رغم قِلة الأعمال التي كتبها الراحل بهاء طاهر (13 يناير/كانون الثاني 1935 ــ 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022) إلا أنها تركت بالغ الأثر في الأدب والثقافة المصرية والعربية، ربما لطبيعة الموضوعات التي تناولتها هذه الأعمال من قصة ورواية، من فكرة السلطة ومحاولة تحقيق العدالة على الأرض، كذلك فكرة الشرق والغرب، وقد اختبر الرجل حالة الاغتراب فعلياً، والتي أصبحت تسكنه بالفعل، كحالة لم يستطع الفكاك منها، خاصة وقد تماهى معه الخاص والعام، لتتشكل معالم شخوصه، التي لا تختلف كثيراً عن سيرته الحياتية، ليأتي صوته في أحد حواراته الصحافية ليقول.. «خرجت من مصر في نهاية السبعينيات، لأن السلطة لم تكن تقبل الاختلاف. فكان علينا إما أن نجلس في بيوتنا بلا عمل، وإما أن نخرج، فذهبت إلى جنيف. تأثير المكان والغربة واضح في أعمالي «قالت ضحى» و»الحب في المنفى». وبعد العودة كتبت عملين هما «ذهبت إلى شلال» و»نقطة نور» محاولاً استكشاف التغيرات التي حدثت في المجتمع خلال غيابي». هذا الصوت نفسه يتوحد وصوت بطل رواية «الحب في المنفى» الذي يقول.. «هل تركت الغربة بمحض إرادتي وعدتُ بهذا الكم من الحنين؟ أم أن الغربة لا تزال تسكنني وتستوطن أفكاري، بل مصيري نفسه؟».
عصر التنوير المصري
وبخلاف الأعمال الأدبية قدّم بهاء طاهر بعض الدراسات المهمة في المسرح وكذا في الثقافة المصرية، ربما من أهمها كتاب «أبناء رفاعة .. الثقافة والحرية». حيث يرصد دور المثقف المصري، وكيف أنجز بوعيه أسس الدولة المدنية، هذا المثقف نفسه الذي تراجع دوره وأصبحت مصر في هذا الحال من التردي ومسخ الهوية. ويقول طاهر في مقدمة الكتاب.. «ربما يكون أدق وصف لهذا الكتاب هو صعود الدولة المدنية وانحسارها، فالجزء الأول من الكتاب يرصد الصعود التدريجي لخروج المجتمع المصري من ظلام العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والحرية بجهود مثقفين على امتداد نحو مئة وخمسين عاماً، أما الفصول الأخيرة من الكتاب فتعرض خُطى التراجع التدريجي والمنظم لمشروع النهضة ذاك، بغية العودة من جديد إلى المنظومة الفكرية للدولة العثمانية التي يتغزل بها الآن الكثيرون على غير علم، رغم أنها أشرفت بمصر على الهلاك».
الفصام
لكن حالة طاهر كحالة الكثيرين من كُتّاب جيله ـ نحن هنا لا نرثي موتى، فالكاتب لا يموت ـ فرغم الانتصار لقيم العدل والحرية والجمال في النصوص الأدبية، نجد الموقف السياسي مختلفا تماماً، فالتاريخ الشخصي لجيل مثل جيل الستينيات ـ جيل بهاء طاهر ـ لا ينفصل، حسبهم، عن التاريخ المصري، هكذا يرون وهكذا يُصرون، رغم كشف الرجل نفسه لهذه الحقيقة، فالحرص على هذا التاريخ يصبح أهم من مراجعته وانتقاده، ويذكر ذلك صراحة في «الحب في المنفى».. «نشعر بأننا شبحان من عصر مات.. نعرف أن عبد الناصر لن يُبعث من جديد، وأن عمال العالم لن يتحدوا… فعلمتُ أنه مثلي.. يتشبث بيقينه لكيلا ينتهي عالمه.. لكيلا يضيع الحلم الذي دفعنا فيه ثمناً عمراً بأكمله».
وبالتالي ومن الحتمي أن يرى في عصر السادات أنه عصر القضاء على الثقافة ـ وهو مُحق إلى حدٍ كبير ـ فيقول.. «نجح السادات في تشتيت مثقفي النهضة والتطوير في منافي الأرض، وإسكات وإضعاف مَن تبقى منهم في مصر وجلب بدلاً منهم مجموعة من الوعّاظ المهاجرين منذ العهد الناصري إلى دول الخليج… كانوا معنيين تماماً بإبعاد الدين عن قضايا التطور الاجتماعي والحض على طاعة الحاكم والتركيز على الجوانب الشكلية للعبادات، وبمضي الوقت أصبحوا سلطة دينية». وهي السلطة نفسها التي كان يريد المثقف الناصري الاستحواذ عليها والحديث من خلالها لجموع الشعب/المخاليق. لكن يدور التساؤل حول الثقافة في العهد الناصري، التي كانت بدورها محكومة وموجّهة لخدمة أفكار الزعيم ونظامه، ونرى بهاء طاهر نفسه يعترف بهذه الازدواجية ـ الفصام بمعنى أدق ـ فيقول.. «ونحن في مستهل الشباب كنا متحمسين لثورة يوليو/تموز، كانت لها مطالبنا نفسها، كنا نطالب بجلاء الإنكليز والقضاء على الإقطاع واعتبرنا أنفسنا جزءا من الثورة. ثم فوجئنا بأن الثورة رغم الجوانب الإيجابية فيها، لا تحب الديمقراطية ولا تقبل أن يشاركها أحد في ما تفعل. فعشنا في ازدواجية بين المنجزات والروح القمعية، كنا إذا خرجنا في مظاهرة نقمع بشكل أعنف مما كان يحدث في العهد السابق، الكتابة كانت تنعكس فيها هذه الازدواجية».
المثقف والمزيد من الازدواجية
وعن دور المثقف المصري وعلاقته بالنظام السياسي تتواصل هذه النظرة أو الوعي المزدوج، فيقول.. «المثقف هو الخطر الحقيقي على المستبد، لأنه يسعى إلى التنوير ونشر الوعي، كل ما وصلنا إليه من تراجع هو نتيجة ضرب المثقفين منذ الستينيات. عندما كان يحكم جمال عبد الناصر بيد من حديد كان يعترف بالمثقفين، وأسند رئاسة تحرير «الجمهورية» لطه حسين. وهذا لا ينفي أن موقفه من السياسة كان ملتبساً، وفي السبعينيات بدأ عزل المثقفين، حيث كان للسادات مشروع مختلف من أهم أسسه استبعاد المثقفين».
الموقف من ثورة يناير
وتمتد هذه الازدواجية في مواقف الرجل، التي تدعو إلى الحيرة الشديدة.. فبعد القيام بثورة 2011 ذكر في أحد حواراته.. «أزعم أن جيلنا هو من بَشّر بهذه الثورة المجيدة، وأنا واحد من المؤسسين لحركة كفاية التي ناهضت حكم الرئيس السابق ومشروع التوريث، ومع ذلك لم أكن أتوقع أن يقوم الشباب بثورة على هذه الدرجة من الوعي، وهو ما يجعلني أشعر بأنهم سبقونا وهو نتيجة استخدامهم لوسائل اتصالات لم تكن متاحة لجيلنا». فلا يريد الستينيون ـ أغلبهم ـ الاعتراف بالفشل، والاعتراف بأنهم عاشوا أسرى خيباتهم، وشجاعة الاختفاء من المشهد. ولنسرد هذا الموقف الأخير للتدليل على هذه الخيبة.. حصل بهاء طاهر على جائزة (مبارك) عام 2009، التي تعد أرفع الجوائز المصرية ـ تغيّر اسمها الآن إلى جائزة النيل، حاجة كده زي الأمن الوطني بدل أمن الدولة ـ وقتها كان بهاء طاهر عضواً بارزاً في حركة (كفاية) لكنه قبل الجائزة. وبعد الثورة قام بردّها قائلاً.. «قبلتُ الجائزة لأنها باسم الدولة المصرية، والآن وقد أهدر نظام مبارك دماء المصريين الطاهرة فإني أرد هذه الجائزة بكل راحة ضمير». على أساس أن نظام مبارك وقت الجائزة كان يعيش المصريون في ظله وكأنهم في سويسرا. علامات التعجب ستشعر بتفاهتها أمام هذه العبارات.
الموقف من انقلاب 2013
ويستمر بهاء طاهر في مواقفه الغريبة من انقلاب 2013. والآراء الآتية ذكرها في حوار صحافي في جريدة «المصري اليوم» بتاريخ 3/4/2016..
ليأتي السؤال بمدى توقع بهاء طاهر بأن الرئيس المصري سيتمكن من تنفيذ وعوده خلال العامين المقبلين. فيأتي ردّه.. «ما زلت أنادي بمساندة الجيش والرئيس، (اصبروا شوية) على السيسي، وانظروا إلى الدول العربية التي مزقها الصراع والحروب الأهلية، ونحمد الله أن مصر متماسكة وأكثر استقراراً مقارنة بسوريا والعراق مثلاً، ويُذكر للسيسي أنه جنب مصر سيناريو التشرذم، الذي يحدث في الدول المجاورة شرقا وغربا وجنوبا».
أما السؤال التالي فكان.. لكن البعض يقول إن الأوضاع تزداد سوءا والشعب غاضب، خاصة بعد مرور عام تقريبا على المؤتمر الاقتصادي؟
وينقلب رد بهاء طاهر بدوره عن حالته الأولى قائلاً.. «الأمر يحتاج لوقت طويل، وبطبعي أحب التفاؤل، وأتمنى أن تكون مصر الآن سائرة في سكة السلامة، لكن أرى أن بعض الأفعال والممارسات الأخيرة تسببت في هذه الموجة، ولما سمعت عن مبادرة (صبح على مصر بجنيه) ضحكت وقلت: «بلا خيبة، ما تصبح هي الأول على الغلابة بساندويتش فول».
وفي الأخير.. سنترك الغلابة لحالهم ولحلمهم بساندويتش الفول ـ بما أننا ناس مثقفة ـ ونختتم بهذه العبارات من رواية «شرق النخيل» التي انتشرت على صفحات المثقفين على فيسبوك، حتى يصبح كل منهم جديرا بلقب (المثقف). يقول بهاء طاهر رحمه الله.. «لو أنَّا نموت معاً. لو أن الناس كالزرع ينبتون معاً ويُحصدون معاً فلا يحزن أحد على أحد ولا يبكي أحد على مَن يحب. لو يُحصد زرع البشر الذي ينبت معاً كله في وقت واحد، ثم يأتي نبت جديد يخضر ويكبر، لا يذكر شيئاً عما سبقه ولا يفكر في ما سيجيء».
بيبلوغرافيا
ولد بهاء طاهر في 13 يناير عام 1935، تخرج في جامعة القاهرة بحصوله على ليسانس الآداب قسم التاريخ عام 1956. ثم دبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة إذاعة وتلفزيون عام 1973.
عمل مترجماً في الهيئة العامة للاستعلامات بين عامي 1956 و1957، وعمل مخرجاً للدراما ومذيعاً في إذاعة البرنامج الثاني (الثقافي) وكان من مؤسسيه حتى عام 1975. عمل مترجماً في الأمم المتحدة في جنيف منذ عام 1981 وحتى 1995. واستقر في مصر بعد هذا التاريخ.
الأعمال
المجموعات القصصية.. «الخطوبة» 1972، «بالأمس حلمت بك» 1984، «أنا الملك جئت» 1985، «ذهبت إلى شلال» 1998، و«لم أكن أعرف أن الطواويس تطير» 2009.
الرواية.. «شرق النخيل» 1985، «قالت ضحى» 1985، «خالتي صفية والدير» 1991، «الحب في المنفى» 1995، «نقطة النور» 2001 و«واحة الغروب» 2006.
الترجمة.. «فاصل غريب» مسرحية ليوجين أونيل 1970، و»ساحر الصحراء» رواية لباولو كويلهو 1996.
دراسات.. «البرامج الثقافية في الإذاعة/دراسة نظرية» 1975، «مسرحيات مصرية/عرض ونقد» 1985، و«أبناء رفاعة» 1993.
الجوائز
جائزة الدولة التقديرية في الآداب 1998، جائزة جوزيبي أكيربي الإيطالية عن رواية «خالتي صفية والدير» 2000، جائزة كفافي اليونانية عن مجمل أعماله 2001، جائزة آلزياتور الإيطالية عن رواية «الحب في المنفى» 2008، وجائزة البوكر العربية عن رواية «واحة الغروب» 2008. جائزة مبارك في الآداب 2009، وجائزة ملتقى القاهرة الدولي السادس للرواية العربية 2015.
*القدس العربي