محمد علاء الدين عبد المولى: خلاصةٌ نقدية في أدب عبد السلام العجيلي

0

مرت منذ أسابيع ذكرى رحيل الأديب السوري عبد السلام العجيلي (في الـ 5 من نيسان 2006) الذي يقول: “ولدتُ في الرقة. بلدة صغيرة، أو قرية كبيرة على شاطئ الفرات بين حلب ودير الزور. من الناحية الاقتصادية كان أغلب أهل الرقة، وأسرة العجيلي منهم، يعيشون حياة نصف حضرية بأنهم كانوا في الشتاء يقيمون في البلدة فإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم ويتنقلون بين مراعي الكلأ حتى أوائل الخريف.

وقد عشت هذه الحياة في صباي فأثّرت فيّ كثيراً وقبستُ منها كثيراً في ما كتبت.. متى ولدتُ؟  لم يكن في الرقة في تلك الأيام سجلات ثابتة للمواليد. ويبدو أني ولدت في أواخر تموز في سنة 1918 أو 1919. وأنا أصرّ دوماً على التاريخ الأول رغم أن الأغلب هو صحّة التاريخ الثاني”.

يعتبر العجيلي من مؤسسي فن القصة القصيرة العربية. والتأسيس هنا لا يأتي لأنه كتب القصة مبكرًا. بل لأنه جدّد وطوّر فيها مبكرًا. وحررها من تبعيات فنية وزوائد ملحقة بها من فنون أخرى خاصة المقالة الصحفية والخاطرة القصصية والأسلوب الشعري، مما كان يكتب كثيرًا في المرحلة التي أضاءت فيها موهبته الرائدة.

ويمكن أن نذكر اسمه بجدارة وتقدير إلى جانب اسم زكريا تامر ليكونا من أوائل البنّائين في فن القصة. والاثنان أعطيا القصة كيانًا مستقلًا وحضورًا منافسًا لأجناس أدبية أخرى. وإذا كان تامر اقتصر على القصة القصيرة ثم المقالة، وقصة الأطفال، فإن العجيلي نوّع بين الرواية والقصة والمقالة والذكريات. خاصة وأنه كان طبيبًا مشهورًا في الرقة والمنطقة الفراتية، فكانت حياة الطب في تلك الظروف مرتعًا خصبًا لحكايات وذكريات كثيرة.

أهمّ حكواتيّ سوريّ

العجيلي أشبه ما يكون بظاهرة في فن السرد العربي المعاصر. فهو كما قال لي ذات الشاعر السوري مصطفى خضر: “أهم حكواتي سوريّ”. وإذا كان لمصر حكواتي أول هو نجيب محفوظ فإن في سوريا عبد السلام العجيلي. ومع الفارق الديموغرافي بين القاهرة مدينة نجيب محفوظ والرقة مدينة العجيلي، فإن الاثنين في القصة كفن مكتوب كانا لا يتركان حركة ولا سكنة ولا حالة ولا فكرة أو شخصية في المدينة إلا وحوّلاها إلى مادة للإبداع. وقد تكون المهمة هنا أكثر حرجا على العجيلي لأن مدينته صغيرة وذات طابع يحضر فيه النسق العشائري في التعامل والوعي والمفاهيم. ومع ذلك فقد كانت موهبة العجيلي الفذة تؤهله ألاّ يكترث بمواصفات المدينة الضيقة. فحوّلها إلى أفق ملهمٍ بطريقة تناسب قدراته السردية وأدواته ومهاراته.

فهذه المدينة. البلدة كما يسميها، كان لها امتداد نحو البادية. وعالم البادية يجعل شؤون السرد أمام استحقاقات كثيرة وذات احتمالات لا تنتهي. فقد أصغى لعالم البادية بشخوصها ولياليها وتقاليدها وفطرتها وقيمها، إصغاءَ المبدع الباحث بشغف عن مواد واقعية لمخيلته المزدهرة. البادية فيها أساطير ومرويّاتٌ وفولكلور فني ثرّ. فكيف يمكن للعجيلي ابن هذه الجغرافية أن يغض النظر عما في ذلك من ملهمات إبداعية؟ لهذا ترى نصوصه تتنقل بين مكان المدينة ومكان البادية، بما يعني ذلك من علاقات متبادلة على أي صعيد، سواء أكانت سلبية أم إيجابية. بل إن الصراع والتناقض بين قيم المكانين كان محرضًا أكثر على الكتابة عنده. وقد كان يتمتع بحسّ ساخرٍ مبطّنٍ وهو يسرد مفارقات الأشخاص وطرائق فهمهم لظواهر العلم والطب والمدنية والمعاصرة.

ربما كانت عبارة الشاعر نزار قباني التي قالها عن العجيلي دلالة مفتاحية لفهم شخصيته الأدبية والثقافية. فقال قباني: “العجيلي أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية”. نحن هنا أمام ثنائيةٍ مركزية ليس في شخص العجيلي وحده بل في الشخصية الشرقية بصورة عامة. خاصة تلك الشخصية التي تتشظى مكوناتها بين عالمي المدينة والبادية. هي في كل حال ثنائية تغني وتثري وتعطي فسحة غير محدودة للتنوع ولفهم أدقّ لطبائع البشر المختلفة.

لقد شكلت سرديات العجيلي قصصا وروايات، عالمًا هائلًا من دراسة الطباع البشرية. ولم يكتف بذلك بل ومن غير شكّ، استمدّ من ثقافته الغربية الحديثة زوادة معرفية لتحقيق وعيٍ لا يتصل بالأدب وحده، وإنما بموقف الفرد من كل ما يحيط به ويتخيله أو يعيشه أو يرفضه. ورغم ثقافته الحديثة علماً وأدباً، لم يشعر بـ (صدمة الحداثة) ولم يفقد نصّه الأدبي توازنه وانتماءه للمكان والزمان. وهذا شكل من أشكال وعي الحداثة الأدبية التي لا تعني أن نطارد أساليب الرواية والقصة الأوربية بمختلف تياراتها ومذاهبها وتجريبها، من أجل تحقيق وهم المعاصرة. وهو بذلك كان أيضا يشبه نجيب محفوظ الذي ظلّ محافظًا على مسار تطور داخليّ لكتابته دون الوقوع في فخّ وهم العالمية. فهذه العالمية لا تتأتّى من تقليد الآخر في منجزه السردي والفني، بل تعني أن يستنبط الأديب من واقعه وبيئته وشخوصه إبداعاً منفتحا على العالم كله.

كان العجيلي يكتب نصّاً يطغى فيه المكان السوري والشخصية السورية، لكن – وهذه مهمة الأديب ووظيفته – كان هذا النصّ قادرًا على التجول في ثقافات العالم بحيث يمكن تلقّيه في مجتمعات ثقافية مختلفة متباينة. وهذا ما كانت تدل عليه ترجمات أدب العجيلي إلى لغات العالم الحية بشكل ملحوظ. وبكل تأكيد كان القارئ الآخر يجد فيه أدباً قابلا للحوار والتبادل والتداول مع أي خلفية حضارية معاصرة. وهذه في الخلاصة هي فحوى العالمية.

ومن هنا نفهم أهمية ما قاله عنه هانز فير Hans Wehr (مستشرق ألماني) ما معناه: “إن أكثر الروائيين العرب يكتبون حسب أساليب الروائيين الغربيين. أما عبد السلام العجيلي فميزته أنه عربي في فكره وأدائه وأسلوبه وأصالته“.

مما يسجّلُ للعجيلي في مقام السرد وتقنياته، أنه لم يسقط في وهم “اللغة الشعرية“. تلك اللغة التي تفتك بحياة القصة والرواية وتخدع صاحبها بما لا علاقة له بجنس السرد وعوالمه. فلماذا يعتمد العجيلي على لغة الشعر وهو ممتلك لكامل مقومات السرد والنثر والحكي؟ لا يتكئ على لغة الشعر إلا صاحب الموهبة الضعيفة، لكي يخفي هزال إمكانياته. وكان العجيلي مع زكريا تامر من أوائل من حرروا السرد من الشعر وطغيان مجازاته وبلاغته. السرد والنثر في القصة والرواية لا يحتاجان إلى أن يستندا على مؤثرات خارجية وافدة. لم يخدع العجيلي بخطاب (الشعر ديوان العرب)، رغم ممارسته في بدايات حياته لكتابة الشعر. لكنه لم يبدع بشكل أساسي في فن الشعر فهذا الميدان ليس ميدانه. وحين اختبر السرد ومتعته والنثر ولذته، استقر عليه مبعدًا عن أسلوبه النثري غواية الشعر مخلصاً لغواية السرد.

العجيلي في حمص

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، جاء العجيلي إلى حمص بدعوة من نادٍ ثقافيّ لإحدى الكنائس. كنت يومها دون العشرين من عمري. وكنت قد قرأت كتاب (الأدب والأيديولوجيا في سوريا) لنبيل سليمان وبو علي ياسين. وهو الكتاب الذي كان أيقونة نقدية في حينه. وهو يمثل الطريقة الجدانوفية في التعامل مع الأدب. فثمة سعي للبحث عن دور اجتماعي وصراع طبقي وديالكتيك وجدلية تاريخية.. وإلى ما هناك من مفاهيم شيوعية في فهم الأدب. لهذا فسوف يكون العجيلي في نظر الناقدين في الكتاب رجعيًا، بدويًا، لا يكترث لحركة الشعب ولا لصراع طبقي، فهو من منبت بورجوازي.. إلخ.

يومها أحضرت الكتاب معي مشيرًا إلى الصفحات التي فيها تلك الأحكام على العجيلي. وكلي حماس في أنني اصطدتُ فريسة سأوقع عليها موقفي المتأثر في فورة الشباب والغضب بكتاب سليمان وياسين! وما إن التقيت على مدخل قاعة المحاضرة بصديق صحفي حتى أشهرت في وجهه تلك الأحكام الصادرة بحقه. قلت له كيف تحتفلون بأديب رجعي بورجوازي متخلف؟

لكني حضرتُ المحاضرة يومها. ولم أطرح فيها ولحسن الحظّ، مواقفي تلك الساذجة. طبعًا فيما بعد سوف يتخلى نبيل سليمان وبوعلي ياسين عن طريقتهما في نقد الأدب. خاصة نبيل سليمان الذي أصبح من نخبة نقاد السرد والنثر في الوطن العربي.

كانت تجربتي تلك مع أدب العجيلي في مرحلتي الشبابية، مثالًا على فهمنا الغبي لطبيعة الأدب وطرائقه وأساليبه. وسوف نحتاج إلى مرحلة من القراءة والتنوع في الثقافات والأفكار حتى نكتشف أهمية العجيلي وريادته و(معلميّته).

ا

لكاتب وليد إخلاصي يقول عنه: “خرج العجيلي من عمق الصحراء السورية، نقيًا كذرات الرمل فيها، وقد تحولت إلى تربة أزهر العلم في طياتها ليصبح طبيبًا يداوي الجراح والألم. وما لبثت روحه أن تفتقت عن حكواتي قدره أن يشهد على عصره“.

ويقول الناقد المصري صلاح فضل إن العجيلي في روايته الأخيرة يعطي مثالاً على الجمال الكلاسيكي الذي “يعيد بهجة القص وحلاوة العالم، ودقة الوصف للمشاعر والحوادث بإحكام بالغ وتعبير مقتصد وعمق جوهري نادر، كأنه يفيض من أفق آخر”.

رسالة نزار قباني إلى العجيلي

وأختم بمقطعٍ من رسالة أرسلها إلى العجيلي، نزار قباني من إسبانيا، بتاريخ الـ25 من أيار 1963، وذلك بعد تلقي الأخير هدية العجيلي وهي كتابه (المقامات):

“حبيب القلب، عبد السلام أحلى ما في بريدي هذا الأسبوع هي (مقاماتك)، بل أحلى ما جاء في البريد من سنين.. وأنا لا أذكر أنني التهمت صفحات كتاب بمثل هذه اللهفة، ولا أذكر أنني عشت مع كتاب من الكتب كما عشت مع كتابك. أهو أنت.. أم هو الكتاب.. أم أنتما معاً؟ لا أدري.. لا أدري سر ارتباطي بهذا الكتاب الحبيب الصادر عن حبيب. كل ما أعرفه هو أن الكتاب ردّني إلى زاوية من الماضي افتقد اليوم صمتها ولين وسائدها وحنان عتمتها. هل نحن الذين كتبنا هذه الصفحات الحلوة ذات يوم؟ أين أصابعنا اليوم من أصابعنا بالأمس.. أين قضبان الزنبق التي كنا نحركها على الورق فتخلق فوقه ألف صيف.. من أصابعنا المتخشبة التي تشبه أصابع النجارين؟ وقلوبنا، التي تركض وتنبض كالأرانب الصغيرة في داخلنا.. لم تعد اليوم أكثر من أقفاص خشبية.. لا تزورها الشمس، ولا تفكر بها العصافير. وأبطال كتابك، الذين يتحركون على خشبة مسرحك كآلهة من آلهة الإغريق.. أين يكونون الآن؟ أين قهقهاتهم، وغيم سجائرهم، ورنين أقدامهم؟”.