محمود الزيباوي: الحسكة العطشى وخرائط الأوهام وحدود الكراهية

0

تحت عنوان “الحسكة عطشى”، تشهد مواقع التواصل الاجتماعي حملة تطالب بتزويد هذه المدينة وريفها بالمياه إثر انقطاعها بشكل متواصل لأكثر من أسبوعين متواصلين. ووسط تقاذف الاتهامات بين القوى المتصارعة في الجزيرة السورية، تستمر معاناة مئات الآلاف من المدنيين من الظمأ في جو صيفي صحراوي يزيد معاناتهم معاناة.
تقع مدينة الحسكة عند نهري الخابور وجقجق، وقد اشتهرت في الماضي بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها، غير أن حالها تبدّلت في العقدين الأخيرين بسبب جفاف الخابور الذي أدى إلى خروج الكثير من مساحاتها الزراعية من الإنتاج، مما دفع الكثير من أبنائها إلى النزوح الداخلي. ومدينة الحسكة مركز محافظة تحمل اسمها، وتقع في أقصى شمال شرق الجمهورية سورية، ويحدها شمالاً تركيا، وشرقاً العراق، وجنوباً محافظة دير الزور، وغرباً محافظة الرقة. تبلغ مساحة هذه المحافظة 23 ألف كيلومتر مربع، وتقسّم إلى أربع مناطق تتبعها 14 ناحية، وهذه المناطق هي الحسكة، القامشلي، رأس العين، والمالكية.

لا نجد في كتب البلدان التراثية أي ذكر لاسم الحسكة، مما يعني ان هذا الاسم حديث، وهو على الأرجح تعريب لاحق للتسمية التركية “الحسجة”، وهي التسمية التي لا تزال شائعة في أوساط البدو، ومعناها، بحسب المقولة الشائعة، الأرض التي يكثر فيها غيض الماء، وهو الغيض الذي كان يحدث مع فيضان نهر الخابور الذي ينبع من مدينة رأس العين على الحدود التركية شمالا، ويمر بالحسكة ليصب جنوباً في نهر الفرات قرب محافظة دير الزور. تُعرف هذه المنطقة اليوم بالجزيرة السورية، وهي تاريخياً جزء من الجزيرة الفراتية التي عُرفت في زمن العباسيين باسم جزيرة أقور، وهي يحسب تعريف ياقوت الحموي الجزيرة “التي بين دجلة والخابور، مجاورة للشام، تشتمل على ديار مضر وديار بكر، وسميت بالجزيرة لأنها بين دجلة والفرات”، “وهي صحيحة الهواء جيدة الريح والنماء، واسعة الخير، بها مدن جليلة وحصون وقلاع كثيرة، من أمهات مدنها حران والرها والرقة ورأس عين ونصيبين وسنجار والخابور وماردين وآمدو ميافارقين والموصل”. 

بحسب التقاسيم الإدارية المعاصرة، ضمت الجزيرة الفراتية محافظة نينوى ومحافظة صلاح الدين وأجزاء من محافظتي كروك والأنبار في العراق، ومحافظة الحسكة وأجزاء من محافظتي دير الزور والرقة في سوريا، ومحافظات أورفة وماردين وديار بكر وبطمان ومناطق أخرى من تركيا حيث تُعرف باسم شرق الأناضول. تحتلّ محافظة الحسكة القسم الأكبر من الجزء السوري من الجزيرة الفراتية، وهو الجزء الذي بات يُعرف بالجزيرة السورية، وتتسم بتاريخين، تاريخ موغل في القدم كشف عنه علماء الآثار، وتاريخ حديث يبدأ مع نهاية الحقبة العثمانية، وهو التاريخ الذي استكشفه الباحث جمال باروت في كتابه الموسوعي “التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية” الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة سنة 2013. 

عانت الجزيرة السورية، اجتياح جحافل هولاكو في العقود الأولى من القرن الثالث عشر، وخربت عند اجتياح جحافل تيمورلنك في نهاية القرن الرابع عشر، فتصحّرت وهُجرت، وبعد قرنين من الزمن، سيطر العثمانيون عليها، وسعوا إلى تنميتها، غير أنهم لم ينجحوا في ذلك، فبقيت أرضاً شاسعة تعبرها عشائر من البدو الرحّل. بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، استقرت عشائر من الحجاز ونجد، في بعض من نواحي المنطقة، وسيطرت على ضفتي الفرات ودجلة، غير ان الجزيرة السورية ظلت خالية من الحواضر العمرانية، وبقيت على هذه الحال مع انتقال السلطة الى الفرنسيين حيث بدت أرضا شاسعة تعبرها عشائر من البدو. بدأت حركة العمران في هذه الحقبة، وتمثلت في نشأة مدن وقرى جديدة فوق المدن التاريخية المندثرة وعند نواحيها.

من المفارقات التاريخية المثيرة، أن فرّ العديد من الأرمن والسريان والأكراد في هذه المرحلة المتقلبة من الجزيرة التركية حين انتهج أتاتورك سياسة التتريك، ولجأوا إلى الجزيرة السورية، وعمدت السلطان الفرنسية إلى تثبيت هذه الهجرة حيث اعتبرت كل من يُصلح أرضاً ويزرعها على مدى خمسة أعوام مالكاً لها. هكذا استقرّت عشائر البدو من جهة، وانتقلت من الخيم وأكواخ القصب إلى البيوت الطينية، ونشأت بلدات وقرى سريانية وأرمنية من جهة أخرى. انتقل السريان اليعاقبة من نصيبين إلى مدينة القامشلي المحدثة، كما انتقلوا من قلعتمرا إلى الحسكة الوليدة. كذلك، انتقل السريان الآشوريين من الجزيرة العراقية إلى الجزيرة السورية، واستقروا عند ضفاف نهر الخابور، بين رأس العين والحسكة.

من ناحية أخرى، أدت الثورات الكردية الفاشلة إلى هجرة مشابه إلى الجزيرة السورية، ومع تواصل الصراع التركي الكردي، تعاظم شأن هذه الهجرة، وتضاعف عدد الأكراد في الجزيرة السورية. تخوّفت الحكومة السورية من هذه الهجرة الكردية إلى الجزيرة السورية، واتّهمت السلطاتِ الفرنسيّة بتشجيعها بهدف إضعاف المجتمع السوريّ، وأوفدت وزيرَ المعارف محمد كرد علي إلى الجزيرة لدراسة الواقع، وهو من مؤرّخي الشام الوطنيين ومن الأكراد المندمجين، فأعد تقريرًا في أواخر العام 1931، وحذّر فيه من مخاطر الهجرة من تركيا على أمن سوريّة، واقترح “إسكانَ المهاجرين في أماكن بعيدة عن حدود كردستان لئلّا تَحْدث من وجودهم مشاكل سياسيّة تؤدّي إلى اقتطاع الجزيرة من جسم الدولة السوريّة” كما طرح “إعادةَ توزيع الأرض بشكل عادل، وانتهاجَ سياسةٍ اندماجيّة قوميّة مبكرة”.

تضاعف عدد البلدان والقرى بشكل كبير في الجزيرة السورية، وتحوّلت الحسكة والقامشلي والمالكية إلى مدن. وجاء هذا التحوّل بشكل أساسي مع انتقال المهجّرين من ماردين وضواحيها إلى الحسكة، وانتقال المهجّرون من نصيبين وضواحيها إلى القامشلي. وإثر توقيع اتفاقية 1936، خرجت أصوات تدعو للمطالبة باستقلال نسبي للجزيرة، غير ان الجزيرة اندمجت بالدولة السورية بعد بضع سنوات، وسعت الحكومة إلى اعمارها والنهوض بها. غير ان الصراع التركي الكردي ظلّ دائراً، ومع تواصله تواصل تدفق الأكراد المهاجرين إلى الجزيرة السورية في الخمسينات. في شتاء 1963، سيطر حزب البعث على الحكم، واتخذ سياسة مناوئة لتوافد الأكراد إلى الجزيرة وحصولهم على الجنسية، غير ان هذه الهجرة استمرت، واتخذت بعدا جديدا في نهاية السبعينات مع صعود حزب العمال الكردستاني وتوتر العلاقات السورية التركية.  

يشكل أحد وجوه الصراع الذي يدور اليوم في الجزيرة السورية استمرارية لهذا الصراع القديم، ويتجلّى ذلك في ظهور طيف كردستان سورية بالتزامن مع تحوّل كردستان العراق إلى واقع ثابت. في غضون ذلك، تعاني الحسكة من العطش، ويستمر تقاذف الاتهامات ين القوى المسيطرة على ريفي الحسكة والرقة ممثلة بفصائل الجيش الوطني السوري من جهة، وفصائل قوات سوريا الديموقراطية التي باتت تُعرف بـ”قسد” من جهة أخرى، كما يستمر تقاذف الاتهامات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تنادي بإنقاذ الحسكة من العطش. 

في صفحته الخاصة، كتب مواطن سوري من دير الزور يُدعى مأمون داود كنامة: “أن يكتب مَن يكتب عن عطش الحسكة اليوم، فهو إمّا عربي أو كردي، مسيحي أو مسلم، تركي أو سرياني، أو شيء ممّا سبق مع مشحة وطنيّة سوريّة تُستخدم للتّضليل غالباً. الجغرافيا السوريّة هي جغرافيا بشريّة فئويّة، وخرائط من الأوهام وحدود من الكراهيّة، قبل أن تكون جغرافيا طبيعيّة. والحَلِق النّاشف من كُثْر الصّمت، ما مِنْ وراه غير العَطش”.

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here