محمود أبو حامد: دوستويفسكي.. من بوتين إلى نيتشة ومن طاغور إلى فرويد

0

اعتمدت منظمة اليونسكو هذا العام (2021) عاماً لـ دوستويفسكي، بمناسبة مئويته الثانية، ويصادف الحادي عشر من هذا الشهر أيضاً مولده في العام 1821 بالعاصمة الروسية موسكو. وإن كان هذا الاحتفاء يجدد ذكراه وعالمية إبداعه وتميزه الأدبي والفلسفي والفكري والجمالي، فإن البعض يرى أن صداه ما زال مستمراً حتى في السياسة، مستشهدين على ذلك بتصرفات وسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التوسعية، وعلاقتها القديمة بالأدب الروسيّ المسمى بالروح الرّوسية.

ويَرون أنَّه من أجل فهم بوتين جيداً، يجب الانتقال إلى كتابات دوستويفسكي؛ التي ميّزت هذه الروح الروسية تجانسياً، إذ تُعدّ روسيا، بحسب دوستويفسكي، هي الأكثر تطوراً من الناحية الروحية لجميع الدول السلافية. وكونها البلد الأمّ لعائلة حميمية من الدول، فإنَّها ستستوعب هذه البلدان والشعوب القريبة إلى الحظيرة، ويجب على قادتها العمل نحو هذه المهمة.

لكن ما يُحاول بوتين فعلَه هو إساءة واضحة لتأويل وتفسير أعمال دوستويفسكي؛ لأن هذا الأديب العبقري كان من أكثر الكُتّاب إيماناً بالحرية؛ كالحرية الفردية، وحرية التعبير. ويعد الروائي والصحفي والفيلسوف (فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي) واحداً من أشهر الكُتاب والمؤلفين حول العالم، والذين تحتوي رواياتهم  فهماً عميقاً للنفس البشرية وتقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية والجمالية لروسيا في القرن التاسع عشر.

نشأته وبداياته

بدأ دوستويفسكي قراءته الأدبية في عمر مبكّر من خلال قراءة القصص الخيالية والأساطير من كُتّاب روس وأجانب. توفّيت والدته عام 1837 عندما كان عُمره 15 سنة، وفي نفس الوقت ترك المدرسة والتَحق بمعهد الهندسة العسكرية. وبعد تَخرّجه عَمِل مُهندساً واستمتع بأسلوب حياة باذِخ، وكان يُترجم كُتباً في ذلك الوقت أيضاً ليكون كدخلٍ إضافيّ له. في مُنتَصف الأربعينيات كَتب روايته الأولى “المساكين” التي أدخلته في الأوساط الأدبية في سانت بطرسبرغ حيث كان يعيش.

وفي عام 1849، ألقي القبض عليه لانتمائه لرابطة (بيتراشيفسكي) وهي مجموعةٌ أدبية سريّة تُناقِش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكِم في روسيا وحُكِم عليه بالإعدام، ولكن خُفف الحُكم في اللحظات الأخيرة من تنفيذه، فقضى 4 سنوات في الأعمال الشاقّة تلاها 6 سنوات من الخدمة العسكرية القسرية في المنفى.

في السنوات اللاحقة، عَمِل دوستويفسكي كصحفيّ، ونَشر وحرّر في العديد من المجلّات الأدبية، وعُرِفت تلك الأعمال بـ (مذكرات كاتب) وهي مجموعة من مقالاته خلال أعوام 1873-1881. واجه صعوبات مالية بعد أن سافر لبلدان أوروبا الغربية ولعب القِمار، لكنه في نهاية المطاف أصبح واحداً من أعظم الكُتّاب الروس وأكثرهم تقديراً واحتراماً، وقد تُرجِمت كتبه لأكثر من 170 لغة. كما تأثر بعدد كبير من الكُتّاب والفلاسفة في ذلك الوقت، وأثّرت كتاباته على العديد من الكُتّاب الروس وغير الروس، منهم جان بول سارتر، وفريدريك نيتشه، وأنطون تشيخوف، وألكسندر سولجنيتسين..وغيرهم.

تأثيره وتأثّره

خالط دوستويفسكي أشخاصاً من جميع الطبقات والأديان وسط ظروف السجن القاسية، وبفضل هذه التجربة لامس موضوعاً مقرباً جدّاً من قلب ليو تولستوي الذي وصف رواية “مذكرات من بيت الأموات” بأنها أفضل عمل في جميع الأعمال الحديثة، بما في ذلك أعمال ألكسندر بوشكين.

عاش تولستوي طوال حياته حُرّاً، في حين أمضى دوستويفسكي جزءاً كبيراً من حياته، بعد خروجه من السجن، في سداد ديون القمار الضخمة للدائنين، وألّف معظم رواياته بعد إطلاق سراحه وخلال معاناته من القلق المزمن والإفلاس المالي وحالة عصبية تعرف بـ”متلازمة جشوند”، وقد ابتعدت كتاباته عن الرومانسية التي كانت حاضرة في رواياته الأولى، وأصبحت أكثر قتامة وسبراً لأغوار قلب الإنسان وعقله.

وفي فبراير 1881 كتب ليف تولستوي رسالة إلى نيكولاي ستراخوف جاء فيها: “كم كنت أود لو استطعت أن أقول كل ما أشعربه تجاه دوستويفسكي.. أنا لم أر هذا الشخص قط، ولم تكن لي أي علاقة مباشرة به، ولكن فجأة عندما مات، أدركت أنه كان اقرب إنسان إليًّ، وأعز إنسان على قلبي، وأكثر من كنت بحاجة إليه. لقد كنت أديباً، وكل الأدباء مغرورون، وحسودون. وأنا -في الأقل- أديب أيضاً. لم يخطر ببالي إطلاقاً ان أقارن نفسي به. لأن كل ما كان يبدعه، من أدب جيد وحقيقي يعجبني، ويجعلني أفضل حالاً. الفن يثير غيرتي، والعقل أيضاً. ولكن الفن لا يشيع في القلب إلا الفرح. لقد اعتبرته صديقاً، ولم أفكر بخلاف ذلك. وكنت أظن إننا سنلتقي، ولكن ذلك لم يحصل. وفجأة – وانا أتناول وجبة العشاء وحدي لتأخري – وقع نظري على نبأ وفاته. ذهلت، واتضح لي، كم كان عزيزاً عليّ، وبكيت، وأنا الآن أبكي”.

العمق النفسي

أصبح اسم دوستويفسكي مرادفاً للعمق النفسيّ للأجيال، حيث أن عُمْق وتناقض شخصيات أبطاله جعل من النظريات النفسية المنهجية تبدو سطحية. وقد حاول العديد من المنظّرين، أبرزهم عالم النفس سيغموند فرويد؛ التأكيد بأنَّ دوستويفسكي يُعدُّ سابقاً لهم في هذا العمل. وإدراكه للشّر، ومحبته للحرية جعلتْ له أهمية خاصة في قرن الحروب العالمية والإيديولوجيات الشمولية. فعلى الأقل ثلاث من أفضل الروايات العالمية في القرن الـ20 تأثَّرتْ بعمله، وتُعدُّ مُستمدَّةً من كتابته لهذه الروايات الثلاث؛ وهي رواية جورج أورويل “1984”، ورواية ألدوس هكسلي “عالم جديد شجاع”، ورواية الروسيّ زامياتين يوفجيني “نحن”.

والكاتب الأيرلندي جيمس جويس يشيد بكتابات دوستويفسكي مؤكداً أنه الروائي الذي ابتكر النثر الحديث، وصقله في شكله المعاصر، وقد حطم أسس روايات العصر الفيكتوري الأوروبي بفكرها البسيط والممارسات الشائعة المنسقة والخالية من الخيال والعنف.

هذا التأثير واضح في أعمال العديد من كتّاب القرن الـ20 المرموقين. وكانت الصدامات بين الفرد والمجتمع والحداثة عنصرا مميزاً في معظم كتابات دوستويفسكي بعد خروجه من السجن.

ويعدّ كتاب “الشياطين” الذي يتميز بأسلوب السخرية الاجتماعية والسياسية أفضل وصف للأوضاع الحديثة، لا سيما في عالم السياسة الجماهيرية، حيث يصور البشر بوصفهم عبيداً أبديين بسبب غرائزهم الحيوانية، ويوضح دوستويفسكي ما يحدث عندما يصبح الناس عبيداً للأفكار التي يُنظر إليها على أنها أكثر واقعية من الكائنات البشرية. يسبق هذا الفكر الثورة اللينينية بنحو 50 عاماً، وقد حاول دوستويفسكي تحذيرنا من أصحاب الأيديولوجيات حتى إن كانت لهم أفكار عظيمة عن طرق تحسين الإنسانية، ولا سيما أولئك الذين يبررون أي وسيلة لخدمة معتقداتهم. باختصار، إن الأفكار التي تتبنّاها الشخصيات في روايات دوستويفسكي تمثل انعكاساً لأفكاره الشخصية.

 وشخصية رواية الإخوة كارامازوف الأكثر روعة “إيفان كارامازوف” أصبحَ بحلول منتصف القرن العشرين رمزَ التمرّد الوجوديّ في كتابات ألبير كامو وجان بول سارتر، وقد قدّم ألبير كامو مسرحيةً لرواية “الشياطين”؛ ويُقال إنَّ الفيلسوف “لودفيج فيتجنشتاين” قد قرأ الأخوة كارامازوف قراءة مثيرةً ، لدرجةِ أنَّه كان يحفظ  مقاطع كاملة منها عن ظهر قلب، وكانت نسخة من هذه الرواية واحدةً من المُمتلكات القليلة التي جلبها فيتجنشتاين معه إلى الجبهة أثناء الحرب العالمية الأولى. أما الفيلسوف مارتن هايدغر أحد الوجوه البارزة للفلسفة الوجودية، فعبر عن أنَّ فِكْرَ دوستويفسكي كان واحداً من أهمّ مصادر كتابه الشهير “الكينونة والزمان”، فقد كان هايدغر متأثراً بأعماله بدرجة كبيرة وصلت إلى حد أنَّ واحدةً من الصورتين المعلَّقتين على جدار مكتبه كانت إحداهما لدوستويفسكي. ووصف المؤلِّف هيرمان هِسه الحائز على جائزة نوبل دوستويفسكي على أنَّه ليس روائيًاً أو شاعراً فقط، بل “نبياً”..

الرواية المفجعة

يطلق أستاذ النقد الفرنسي رينيه ماريل ألبيريس في كتابه “تاريخ الرواية الحديثة” اسم الرواية المفجعة على النوع الأدبي الذي ولد بولادة دوستويفسكي، ويختار مواضيع أعماله لتكون ذريعة ودعامة لشرح مأساة الإنسان على هذه الأرض، مواضيعه منتقاة دائماً “بإحساس حاد بالقلق” كما يصفها ألبيريس جريمة كاملة يتبعها ندم غير منطقي في “الجريمة والعقاب”، وقديس لا يشعر أنه يمتلك إرادة في طهارته؛ يواجه مجتمعاً غارقاً في الفساد في “الأبله”، وتباغض وتنافر شديد بين أب وأبنائه في “الإخوة كارمازوف”.

ويرى البيريس انه في عالم دوستويفسكي القاتم؛ لا تخضع الدوافع الإنسانية للمنطق؛ بل للغضب والعجز المحفورين في صميم الإنسان، ويؤكد أن دوستويفسكي يتعامل مع الإنسان باعتباره كائنًا ميتافيزيقيًا؛ تُعبر دوافعه عن اللاشعور أو اللاوعي والعقل الباطن؛ لهذا اعتبر روايات دوستويفسكي تقاطعاً بين رؤيته الفنية والفلسفية، والتفسيرات الفرويدية للّاوعي البشري.

وتحدّث عالمُ النفيس الشهير جوردان بيترسون بتوسّع كبير عن تأثير دوستويفسكي بنيتشه، وكيف يجب على الناس قراءة أعمالهما. فجوردان بيترسون يعدُّ دوستويفسكي أفضل روائيٍّ، والمعنى الحقيقيّ للمثقَّف، ويقول إنَّه يضع رواية “الجريمة والعقاب” في المرتبة الأولى لأفضل الأعمال التي قرأها طوال حياته.

الفيلسوف نيتشه

يُعدُّ دوستويفسكي واحداً من أكثر الأشخاص تأثيراً على الفيلسوف الشهير نيتشه، وسيكون من الرائع قراءةُ اعمالهما بتوازٍ معاً لأنَّ دوستويفسكي يُعدّ أكثر روائيٍّ أدبي، ونيتشه يُعدّ فيلسوفاً بدرجةٍ أكبر، وعند قراءة أعمالهما يُمكن أن تجد الأمر، وكأنَّ دوستويفسكي كتب الدراما ونيتشه أعطاها الصبغة الفلسفية..

يكتب نيتشه في رسائله لأصدقائه: “هل تعرف دوستويفسكي؟ إنه عالم نفسي، أنا على وفاق معه..”. وفي رسالة أخرى يبدي نيتشه إعجابه برواية “منزل الأموات” قائلاً: “إنها أكثر الكتب الموجودة إنسانية”. بينما كرر إعجابه برواية “في قبوي” وأشار في رسالة أخرى إلى أن روايات دوستويفسكي أثمن مادة نفسية عرفها وأنه شاكر وممتن له.

وكما كان فرويد معجباً بدوستويفسكي لما في رواياته من تحليل نفسي دقيق، كان نيتشه أيضاً من معجبيه. ويمكننا القول إن بين شخصيات دوستويفسكي شخصيات “نيتشوية”، بمعنى أن فيها من فلسفة نيتشه، وفيها أيضاً من حياته، والقول بوجود نيتشه في روايات دوستويفسكي ليس معناه أن هناك رواية لدوستويفسكي  فيها شخصية تشبه نيتشه إلى حد التطابق، وإنما يمكننا أن نجد جانباً من فلسفته، وحياته الشخصية في رواية، وجانباً آخر في رواية أخرى. والمفارقة أن هذا جرى  دون أن يكون دوستويفسكي قد سمع عن نيتشه وتأثر به أو استفزته شخصيته فكتب نماذج بشرية تشابهه، لكن هناك  قول لنيتشه نفسه بأنه من محبي دوستويفسكي، وأن العكس هو ما جرى، وهو أن نيتشه تأثر وتفاعل مع شخصيات دوستويفسكي، وأعجب بأشياء وعارض أشياءً أخرى.

كما كانت الأسئلة والمشاكل التي طرحها دوستويفسكي، وحاول معالجتها مثيلةً لمحاولات نيتشه، لكنَّه فعل ذلك بطريقة مختلفة. فيمكن أن نجد أفكاراً طرحها نيتشه حاضرةً في أعمال دوستويفسكي سابقاً. ولكن بالتأكيد هناك نقاط اختلاف وربما من أهمها أن أكثر ما يميز نيتشه هو إلحاده الشديد وانتقاده لأخلاقيات المسيحية، حتى أنه سمّاها بأخلاقيات العبيد، في حين كان دوستويفسكي شديد الإيمان، محباً للمسيحية والمسيح، بل لا يرى الخلاص للإنسان إلا من خلال الله ولا يرى ضياعه إلا في محاولته بأن يكون إلهاً.. ومع كل هذا لقد كانا من بين القلائل الذين توقعوا ما سيحدث في القرن الـ20 بسبب الثوار وأحلامهم، وكيف أصبحت الأيديولوجيات هي المُتحكِّم في الناس؛ ما أدّى لصعود الشيوعية والنازية، والعديد من الأيديولوجيات الكارثية في أوروبا؛ الأمر الذي أدّى إلى حروب عالمية وكوارث لا مثيل لها في تاريخ البشرية.

المعلم الكبير

يقول فرويد: “دوستويفسكي معلمٌ كبيرٌ في علمِ النفس. لا أكادُ أنتهي من بحثٍ في مجالِ النفسِ الإنسانيةِ، حتى أجدَ دوستويفسكي قد تناولَه قبلي في مؤلَّفاتِه”.

وفي كتابه “التحليل النفسي والفن”، يبدأ فرويد فصله عن دوستويفسكي بالقول: “إن بإمكاننا تمييز شخصيته الفنية الخصبة بناء على أربع سمات هي: الفنان المبدع والإنسان الأخلاقيّ والعصابيّ والآثم”.

ويتساءل فرويد نفسه عن الكيفية التي سيستطيع بها المرء أن يجد طريقه وسط كلّ هذا التعقيد المحيّر. ثمّ يؤكد فرويد أنّ الفنان المبدع في دوستويفسكي هو أقل سماته مدعاة للشك من بين السمات الأربع الأخرى، لأنّ المكانة الأدبية لدوستويفسكي لا تختلف كثيراً عن مكانة شكسبير على سبيل المثال.

وكون دوستويفسكي يُدرك أعماق شخصياته ودخائلهم، ويفهم حياتهم وينفذ إلى سرائرهم، ليصوّرهم فيما بعد كما رآهم في حقيقتهم الفردية لا من طرف واحد أو منظومة واحدة، وإنّما يراهم دفعةً واحدة أقرب ما تكون للكمال.. اهتمّ فرويد كثيراً بأعمال دوستويفسكي ودرس شخصياته وأحداث رواياته واستخدمها في تحليلاته واعتمد عليها للوصول للعديد من الاستنتاجات، لعلّ أهمها وأكثرها غرابة تلك التي تتعلق بمرض “الصرع”، والذي ذكره دوستويفسكي كثيراً في رواياته وأُصيبت به العديد من شخصياتها، ووفقاً للعديد من الروايات فيُعتقد أيضاً أنّ دوستويفسكي نفسه كان يعاني من هذا المرض في حياته.

ونظراً لأنّ فرويد يرى أنّ جريمة قتل الأب هي الجريمة الأولى في البشرية، ينتقل من هذه النقطة إلى عقدة أوديب التي أسقطها على رواية “الأخوة كارامازوف”، ليقارن بين قتل الأب فيها وبين قتل الأب في مسرحية “هاملت لشكسبير.

ففي مقالة له نُشرت عام 1928، يقول فرويد إنها ليست مصادفة أن عدداً من أعظم أعمال الأدب العالمي، بما في ذلك هاملت والأخوة كارامازوف، تتعلق بعقدة قتل الأب “Parricide”، والتي يربطها فرويد بمرض الصرع.

وفي الحب يقول دوستويفسكي: “إن كل حب لا يشتمل على امرأة سيئة السمعة، أو طرف ثالث مغبون، أو رغبة هائلة بالتضحية في سبيل من قد لا يستحق ذلك، هو حب مستحيل، لا وجود له!”.

وعندما عكف سيغموند فرويد على تحليله النفسي لعلاقة الحب بين الرجل والمرأة، استند في جزء مهم من أبحاثه على أعمال دوستويفسكي الأدبية، لكنه عارض عدداً كبيراً من النقاد والمحللين النفسيين في عصره، ممن اعتبروا أن روايات العبقري الروسي رجالية الطابع.

طاغور الهند

عادة ما يشار إلى أوجه التشابه بين الروائي الروسي دوستويفسكي والروائي الحاصل على أول جائزة نوبل في الهند رابيندراناث طاغور (1861-1941)، حتى إن البعض يرى لدوستويفسكي صدى في روايات طاغور، خاصة في رواية “البيت والعالم” (1915-1916) التي تتماهى إلى حد كبير مع رواية “الشياطين” واستندت أيضاً جزئياً إلى تجارب طاغور الشخصية في السجن.

وسواء أكان لدوستويفسكي تأثير مباشر على الروائي الهندي أم لا، فإن أوجه التشابه لافتة للنظر؛ تدور أحداث الرواية حول تقسيم البنغال في عام 1905، وتتبع تجارب ومحن البطلة بيمالا التي تمثل هوية بلدها في مواجهة مصيرها في العالم الحديث. في المقابل، لا يوجد في رواية “الشياطين” نظير واحد لهذه الشخصية، بل العديد من الشخصيات النسائية التي ترمز إلى “الوطن الأم” تكافح من أجل الحفاظ على الوطن بغض النظر عن الإغراءات المدمرة التي تقدمها الأفكار الغربية.

وقد تنبّأت رواية دوستويفسكي بصعود الشمولية في أوروبا في القرن الـ20 وما بعده، أما رواية طاغور فاستشرفت الصعود الخبيث للسياسة القومية الإقصائية. وكانت روايات كل من دوستويفسكي وطاغور استشرافية بالقدر نفسه في تشخيصهما للأزمة الحديثة، فقد قضى كل منها حياته في الكفاح في ظل التغييرات السياسية والاجتماعية الضخمة، سواء إصلاحات “بترين” في روسيا أو الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية. وقد حاول كل منهما رؤية مدى استعداد بلاده لتحقيق الاندماج الاجتماعي الذي يقوم على توليفة ثقافية بين الشرق والغرب، والتقاليد والحداثة، والوطن والعالم.

وثمة من يرى أن آراء دوستويفسكي تنسجم بشكل كبير مع آراء طاغور الذي لطالما آمن أن الفن يعكس مُثُلا أخلاقية عالمية، بل ذهب طاغور إلى أبعد من ذلك في مقالة أصدرها عام 1913 بعنوان “إدراك الجمال”، مشيراً إلى أن الموسيقى هي أسمى أشكال الفن وأكثرها توحيداً للناس.

ورغم أنهما ينتميان إلى عالمين ثقافيين مختلفين، فإن دوستويفسكي وصل إلى استنتاج مشابه لذلك الذي وصل إليه الشاعر الملحمي البنغالي وهو أن البحث عن الهوية الفردية نادراً ما يقودنا إلى الداخل، إنّه يقع حتماً في مكان ما خارج ذواتنا، كما أن الفلسفة الأخلاقية الشاملة لطاغور تتشابه إلى حد كبير مع فكر دوستويفسكي وتطلعاته، إذ يرى كلاهما أن المعنى الحقيقي للحرية لا يأتي من البنية الاجتماعية المثالية أو الأيديولوجيات المجردة، بل ينبع من أن التمسك بالأنا وفرض مُثُلنا على العالم هما السبب الأساسي لمعظم المآسي البشرية في هذا العالم.

وقد ألهم فكر دوستويفسكي الكاتبة البريطانية إيريس مردوخ لصياغة ما أطلقت عليه فلسفة “نكران الذات”، وتعني أن الفلسفة غالباً ما تكون مسألة إيجاد فرص تمكننا من قول كل ما هو واضح وتعزيز مبدأ سيادة الخير.

وقاوم دوستويفسكي السرديات والأيديولوجيات القائمة على الهوية، لكننا ما زلنا نعاني في عالم اليوم من ويلات الإقصاء والتهميش والعنف على أساس الهوية والانتماء، والقاسم المشترك بين كل من يرون العالم من هذا المنظور هو الفشل في رؤية ما يجمع البشر والتركيز فقط على ما يفرقهم. وما توصّل إليه دوستويفسكي هو أن العديد من المشاكل في المجتمعات البشرية ليست صراعاً بين الأخيار والأشرار، فنحن في النهاية مخلوقات بشرية نحمل بداخلنا دوافع متداخلة بين الخير والشر.

كان لدى دوستويفسكي فكرٌ أخلاقي عميق، وقادته حياته المضطربة إلى الاعتقاد بأن الطريق الحقيقي الوحيد للانسجام الاجتماعي هو الطريق الذي لا يُستثنى فيه أي شخص من الحق في الحرية والكرامة الإنسانية. ويرى أن الإنسانيات والعلوم يمكن أن تستفيد من بعضها، واعترافاً منه بمحدودية المعرفة الإنسانية، اعتقد دوستويفسكي أن أجوبتنا عن بعض أكثر الأسئلة المحيرة في التاريخ قد تبقى منقوصة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بفهمنا للطبيعة البشرية.

بعد مرور أكثر من 200 عام على ولادته، سيتذكر كثيرون دوستويفسكي باعتباره مفكراً مشكّكا وعاطفيّاً وصريحاً، لطالما عبّر عن مقته للكراهية والقمع بكل مظاهرهما.

*تلفزيون سوريا