها أفل في منتصف الخمسينات، فتقلّص نشاطها بشكل كبير، وغاب اسمها عن المجلات الفنية بشكل شبه كامل.

خلف زكية حمدان، تظهر كروان، وهي من جيل فيروز، وقد عملت معها منشدة في كورس الإذاعة في بداياتها، كما سجّلت منفردة العديد من الأغاني. تعاون معها الأخوان رحباني بشكل كبير في مرحلتهما الإذاعية الأولى، كما سجّلا معها العديد من الأعمال في السنوات التالية حيث عُرفت باسم شيراز، وذلك لتمييزها عن مطربة سورية حملت كذلك اسم كروان، غير أن شيراز لم تصعد سلم النجومية، وأشهر أغنياتها “عبده حابب غندورة”. عن يمينها، تظهر ناديا حمدي التي دخلت عالم الفن كمطربة في الاذاعة اللبنانية في هذه الفترة، ثم مالت الى التمثيل، واشتركت في تقديم بعض الادوار الاذاعية، ولمع اسمها في مسلسل شامل ومرعي. بعدها، اختارها جورج ابراهيم الخوري لمشاركته في تقديم برنامجه الصباحي “بيفرجها الله” حيث عرفت باسم أم بسام. وقد تابعت مشوارها في الإذاعة والمسرح، وباتت من الوجوه التلفزيونية الثابتة، كما شاركت في العديد من الأفلام السينمائية. أخيراً، في الطرف الآخر من الصورة، في مواجهة سوسن مفرج، تظهر دولت سلطان، وهي مغنية ناشئة دخلت الإذاعة وتركتها باكراً كما يبدو، من دون أن تترك أثراً فيها.

التألّق السريع  
دخلت فيروز الإذاعة اللبنانية في 1950 وبدأت مسيرتها الفنية فيها، ثم عملت مع الأخوين رحباني في محطة الشرق الأدنى والإذاعة السورية، وعرفت الشهرة من خلال هذا النشاط الإذاعي المتواصل. في مطلع العام 1952، كتبت مجلة “الفن” المصرية: “أصبح إنتاج الأستاذين عاصي ومنصور رحباني يملأ برامج محطات الإذاعة في لبنان ودمشق والشرق الأدنى، وقد فاوضتهما أخيراً محطة بغداد لتسجيل اسكتشات وأغنيات بأجر ممتاز، وقد تلقّت المطربة الشابة فيروز، وهي كوكب البرامج الرحبانية، رسالة من الموسيقي العالمي ادواردو بيانكو يعرض فيها عليها إقامة حفلات في مسارح نيويورك وباريس، وذلك بعدما سجلت اثناء وجوده في لبنان بعض أغانيه العالمية بصوتها الساحر ووُفّقت في غنائها كل التوفيق”.

في العام التالي، في منتصف شباط، تحت عنوان “الفيروزيون”، كتبت مجلة “الصياد”: “في دمشق عدد كبير من الطلاب والشباب يسمون أنفسهم الفيروزيون، وذلك نسبة إلى المطربة اللبنانية الجميلة الصوت والكثيرة الخجل فيروز. لقد أصبح اسم فيروز في العالم العربي على كل شفة ولسان، بل أصبح من أحب الأسماء إلى قلوب الناس وخاصة الشباب والطلاب الذين يرددون أغانيها باستمرار ويتحمسون لها وللأخوين رحباني حماستهم لمجد وطني أو ظاهرة قومية. اننا نهنئ فيروز بهذا النجاح الرائع ونهنئ محطة الشرق الأدنى والمحطة السورية اللتين كان لهما الفضل في إذاعة شهرة مطربتنا وشهرة الأخوين رحباني. أما محطة لبنان فيؤسفنا اننا لا نستطيع أن نوجه إليها أية تهنئة بهذا الخصوص”.

في هذا السياق، في خريف 1953، نشرت مجلة “الإذاعة” مقالة عنوانها “الفتاة التي مسحت جميع مطربي ومطربات الشرق العربي”، وأوضحت في المقدمة: “هذا مقال كتبه الزميل وفيق العلايلي في لحظة من لحظات اندفاعه في الاعجاب بالمطربة الممتازة الآنسة فيروز، واذا كنا نشاركه الاعجاب بها، فنحن لا نشاركه القول في أنها مسحت جميع مطربي ومطربات الشرق، لأننا نعتقد أن سرّ نجاح فيروز هو أنها استطاعت ان تقف جنباً إلى جنب مع مشاهير المطربين والمطربات”. رأى العلايلي في فيروز ظاهرة فنية استثنائية، وقال: “هذه الفتاة التي لم يمض عليها إلا سنوات معدودة، ولا يعرفها الناس إلا من وراء المذياع والمذياع فقط، دخلت في نفوس جماهير الشرق العربي وأصبحت الحلم الذي يراود مخيلتهم في الليالي الحالمات الهادئات. هذه الفتاة التي لا يعرف أكثر الناس صورتها، وشكل وجهها، ولون عينيها، قد أصبحت الفكرة المسيطرة لكل من أحب الطرب والمطربين”.

أضاف الكاتب متسائلاً: “أية قوة تكمن وراء هذه الفتاة الضعيفة. وأي سحر حطّ رحاله في أوتار صوتها فجعل سامعيها يذوبون رقةً وطرباً”. ثم نقل عن الوجيه محمد علي بيهم، رئيس دار الأيتام الإسلامية في بيروت، قوله حرفياً: “ان فيروز قد عادت إلى نفسي حب الطرب العربي بعد أن سئمت أغاني كبار المطربين والمطربات وألحانهم المائعة المتشابهة وأصواتهم التي لا تتغير. وأكثر من ذلك، لقد أصبحت أكثر العائلات في لبنان، ان لم أقل كلها، تدير أزرار الراديو ومفاتيحه باحثة عن الصوت الذهبي الذي يتردد مع أمواج الأثير عبر الصحراء والنخيل إلى الشواطئ العربية. إن في نجاح فيروز السريع عبرة لكل من لا يعترف بالمواهب الحقة، ويقول إن الوساطات والشفاعات تتدخل حتى في الفن. ان في غناء فيروز شخصية خاصة به، وقد يكون الصوت قويا وجميلا، ولكن عندما لا يكون له “برسوناليتي” فهو كغيره من أصوات المطربين الذين لا يُحصى عددهم”.

ختم العلايلي مقالته بتوجيه تحياته الخالصة إلى الأخوين رحباني “اللذين اكتشفا هذا الينبوع، بل هذا الكنز الفني النادر”، ورأى أنهما “يسيران مع العصر، عصر الحركة الدائمة، ويتعمّدان أن لا يدخلا الملل إلى نفوس المستمعين”. وأضاف: “لي كلمة صغيرة أهمسها في أذانيهما المرهفة، وهي أن يجعلا اللون العربي يتغلّب على اللون الأوروبي حتى يأتي الطابع الموسيقي موافقاً للبيئة التي تعيش فيها مع هذا التجديد المستحب الذي سارا به في طريق النجاح. وأخيرا، أن يبتعدا عن شعر وموسيقى المناسبات لأن المناسبات لا تتفق مطلقاً مع الفن الحر الطليق”.

*المدن