محمود أبو حامد: في زمن “النت” مَنْ يقود مَن.. الإعلان أم الإعلام؟

0

هي في طريقها إلى الانقراض، يبدو أن الصحف الورقية قد تراجعت شكلاً ومضموناً أمام الانتشار المتسارع للسوشيال ميديا. وبدأ الإعلام يتراجع أمام الإعلان وسطوته الوقحة، بل ويمكننا القول إنه بات ينقاد له أحياناً.

لا يأبه كثيرون للفرق بين الإعلام والإعلان، وإن اجتهد البعض في البحث عن ذلك، فإن الفارق المقنع هو أن هناك وسائل إعلام سمعية وبصرية تحيطنا علماً بكل ما يحدث، وإن الإعلان هو ما يختص بالإعلانات التجارية وغيرها.لكن الأمر في واقع الحال مختلف عن هذه الاستنتاجات السائدة، فمن الناحية اللغوية هناك خلاف بين القواميس العربية على ذلك، وهناك خلط واضح بين الإعلام والإعلان، والأقرب إلى الاتفاق بينها تعريف الإعلام بأنه: إبلاغ المخاطَب أمراً.. أو تم إعلامُ الطلاب بنتائج الامتحانات.. أو نشرت الشركة إعلاناً تجارياً في الصحافة.. ووزارة الإِعلام، هي الوزارة المسؤولة عن الإعلام الرسمي، أي نشر ما تراه الدولة في الصحف والمجلات والتلفزة والإذاعة.

تبادل إشكالي

ولكن من الناحية الإجرائية، أو العملية، قد يصير الإعلام إعلاناً، والإعلان إعلاماً في تبادل إشكالي للمقدمات والنتائج.. وهذه الحالة أو هذا النموذج من الخلط والتداخل بين الإعلام والإعلان يتكرر يومياً بتجلياته البسيطة، ولكن بعد سيطرة الصورة يمكننا القول إنها صارت أكثر من نصف الخبر عامة، يعني للمشاهد المحايد الذي يحدد استخدام أذنيه وعينيه.. بدءاً من علبة سجائر (مارلبورو) في أفلام الكاوبوي.. ومروراً بالشاشات الفضية والنت، فهذا قلم من نوع كذا بيد المذيع الأنيق.. وذاك عقد برقبة مذيعة مع شعرها المصبوغ.. وأزياء وموديلات وماركات. فتطفو هذه الإعلانات الصامتة في غياب تأثير الخبر، ولا ينقصها إلا رائحة عطر أصحابها.

أما بخصوص الإعلانات الصحافية، وربما لايعرف البعض أن سعر آلاف النسخ من الجرائد لا يغطي تكلفة تحرير وطباعة نسخة واحدة من جريدة ما، فكل ميزانيات المؤسسات الإعلامية قائمة على الإعلانات وخاصة من: مات الملك، عاش الملك، تزوّج الشيخ.. أنجب الأمير .. وفاز الحصان الأصيل وخسر منتخب البلاد؛ كل هذه الاخبار لا يتجاوز ” مانشيتها” عدة كلمات لكن صورها تُباع بآلاف الدولارات، وقد يصل الإعلان في الصفحة الأولى أو الثانية أو الأخيرة للجريدة إلى مئة ألف دولار. وعليه فإن الخراب بدأ يطول كل المؤسسات الصحفية الورقية لأن الشبكات العنكبوتية أكلت جميع الإعلانات بأرخص الأسعار. ولكن كيف صارت طبيعة العلاقة بين الإعلام والإعلان؟

في الصحف التقليدية كانت الأخبار الرسمية والمؤسسات العامة المورد الأول للإعلانات، ومن ثم المؤسسات الخاصة، وباقي الأسواق ووسائل الترفيه.. وسيطرت الصورة وساد الكذب والابتذال واستغلال جسد المرأة وتقنية الدعاية و.. وكل ما يدفع القارئ لشراء السلعة المعلن عنها.. وكان همُّ الجريدة دائماً توسيع دائرة قرّائها سعياً لانتشار إعلاناتها.. ولذلك سادت صفحات المنوعات والرياضة والأزياء والتسوق.. على باقي الصفحات، وضعفت وضاعت الأخبار النوعية.

الشبكات العنكبوتية

في الشبكات العنكبوتية بدأت تتشكل اختلافات جديدة من حيث التحرير وآليات العلاقة بين الخبر والإعلان عن الصحف الورقية، والإعلانات صارت أشدُّ وقاحة وقذارة، فلا يمكنك الاشتراك في تطبيق ما، أو حتى فتح بريدك الشخصي دون مرورك على إعلان ما، أو مرور إعلان ما عليك. وكونه لا يمكنك اختيار الصفحة التي تريد، واستخدام الورقة التي لا تريد كغطاء لطاولة الطعام أو للف “سندويشة ” فلافل بها، صار عليك أن تقبل بالإعلان المفروض عليك قسراً حتى تصل بلمسات أصابعك وعينيك إلى الموقع أو العنوان الذي تريد.. وحتى حين تصل، يقفز إعلان هنا أو صورة هناك معكرين عليك خلوتك أو صفاء انسجامك مع ما تشاهد أو تقرأ. وإن قررت قراءة خبر ما، فعليك أن تشاهد بعد مقدمة الخبر عشرات الإعلانات حتى تصل إلى متنه، وحتى أثناء القراءة تعود تلك الإعلانات من جديد.

وما صار يميز الشبكة العنكبوتية أنها فرضت معايير جديدة على عالم الإعلام، ففي زمن “السوشيال ميديا” تغيرت الوسائل وتغيرت العقليات وخطط العمل، بل والبحث عن اختصاصات جديدة لمواكبة تطورات العصر والمحافظة على قواعد المهنة الإعلامية بمفهومها العام من جهة، واستخدام التطورات التكنولوجية التي فرضت أشكالاً جديدة للأخبار والإعلانات من جهة ثانية، فكان لا بد من تطوير اختصاص جديد سمي “بالإعلام الإلكتروني” وحاول الجمع بين أصالة المهنة الصحافة والتقنيات الجديدة على كل الأصعدة والمستجدات.

ومع وجود هذا ” الإعلام الإلكتروني” صار من الضروري أيضاً

 البحث في كيفية اللحاق  بتداعيات هذا التغير التكنولوجي الكبير على طبيعة المتلقي الذي تحول إلى وكالة “أنباء خاصة” وصار صانعاً للخبر، كما تجلى ذلك في الربيع العربي عبر بث الأخبار والصور من مواقع الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وعليه رأى البعض أنه علينا التركيز على القصص الصحفية المعمقة التي تبدأ من حيث ينتهي الخبر.

تسخير كل شيء

ومع التطورات العالمية المتسارعة، واكبت الوسائل الإعلامية جل المتغيرات، واشتغلت على تسخير كل شيء من أجل الترويج للسلعة المراد طرحها في السوق، ومن أهم ” أدوات ” الترويج حالياً الرياضة بكل أشكالها وألعابها وطقوسها، في الملاعب وفي الشوارع وفي الأندية والفضاء والطبيعة.. وصولاً إلى الإنسان “اللاعب” الذي صار يُباع ويشترى، ويتبادل الفوائد المالية مع الأشياء، وآخر صرعة كنزة ليونيل ميسي الرياضية ذات الرقم 10 التي يستثمرها فريق برشلونة بعد ترك ميسي للنادي.

وقد استغلت السوشيال ميديا عامة هذا الحدث كما تستغل شهرة الرياضيين وحركتهم وتنقلهم، واكتسبت الملايين من وراء الإعلانات التي قاموا بها، وأكسبتهم بدورها الملايين،  فقد أشارت الإحصائيات إلى أن البرتغالي كريستيانو رونالدو، قد حصد أكثر من 47 مليون دولار من 49 إعلاناً، وليونيل ميسي 23.3 مليون دولار من 26 إعلاناً.

وكما تقوم الشركات بتسخير الرياضة لإنتاج الأحذية والثياب وباقي الكماليات، تسعى أيضاً شركات السيارات إلى تسخير كل شيء من أجل الترويج لسلعها الجديدة، ومن الأمثلة الشاملة على كل ذلك سيارات “بورش” الفرع التابع لشركة “فولكسفاغن” العملاقة، التي قامت بتسخير الرياضة والبيئة والإنسان للدعاية لها، فقد اجتاز السائق لارس كيرن، الذي أجرى اختبار قيادة سيارة بورش تايكان التجريبية، المضمار الأسطوري المشهور باسم “الجحيم الأخضر” في سبع دقائق و42 ثانية، محققاً رقماً قياسياً جديداً في موسوعة غينيس.. وأعلنت أن بورش تايكان 2020 تستطيع أن تسير أكثر من 400 كيلو في الشحنة الواحدة ويمكن شحنها من 5% إلى 80 % خلال 22 دقيقة فقط وتأتي من الخارج بتصميم جذاب جداً ولافت للأنظار.

وفي الوقت الذي تقول فيه: إذا لم تغير “بورش” دورتها الإنتاجية، فإنه قد يتم طرح السيارة “911 الهجينة” بحلول 2023. وقريباً هي بصدد إنتاج وقود جديد صديق للبيئة وسيكون نظيفا مثل محركات السيارات الكهربائية.. تقدم هذه الشركة برامج تدريبية لللاجئين، وكما تقول : “فضلاً عن السعي لدمج اللاجئين، يأتي برنامج بورش أيضاً تلبية لحاجة متزايدة إلى يد عاملة مؤهلة في بعض القطاعات في ألمانيا، مثل صناعة السيارات، في ظل شيخوخة السكان في هذا البلد. وتعلق الأوساط الاقتصادية آمالا كبرى على اللاجئين للحد مستقبلاً من النقص في اليد العاملة، لكن هذا يتطلب مجهوداً هائلاً على مستوى التدريب”.

صناعة الوهم

إن الإعلانات لا تشدك فقط إلى النزعة الاستهلاكية، بل تحدد ميولك وإدمانك على الجهة أو الوسيلة التي تبثها أو تنشرها، واليافعون هم الضحية الأولى للأسف فثمة مستنقعات مليئة بالإثارة والاستهلاك تجذب بعض الشباب والمراهقين عبر الإعلانات إلى أهداف خفية وخطيرة ونوادٍ شاذة ومواقع مرعبة.. وقد يصير الإعلان هدفاً للوصول إلى أخبار دينية وأيديولوجية وسياسية لجهات متطرفة. 

وهكذا يتم تبادل الأدوار دون أن ندري، فالإعلان يقودنا إلى الإعلام وإلى الأخبار التي يريدونها، والعلاقة المتبادلة بينهما تؤدي إلى صناعة الوهم التي صارت بحاجة إلى مراجع ومناهج وجامعات ومعاهد وباحثين وخبراء. وصار “الإعلام” يسقط رؤساء ويغيّر أمماً ، وصار ما يسمى “السبق” وسرعة الإعلان عن الخبر ذاته، وما وراء الخبر يصلنا وقد تم طبخه منذ سنين ضوئية وبدلاً من البحث والتقصي الدائم عن الحقائق ونشرها.. نكون ضحية من يعلن أولاً عن وهمنا وكيفية الشكل الذي يعلن فيه أو من خلاله هذا (الخبر/ الحقيقة/ الوهم) الذي قد يكون بدون مصدر، وبتواتره يصح المثل القائل: “اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون” ولربما تصدق نفسك أيضاً في النهاية!

و”يوماً عن يوم” يتكشف لنا عالمياً أن الأمر أشد خطورة وهولاً، فثمة خبراء ومختصون لصناعة أخبارنا نحن، ولتجيير علاقة الإعلام بالإعلان لمآرب استعمارية وسلطوية وأيديولوجية وتجارية أيضاً. وفي تناول الأحداث التي يمر بها الوطن العربي الكثير من الأمثلة على أن ما هو معلن عنه ليس الحقيقة أو كلها، أو ليس كل ما يحدث، وما يعلن عنه وتروّج له وسائل الإعلام بشتى الأساليب النظيفة والقذرة، قد نصير ضحيته أو مستلبين اتجاهه، أو ينثر في عيوننا رماد العماء، ويشلّ تفكيرنا، ويكلّس ذاكرتنا، هذا إضافة إلى تحديد أولوياتنا… فكل يوم أحداث جديدة في كل العالم، لكن وسائل الإعلام بتقنياتها الحديثة، تدخل البيوت متى تشاء وتعلن عما تريد، مع سبق الإصرار والترصد، فما تعلنه عما يحدث في العراق مثلاً، قد يقلل من اهتمامنا بما حدث في ليبيا، أو ما تنشره عما يحدث في سوريا ولبنان، قد يقلل من معرفتنا بما يحدث في السودان أو في فلسطين.

وهكذا يدور ويدور السجال حول أحقية “المقاومة” وشرعية “الجهاد” ومرجعية “القبيلة” بين العائلة و”الطائفة”، فننسى الشهداء ونبكي على الخلافات الداخلية.. وهكذا متى يريدون يطفون بتقرير ما إلى السطح، ويغرقون مقررات وتقارير حتى لو أقرتها الأمم المتحدة. ومتى يريدون يسلطون الضوء على بقع غائبة في الذاكرة، ويسدلون العتمة على لمعان الحقائق في الواقع. وكل هذا من خلال تحكم صنّاع الوهم بتلك العلاقة العجيبة الغريبة بين الإعلام والإعلان، متكئين على ثقافة متجددة للصورة، تعزز قدرتهم السحرية على تحديد عواطفنا ولون دمعتنا وحجم أحزاننا وكيفية حدوثها، وعلاقة دوافعنا في بحثنا وفضولنا، أو في قبولنا بواقعنا واستلابنا لكل ما هو آت.

*تلفزيون سوريا