محمد عبد الرحيم: رحيل الكاتب السوري خيري الذهبي: قبس من روح دمشق وخيالها الجامح

0

القاهرة ـ «القدس العربي»: «رحيل خيري الذهبي خسارة مؤلمة للسوريين جميعاً. كان شيخ الروائيين، وصاحب أفكار جدالية، ونظرات في التاريخ، ودمشقياً حتى العظم. كان معارضاً مبكراً، منذ كان في سوريا وبداية إسهاماته الثقافية، لم يتنازل عما يؤمن به، كانت مواقفه منسجمة مع ما كان يدعو إليه. اختار المنفى، ولم يتواطأ مع النظام تشهد بهذا رواياته ومداخلاته في وسائل التواصل. أراد سوريا للجميع حرة ديمقراطية، دولة يسودها القانون. هذا ليس رثاء.. خيري الذهبي باق بيننا، روحه رحلت إلى مدينته دمشق». بهذه العبارات على صفحته الشخصية في فيسبوك، يرسل الروائي السوري فواز حداد تحيته للكاتب خيري الذهبي (1946 ــ 2022) الذي تعددت مجالاته الإبداعية، ما بين الرواية والمقالات والنقد والتنظير الأدبي، وصولاً إلى كتابة السيناريو.
ومن خلال ما أصدره الذهبي منذ منتصف السبعينيات وحتى قبل رحيله بقليل، وكذا مداخلاته وحواراته الصحافية، نجده صوتاً معارضاً لم تتحول رؤيته ووجهته الانتقادية للنظام السوري الحاكم. وسنحاول استعادة بعض من هذه الآراء والأفكار، التي سنجدها رغم كونها تجسد المأساة السورية، إلا أنها تتجاوزها لتنطبق على الأنظمة العربية الحاكمة ككل.

الكتابة والتاريخ

يصف الكثيرون خيري الذهبي بكونه الروائي والمؤرخ، إلا أن الصفة الأخيرة دائماً ما كانت تزعجه، فيقول عن علاقة الأدب بالتاريخ.. أنا لا أكتب الرواية التاريخية، ولم أكتبها في يوم من الأيام، ولا أحب كتابة الرواية التاريخية. في سوريا، سيطر في الخمسينيات والستينيات ما يسمى بأدب الالتزام؛ الأحزاب السياسية في سوريا آنذاك ضغطت به علينا بشكل مرعب، حيث تحول الكتاب جميعا إلى أصوات للسياسة، فتحولت الكتابة إلى عمل، هناك مُستغِل ومستغَل، إقطاعي وفلاح، رأسمالي وعامل، فأصبحت الكتابة الأدبية ضعيفة، يسردونها بطريقة ميكانيكية، من خلال إحضار شخصية إقطاعي يقوم بظلم فلاح ما.

الرواية السورية والعربية

وعن الموجات أو الموضات الروائية يواصل الذهبي حديثه.. في الخمسينيات، تسلل السيد (غوركي) إلى سوريا، فصار عشرات الكتاب، يطمحون إلى تقليد السيد غوركي. ثم في أواخر الستينيات ترجم سهيل إدريس لنا أعمال سارتر وصاروا كلهم يريدون أن يكتبوا أدبا وجوديا. وفي أواخر السبعينيات أوائل الثمانينيات، تُرجم ماركيز، وصاروا كلهم واقعية سحرية. أما في التسعينيات، بعد أن ترجم ميلان كونديرا، وهو طبعا، من أهم مفكري الأدب في العالم، ولكنهم، أي الروائيين السوريين، لا يقرؤون كونديرا كما يجب. لأن الأخير يقوم بتكنيك ما، يعتمد على تمرير كمية هائلة من الثقافة، مضافٍ إليها كمية من الجنس. والجنس بالنسبة للحضارة الأوروبية ليس «تابو» أما قراؤنا الذين تحولوا إلى كتاب، فأخذوا من كونديرا الجنس فقط ونسوا كل عمارته الفكرية.

التحوّلات

ثلاثية «التحوّلات» هي درّة ما كتبتُ، إنها واسطة العقد الذي لم تكتمل حباته حتى اليوم، فأنا ما زلت أكتب بكثافة، ولكن «التحوّلات» تلك كان لها متعة خاصة في الكتابة، إذ احتاجت مني على الأقل إلى سبع سنوات لإنجازها في ألف صفحة تقريباً. تلك الرواية الضخمة ذات الأجزاء الثلاثة أرّخت لمدينة دمشق روائياً، عبر سرد قصة ملحمية من ثلاثة أجيال لعائلة واحدة في دمشق، منذ ما قبل الاستقلال حتى عهد الحكومات الوطنية، وصولا إلى حكم العسكر وتسلط المخابرات على رقاب الناس. ويوضح الذهبي المقصود بمُسمى «التحوّلات».. لم أكن أقصد بكلمة التحولات والتطورات، بل كنت أقصد فيها ترجمة الكلمة الإغريقية اللاتينية (ميتا مورفيس) التي تعني (التناسخات) لأني أرى أن الحضارة العربية قد توقفت عن كل عطاءاتها منذ القرن الرابع الهجري، ليس هنالك من اجتهادات فلسفية أو فكرية، وحتى المذاهب توقفت عن التشكل، ليس هنالك من مذاهب جديدة، وكل ما فعلتها هذه الحضارة أنها تقوم بنسخ نفسها ببلادة، وهذه كانت رسالتي في التحولات.

الثورة السورية ومأساتها

وعن رؤيته للثورة السورية يقول.. الثورة ثورة أخلاق قبل أن تكون ثورة لإسقاط النظام، الثورة هي تغيير واقع بواقع، وتغيير النظام الاجتماعي قبل السياسي، لقد أفسد النظام المجتمع السوري، وأغرقه في الرشوة والفساد الإداري والكذب، وكان المطلوب السيطرة على نقاط الضعف هذه، وإدراك أنهم سيقومون بضرب الحراك الديمقراطي عبرها، فتعثرت ثورة السوريين نحو الديمقراطية، عبر عدم إدراكهم ضرورة مخاطبة العالم بصورة حضارية، وبالسقوط الأخلاقي، وما تقارير السرقة والاختلاس والنهب والفساد في المعارضة، إلا انعكاس لما فعله النظام عبر 50 عاماً. كي تنجح الثورة، يجب أن ندرك أنها ثورة الجميع، ونحن لسنا محور مصالح الكون، أضف إلى وجود مصلحة لنا كشعب سوري، لدى الآخرين مصالح لدينا، ومصالحهم تلك هي التي استغلها النظام وبنى عليها انتصاره في الحرب، ولو أن النظام بذل مجهوداً في مصالحة شعبه وإرضائه، الطاقة نفسها التي بذلها لإحباط انتفاضة شعبه لكانت الأمور في مكان آخر تماماً.
من ناحية أخرى يرى خيري الذهبي، أن أعماله بكاملها تبحث في سبب وأصل المأساة السورية، فيقول.. كل رواياتي تتحدث عن المأساة السورية، لكنني آثرت الحفر عميقا في الحكاية وفي المجتمع من أجل إيجاد العطب الأساسي المسؤول عن المأساة السورية، فأنا كاتب معارض، ولدت ثقافيا كذلك، وسأبقى معارضاً للسلطات حتى يستقيم حال المواطن السوري في بلده.

حكاية لم تزل حيّة

ويذكر الذهبي عن كتابه «300 يوم في إسرائيل» وهو شهادة طويلة عن أجواء حرب 1973، حينما تم أسره وقضى في السجون الإسرائيلية ما يُقارب العام.. قررت أن أستعيد تلك التجربة لتكون الشهادة الأولى من كاتب سوري، وأعتقد من كاتب عربي، على تجربة حرب تشرين، ولكن من دون عنتريات وأناشيد تجييشية وقومية، إنها شهادة من الداخل الإسرائيلي الذي يحتل الجولان وفلسطين، على ما جرى في تلك الحرب الحاسمة بين العرب وإسرائيل، هناك كان الواقع مختلفاً، حيث نبض الحرب يختلف عمن عايش الحرب، في دمشق أو القاهرة، أو باقي البلدان العربية، دون أناشيد حماسية وخطب رنانة وأكاذيب الإذاعات العربية.
ونختتم بهذه الفقرة من الكتاب.. «فجأة أحسستُ بيد تلمس مؤخّرتي، فعرفتُ أن واحداً أو واحدة يحاول أن يُنفِّس هذا البالون (أنا) ودون أن أقرّر، أو أعزم، وجدتُني أضرب ما خلفي بشدّة، فدرتُ في المكان أكاد أسقط على الأرض، ولم أصبْ أحداً، وعَلَت القهقهات النّسائيّة والشّبابيّة. وأمسك العسكري المصاحب لي بي بشدّة، يمنعني من الحركة، وسمعتُهُ يهمس في توتّر إلى الفتاة: كفاكي يا فتاة… وشدّني الجندي المرافق بشدّة، يُبعدني عن القهقهات والمقهقهات… كان نوع من اضطراب يهزّني دون إعلان: أكانت هذه إذنْ نهاية العسكرية السورية؟».

بيبلوغرافيا

خيري الذهبي.. من مواليد دمشق عام 1946. تخرج في جامعة القاهرة، كلية الآداب قسم اللغة العربية. ثم عاد إلى سوريا ليعمل في التدريس، ويُساهم في الحركة الثقافية السورية، مشاركاً في تحرير العديد من الدوريات في وزارة الثقافة واتحاد الكتاب السوري. تم اعتقاله كأسير حرب من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وقت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حصل على إثره على وسام الشجاعة والشرف من الجمهورية العربية السورية عام 1975. تفرغ بعدها للكتابة. وفي عام 1991 تم تسريحه من عمله في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، نظراً لتوقيعه على بيانات احتجاجية ومشاركته في الحراك السلمي المدني. مع ملاحظة أنه لم ينتم إلى أي تيار سياسي. غادر سوريا في 2012، متنقلاً بين عدة بلدان، حتى استقر في فرنسا، التي رحل بها في 4 يوليو/تموز 2022.

الروايات..

«ملكوت البسطاء» 1975، «طائر الأيام العجيبة» 1977، «ليال عربية» 1980، «الشاطر حسن» 1982، «المدينة الأخرى» 1983، «ثلاثية التحولات.. حسيبة 1987، فياض 1989، هشام 1997». «فخ الأسماء» 2003، «لو لم يكن اسمها فاطمة» 2005، «صبوات ياسين» 2006، «رقصة البهلوان الأخيرة» 2008، «الأصبع السادسة» 2013، «المكتبة السرية والجنرال» 2018، «الجنة المفقودة» 2021.
أعمال متنوعة.. «الجد المحمول» (مجموعة قصصية) 1993. «سطوح جباتا والحمائم» (قصص للأطفال) 1980. «التدريب على الرعب» (مقالات) 2004. «محاضرات في البحث عن الرواية» (أبحاث نقدية) 2016. «300 يوم في إسرائيل» (يوميات) 2019.
أعمال درامية.. «ملكوت البسطاء، الشطار، طائر الأيام، الوحش والمصباح، أبو حيان التوحيدي، لك يا شام، وردة لخريف العمر، رقصة الحباري، وملحمة أبو خليل القباني». ومن الأفلام.. وجوه ليلى، العنوان القديم. كما تحولت روايته (حسيبة) إلى فيلم أخرجه ريمون بطرس.

الجوائز.. جائزة أدب الأطفال 1982، وجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات 2019.

(القدس العربي)