محمد علاء الدين عبد المولى: الشعر والفكر والعلاقة بينهما.. الشاعر السوري مصطفى خضر نموذجاً

0

ككل شاعر يرغب في أن يكون مختلفاً، بمعنى ما، بدا الشاعر السوري مصطفى خضر سيرته الشعرية الفكرية مبكرا.

هو لم يكن يدعي الاختلاف، فمحاولاته الشعرية الأولى ومنذ المراهقة الشعرية أراد أن يكون مختلفاً، وربما بالغَ في إعلان اختلافه عما هو سائد وشائع في البيئة الاجتماعية والثقافية. ولعل هذا الاختلاف ارتبط بمعاناة ما، وبقراءة ما دفعته إلى اختيار الاختلاف حقا، الذي هو اختيار، قد يوجهه التأسيس لتجربة فنية مختلفة، ولكن هذا الاختيار لم يقطع مع التراث الشعري القديم، أو مع ماضي الأمة الشعري في مراحله المختلفة، ولم ينفصل عن تراث شعري معاصر وحديث. ولعله حاول استيعاب ورشات شعرية عربية متنوعة ومختلفة، حاول بعضها الانتصار لاحتمالات حداثة، بل ثورة.

تفاعلت بداياته الشعرية وانفعلت بتجارب معروفة منها: (شظايا ورماد) لنازك الملائكة، و(أباريق مهشمة) للبياتي، و(أساطير) للسياب. بالإضافة إلى قصائده المطولة: (حفار القبور– المومس العمياء– الأسلحة والأطفال) التي اشتمل عليها  فيما بعد ديوانه الكبير (أنشودة المطر) و(البئر المهجورة) ليوسف الخال، و(قصائد أولى) و(أوراق في الريح) لأدونيس. ويرغب مصطفى بشكل خاص أن يقف عند مجموعة (نهر الرماد) التي هي قصيدة في أناشيد لخليل حاوي. بالإضافة إلى ديوان (قصائد) لنزار قباني وقصيدته المهمة (خبز وحشيش وقمر). ويشير إلى أعمال تنتمي إلى قصيدة النثر مثل: (تموز في المدينة) لجبرا إبراهيم جبرا، و(ثلاثون قصيدة) لتوفيق صايغ، و(حزن في ضوء القمر) لمحمد الماغوط. وهي أعمال سبقتها تجربة لويس عوض في (بلوتولاند وقصائد أخرى) التي اطلع عليها في مرحلة متأخرة. أقبل على هذه التجارب وعلى غيرها، وتابع السجال النقدي الذي دار حولها وحول غيرها، وبشكل خاص في منابر مثل الآداب والثقافة الوطنية وفيما بعد المعارف، وفي بعض أعداد مجلة شعر، وأقبل أيضا على ترجمات شعرية كثيرة حفلت بها رفوف المكتبة العربية في تلك الفترة من أعمال شكسبير إلى أعمال نيرودا وآراغون ولوركا، وكان لدراسة اطلع عليها بشكل مبكر هي (فن الشعر الوجودي) لعبد الرحمن بدوي أثرها. ولكن الإقبال على هذه المحاولات والتجارب ترافق مع إقبال مبكر ومتابعة متأخرة للتجارب الشعرية الكبيرة في التراث الشعري العربي (المتنبي– أبو تمام– أبو نواس– دعبل… وغيرهم) ولا ننسى تأثير النص القرآني الذي رافقه منذ الطفولة وحتى خواتيم تجربته، وتأثير (نهج البلاغة) والتراث الصوفي والباطني.

وهكذا وجد نفسه في منطقة إبداعية يتواصل الجدل فيها بين التأثر بمعطيات الماضي وإنجازاته، واهتمامات الحاضر، وإنجازات المستقبل.

يتساءل الشاعر مصطفى: “هل هناك أي تناقض بين التواصل مع التراث والتأسيس للمستقبل؟ وماذا تعني القطيعة مع تجارب تاريخية كبرى تسكن فينا أو نسكن فيها؟ وهل يبني المستقبلَ الإبداعيَّ جهلُها أو تجاهلُها؟ ألا يضلُّ صنع التاريخ طريقه إذا تنكّر لها أو أهملها؟ وهل تعني الثقة بالأزمنة الحديثة هجرَ التاريخ؟”.

لقد كان الاختلاف موجوداً دائماً، وكان الاختلاف عاملاً من عوامل صنع المستقبل.

قد لا يكون للفذلكة السابقة أي مسوغ، ونحن نتكلم على تمرينات شاعر أولى، أو تمرينات شاعر متأخرة، على الرغم من طموحها. ولكن يعترف بأن هذه التمرينات جميعا لا بد وأن تستوحي بعض جمالياتها من الماضي، وأن تتأثر بتجارب راهنة ومهمة، لتعيد إنتاج جمالياتها الخاصة بها. هل نستطيع أن نهمل آثار الشعر والنثر المهجريين، وآثار علي محمود طه وأبي القاسم الشابي والياس أبو شبكة وسعيد عقل وغيرهم، على بداياتنا؟ وهل نستطيع أن نتجاهل قراءاتنا السابقة والحالية المعجبة بإنجاز السياب وحاوي وأدونيس؟

عنده ليس ثمة من إنتاج في الفراغ، وليس ثمة من إنجاز وبداية. وعبر المعاناة في الحياة وفي القراءة والكتابة، وعبر التأمل بإعادة التأمل، وعبر النقد وإعادة النقد، يستطيع المبدع أن يحاول مشروعه، وأن ينجزه ويطوره ويتجاوزه.

نشر عددا من محاولاته الشعرية الأولى مطلع الستينيات، التي حاولت أن تقترح مشروع شاعر مختلف، مثل قصائد (التلوث والمنفى– خلية العراف– الظهور) على صفحات الآداب، و(عراف الريح– القبول) على صفحات حوار، و(التكوين اللامجدي– أغنية الساعات المحطمة– بدوي بلا آلهة) على صفحات المعارف. وقد أثارت على الصفحات الثقافية العربية أصداء وانطباعات متمايزة بشكل عام. وعرّفت قارئ الشعر آنذاك بمحاولة مختلفة. عملت تلك القصائد وغيرها، مما نشر منها وما لم ينشر، على مفهـومات بعث الأمة والمصير والعدالة والحب والجسد والموت وغيرها. ولا شك أنها استجابت بشكل مباشر لأنموذجات باهرة قدمها خليل حاوي والسياب بشكل خاص، ولكنها عملت على إنجاز لغتها ورموزها ولإيقاعاتها.

وفيما بعد كانت نكسة حزيران مناسبة إعادة النظر في الشعر وفي النثر، في الذات وفي الموضوع، في الأمة والنخبة، في الجماعة والجماهير، في الطبقة والسلطة، في الثروة والثورة. ويختلف مصطفى مع نفسه أولا، بعد أن كان يختلف مع غيره دائماً. وكانت خدمة العلم بعد حزيران مناسبة لمعاينة الشقاء والخراب العربيين في المؤسسة وفي المنظمة شبه الحديثتين، وفي الفرد وفي الجماعة الخائبين والمهمّشين. وكانت معاناة مضطربة وصعبة وعميقة بمعنى ما من الناحية النظرية والفلسفية والاجتماعية والإبداعية. في تلك الأيام كتبت قصيدتيه (الخروج في حزيران – نشيد على الطلل العربي) اللتين نشرتا  في مجموعة (المرثية الدائمة)، وقصيدة (النشور) التي نشرت في مجموعة (رماد الكائن الشعري). وبدا له أن يبحث عن لغة مختلفة ورؤية مضادة. ولكن الذات المنقسمة والممزقة لا بد أن تعكس وعيا منقسما وممزقا. ومع ذلك فقد وجد أن سؤال الحداثة هو سؤال هوية في أساسه، وأن اختبار حزيران هو اختبار الأمة والمجتمع والبشر، وأن القوى القومية من الناحية النظرية لم تنجز ممارستها القومية حقا، وبشكل خاص عندما استسلمت للعبة السلطة والقوة، وللعبة الثروة والمكانة فيما بعد.

دفعه التضاد غير المعلن مع المؤسسة في بعض الأحيان، أو التضاد شبه المعلن أو المعلن معها، إلى الغيبة أو العزلة. أليس هذا التضاد ذريعة بمعنى ما؟ ألا نرغب في بعض الأحيان أو في معظم الأحيان بأن ندعي التفكير الحر والتعبير الحر في مواجهة شقاء الداخل والخارج لنسوغ عدم الاهتمام بمحاولاتنا أو تجاربنا؟ وإلى أي مدى يمكن لمؤسسة مستملكة أن تفتتح؟ ومتى تغلق هذه المؤسسة نوافذها وأبوابها على إنتاج إبداعيّ أو ثقافي مختلفين؟ لم تكن هزيمة حزيران مدخلا إلى معاناة مختلفة من حيث السؤال الإبداعي. فقد قدمت له فرضيات الياس مرقص وياسين الحافظ وعبد الله العروي بشكل خاص مفهوم التأخر مفتاحا يمكن له أن يعالج مفهوم الهزيمة بالقدر الذي يعالج فيه مفهوم فساد السلطة وسلطة الفساد، وفساد الثروة وثروة الفساد. بالإضافة إلى فساد التفكير المغلق والمؤسسة المغلقة. وعلى أية حال ما الذي يفعله الشعر أخيراً بين عولمةٍ يبرز التوحش الأمريكي فيها بقوة، وأنظمة متأخرة تهمش شعوبها وقواها وثرواتها؟ ما الذي يفعله بين سلطة تحتكر وثروة تهدر؟ بين أمة تُحَطُّ وجيوب حكم تصعد؟ بين جسد يستهلك وروح تتآكل؟ بين هوية تقوَّض وأمل يتلاشى؟ هكذا تحاول لغته الشعرية الآن أن تدخل في منطقة المعاناة المختلفة والرؤية المختلفة. ولعل القارئ النقدي لاحظ بعض معالم هذه المنطقة في مجموعات أخيرة مثل (ديوان الزخرف ـ النشيد الدنيوي ـ أختار أن أتأمل ـ حجارة الشاعر).

تهجم أسئلة كثيرة على الشاعر مصطفى خضر وربما هجم هو على أسئلة كثيرة. غير مكترث لا بإجابة جاهزة ولا بقين. بل بقي مخلصا لاكتشاف لغته وإيقاعاتها من داخل تراث شعري كبير قديم ومعاصر وحديث. إلى أي مدى أعبر عن معاناة الفرد فيها من داخل معاناة من داخل معاناة الجماعة؟ إلى أي مدى أخلص لسؤال حداثة ينطلق من سؤال هوية؟ تلك أسئلة لا يمكن تحليلها في مقالة. هو يرى أنه ما زال الفرد مشروعا لم ينجز ذاته وما زالت الأمة أيضا مشروعا لم ينجز وحدته، والمجتمع شبه مجتمع ينقسم إلى قبائل وعشائر وطوائف وملل وشبه منظمات وشبه أحزاب. وما زال التأخر عنوان حركته، والفساد من عناصر نموه، والهزيمة المتكررة استراحته بين مرحلة تاريخية ومرحلة تاريخية أخرى.

ولنقل إلى أي مدى يحتاج المشروع الشعري إلى الفرضيات النظرية السابقة؟ وهل يستحق العمل الإبداعي كل هذا العناء الثقافي أو الفكري؟ إذا كان التأخر هو في أساس حياة الجماعة العربية اليومية وكان الفقر عنوان وقائعها اليومية؛ والتفكير الحر لا يمارس إلا في سجن الذات؛ إذا كان أفق المعاناة هو هذا الأفق المغلق؛ فللشعر أن يراهن على التعبير بشكل حر عن كل ما يعانيه صغر أم كبر، ضاق أم اتسع.

ماذا تعني حرية الشعر؟ لا نستطيع أن نختصر قضية حرية الشعر في مفهوم الشعر الحر أو شعر التفعيلة أو الشعر المنثور أو قصيدة النثر أو مفهوم النص أو مفهوم الكتابة. أليست حرية الشعر جزءا من قضية حرية التعبير التي هي حرية التفكير، وتشتغل على حرية الفرد التي هي حرية الإنسان من داخل علاقته بمشروع جماعة أو أمة؟

إن مشروع القصيدة العربية الحديثة التي اشتغل مصطفى من داخلها هي جزء من مشروع ثقافي عربي ما زال قيد الإنجاز، وهو جزء أيضا من الشغل على الذات وإعادة اكتشافها. وهذا ما كان هاجسه المستمر في كل ما كتبه شعرا ونقدا.

الحداثة في شعره وفكره هي مشروع إنساني افتتحه الإنسان بشكل عام الذي هو كائن ينجز ذاته باستمرار لا تأسره هوية منجزة، ولا يتوقف عند إجابة مطلقة. والإنسان العربي في مشروعه التاريخي الحديث يحاول أن يفتتح حداثته من داخل تفاعله الحي مع مكوناته التاريخية، بينما يستجيب لمعطيات وجوده في العالم. والحداثة في هذه الحالة ليست أشكالا أو أشياء أو أزياء، والحداثة الشعرية التي تحاورها إذا ليست مظهرا، ولا تبنيها قطيعة عابرة مع العروض العربي أو نظام البيت العربي، وإنما تتبنى إيقاعها من داخل بنية العروض العربي، وتعيد بناء لغتها من داخل تجربتها التاريخية اللغوية، وتتفاعل مع مشروع ثقافي قومي كبير هو جزء من مشروع الأمة الذي قد ينميه تحالف كونيّ وأممي كبير. لماذا إذا نريد للحداثة الشعرية أن تكون موضوع تفعيلة أو تفعيلات؟ ولماذا نريد لاستكشاف اللغة الحديثة أن يكون استجابة لخيمياء الألفاظ أو لحريق العبارات؟

توظف القصيدة عنده إذاً إيقاعها التاريخي وتبتكر إيقاعاتها من داخله، وتستجيب لمعاناة هي معاناة فرد في مواجهة شقائه الوجودي، والذي يشفّ عن معاناة مجتمع في مجابهة حاضره وماضيه، وعن معاناة أمة في مواجهة مستقبلها ومصيرها في مشروع حداثة إبداعية أو شعرية، ويستجيب للتغير الذي يقترحه وعيٌ مختلف لا يتصالح مع تراكم يدّعي الاختلاف والتضادّ، والتحرير أو اغتصاب البلاغة أو اللغة، أو تقويض الإيقاع، ويستجيب لتنمية مشروع شعري ينجزه وعي مختلف بقضية الأمّة والمصير. إن لعبة الحداثة العربية الراهنة في الشعر أو الفكر، وكما وعاها مصطفى خضر تشبه لعبة السياسة والدولة والسلطة. السياسة تراكم مؤسساتها ومنظماتها وأشياءها، وتحشد قواها وعناصرها ونخبها، على نحو يرتب استمرار سلطة ما تحتفظ لها بمكاسبها، بل تستملك المجتمع والثروة والبشر. وفي لعبة حداثة شعرية عربية راهنة تتراكم المفهومات وتتجاور الأفكار وتتداخل القيم والنتائج والخلاصات، سواء أكانت ذات علاقة باتجاهات غير متماثلة، أو غير متقاربة، أم كانت علاقتها بالاتجاهات ضعيفة وفقيرة، لتبسط كل مفهوم وكل علاقة، ولتستسهل أي شغل، ولتسترخص أي إبداع.

يفضح شعره كيفية تحوّل مشروع الأمة والمجتمع والفرد إلى ألفاظ، وتحول مفهومات الشعر والنثر والتعدد والتنوع والحرية والاختلاف والمشاركة إلى ألفاظ. شعره مضادّ لتحويل الحرية إلى ضرورة شعرية وكأتنها ملحق تزييني بلاغي، ويكشف شعره كيف تحولت المؤسسة بدلالاتها السياسية والثقافية والفكرية إلى سجن. يتساءل شعره: هل يمكن التأسيس لحداثة من خارج الحرية؟ وهل يتفاعل المنتج مع حريته من خارج معاييرها؟ أليس التأسيس بدايتنا على طريقة حداثة شعرية؟ إذا لم تكن الحداثة في القصيدة العربية تأسيسا في اللغة والإيقاع والرؤيا، فإما أن تُحطّ إلى تكرار، وإما أن يغلب عليها اللغو. كما أن الحداثة في السياسة إذا لم تكن تأسيسا لمشروع أمة أو هوية فقد تتحول إلى مباراة في حصاد السلطة أو الثروة.

نختتم هذه المقدمة النظرية لشعر مصطفى خضر بالنموذج الشعري التالي من مجموعته (ديوانُ الزُّخرفِ الصغير – 1997):

ربما ينتظرُ المخرجُ أن يخلوَ بالنص قليلاً،

ثمّ يغتالُ المؤلفْ!

ربما يقترحُ النوعَ الذي يقتسمُ الأدوارَ،

إذْ ضاقَ بأهواءٍ الشخوصْ!

ربما يفتقرُ الآنَ إلى ذاكرةٍ تلهمهُ في كل موقفْ

ويرى أي احتمالٍ رغبةً.. فوضى.. خليطاً من نصوصْ!

ربما يبحثُ ما بين مجازٍ ومجازٍ عن فضاءٍ لحداثهْ!

ويرى في حبكةٍ فاسدةٍ وضعاً شحيحاً وهزيلاً ومملاً..

ربما يختصر الأبطالَ والجوقةَ في اثنينِ، ثلاثهْ..

قبل أن تختلطَ الصالةُ: جمهوراً وتمثيلاً وإيماءً وقولاً..

ربما يلغي شخوصاً وحواراً ونشيدا..

قبلَ أن يعترَض الراوي على الدور الذي يلعبهُ التاريخُ

أو تفسدَ تلك الفرحةُ المضطربه!

*تلفزيون سوريا