محمد فتحي المقداد: فيلسوف المنافي الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي

0

المكان الأهمُّ في حياة أيّ إنسان، مسقط الرأس، ومراتع الطُّفولة، وستبقى ماثلة بدقائق تفاصيلها، من الصّعب نسيانها تمامًا مهما تقدّم العمر، ومهما  اِدلهمّت الخُطوب على الإنسان، هي الأماكن الأحبّ إلى قلبه، شعور عميق بالرّاحة عند استعادة ذكراها.

في حديث لي مع الصديق الفلسطينيِّ الأصل، السّوريّ الموطن، الأديب والكاتب “راكان حسين“: وصف نفسه بأن لاجئ “سُوبَّر“، منذ بداية تفتّح وعيه بدأت الهجرة على دروب المنافي، من فلسطين بعد حرب حزيران 1967 إلى سوريا في مدينة “المزيريب” محافظة درعا، ومن ثمّ في رحلة إلى أستراليا لسنوات طويلة، ليستقرّ به التِّرحال من أقصى جُنوب الكرة الأرضيَّة، إلى أقصى الشّمال ليحطّ برِحَالِه في ألمانيا.

لا شكّ أنّا رحلة حافلة بالمشاقّ والمتاعب، وكأنّ التشرّد قدره، يا إلهي..!! كم هو حجم المعاناة والمُقاساة والمُكابدة والحنين الضّائع على دروب اليأس، ولكن يبدو أنّ معطيات أقوى، ما زالت تنتصر للبقاء.  تذكّرتُ صديقي هذا أثناء قراءاتي كتاب “مدن ورجال ومتاهات“، وهو مقالات أدبيّة للشاعر العراقي “عبد الوهّاب البيّاتي“، جاء كتدوينة لمذكرات، وهو جزء من سيرة ذاتيّة، ومحطة من محطّات الكاتب خلال ترحاله من العواصم العربيّة ما بين دمشق وبيروت والقاهرة وعمّان، المحّطات الأكثر كان تواجدًا فيها، إضافة إلى العواصم الأوروبيّة، وغيرها في قارّات العالم.

الدكتاتوريّات العسكريّة في بلادنا العسكريّة خاصّة ذات الحكم الجمهوريّ، والنهج الثوريّ، التي ضيّقت على شعوبها، فأحصت عليهم أنفاسهم، وفتحت أبواب السّجون والمُعتقلات، وتحريم الحريّات العامّة، وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان على كافّة الصُّعُد والمُستويات. 

الاحتلال الصُّهيوني لفلسطين ساهم بخلق مشكلات للشعب الفلسطينيّ، ولدول الجوار التي فتحت أبوابها لهم للعيش في ملاذات آمنة. ومنذ أواخر العام 2010 وبداية 2011، كانت البداية لربيع عربيّ دامٍ ارتدّت الأنظمة على إرادات الشّعوب، فقامت بالهجوم الهمجي المُضادُّ، واستخدام جميع وسائل العنف، وفي غياب القوانين والدساتير الضّامنة، ارتُكبَت الفظائع التي لا يتصّورها عقل بشريّ على الإطلاق، وأعظم المجازر الخارجة على كلّ مألوف، وهذا يتطابق مع رؤية عبد الوهاب البياتي: “ في العالم الثالث بالذَّات لم تعُدْ الأوطـان تُوفِّر أيَّ طقسٍ أو مناخٍ رُوحيٍّ وماديٍّ للمُثقَّف والكاتب، ولهذا؛ فإنَّه يظلُّ يَعُضُّ قيده، وينقُر قُضبان قفصه حتَّى يموت”.

فجاءت مُخرجات هكذا أوضاع شاذّة؛ لتصنع أعظم موجة تشريد وتهجير على مساحات الوطن العربيّ بين شرقه وغربه، وتكون هذه الموجة امتدادًا طبيعيًّا لما قامت به إسرائيل من طرد للفلسطينييّن من وطنهم، وفي هذا الصّدد، وصف الصّديق المُفكّر والباحث والأديب “محمد زعل السّلوم” نفسه: بأنّه “مُشرّد البوسفور“، وهذا ممّا جاء به من خلال عمل روائيٍّ حمل هذا العنوان. والمنفى عند البيّاتي: استبدال القيود بالقيود والمنافي بالمنافي حتى يموت ويكتشف الإنسان وهو ينفي نفسـه أو ينفى أنه مقبل على ربيع الإنسان ولكنه يكتشف بعـد وهـلـة أنـه وقع في منفى جديد لا يقل قسوة عن منفاه السابق“.

برؤيته العميقة وإحساسه القائم على وعيٍ تامٍّ عند البيّاتي. فيقول: “يتجاوز الشَّاعر حـدود آخر منفى لـه على الأرض، الأرض يطلق صيحة هي أشبه بصيحة الإنسان الذي واجه الطوفان في الملحمة البابليّة القديمة”، وفي ذلك تساوى عندي الليل والنّهار. أنا المنفيُّ بداية داخل روحي، ومن ثمّ خارج الوطن، وتعادل النّور والظّلمة في معطيات حياتي التالية، لم يعُد الألم والسّعادة يفترقان تباعُدًا؛ فأصبحت كلُّ المنافي وطنًا فقط أجل البقاء، سأبقى أتنفّس هواءه، وأملأ بطني بخبزه، وأتجوَّل في ربوعه حتّى يقضى الله أمرًا كان مفعولًا.

ويكتسب الوطن الأول في وجدان عبد الوهاب البيّاتي أهميّة أخرى، وبرؤية مليئة بالمرارة والأسى: “وعندما يبدأ الإنسان في منفاه الأول (الوطن) يخدع نفسـه، فينظر إلى ساعته بين الحين والآخر، ويُحصي كـل الساعات، ويعُـدُّ الأيَّام والشُّهور والسَّنوات؛ علـى أمـل أن تُشرِق شمسُ الله على ربيع مملكة الإنسان”.

وفي هذا الاقتباس تتضح كيفيّة تفكير البيّاتي بفلسفة الأمر، بنظرته المُختلفة عن محيطه الاجتماعيِّ وأترابه، لا شكّ أنّها رؤية شاعر، ربّما تأتي نبوءة على محامل كلماته: “ منذ صرختي الأولى، وأنا في يَدِ القابلـة، شعرتُ برمـاح النُّـور تطعنُ عيني، وبريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ تهُبُّ على المدينـة الـتي وُلـدتُ فيها. أحسسـتُ عنـد ذاك أنّـني في اللَّامكـان واللَّازمـان، أو أنَّـني جئتُ قبل البداية أو قبل النهاية؛ فنظرتُ فيما بعد إلى وجهـي في المرآة؛ فأحسستُ أنَّ لون عيني الأخـرى، الـتي كنتُ أحملها في زمن آخر سبق لي أن وُلـدتُ فيـه، أو زمـن آخـر سأولدُ فيه. حرَّكـتُ أصـابـع يـدي؛ فقبضتُ على الرِّيـح والمطـر، وعلى حجارة القمر، التي كان رُوَّاد الفضـاء لم يحملوهـا بعـد إلى أرضنا؛ فقلتُ: مـن أيـن لي بهـذه الأحجـار؟، وظننتُ أنَّهـا أحـجـار أرضيَّة، ولكنَّني علمتُ بعد سنوات طويلة: أنَّهـا كـانـت مـن أرض القمر، أو مـن كـوكـب آخـر، وقلتُ لنفسـي: مـن أيـن لي بهـذه الحجارة؟ وحاول شِعْري أن يكتشفَ الكوكبَ الذي جاءت منه هذه الحجارة اللَّا إِلَهِيَّة، ولكنـَّني لم أستطع أن أكتشـفَ هـذا السِـرَّ حتَّى الآن، أحيانًا أحسُّ، وبـدون تَعَالٍ أو غـُرور إنَّـنـي ولـدتُ في نهاية هذا العالم، ولكنّـي أحـسُّ في الوقت نفسـه أنَّـنـي وُلـدتُ في بدايته؛ فمن جاء بي إلى هنا..!!؟”.

 فالطّريد في وطنه بلا ضمانات حقوقيّة يُحاول البقاء في وجه العاصفة، ولا بدَّ للغزال أن يتعب؛ ليأتي الصيّاد فيجده في قبضته وفي مرمى نيرانه القاتلة؛ فإذا استطاع النّهوض والهروب. ونحن بين أمرين كلاهما مُرْ، ولا نعدو كَبالِعِ السِّكِّين على الحدّيْن، إمّا البقاء مصحوبًا بالخوف والقلق، أو بالقبول بشروط المنفى.

فماذا يعني الوطن.. الذي أحببناه؟، وجذور أرواحنا ما زالت هناك مغروسة في تربته؛ فهل كُنّا في أكذوبة واهمة سرقت قُلوبنا..!!؟. 

 *خاص بالموقع