«إنني أحس بانفصالٍ عن الكل، وأنظر من نافذة عيني على الناس والأماكن حولي، ولكنني لا أتفاعل معهم. وفجأة أجدني قد انفصلت عن وجودي، وخرجت من داخلي». (من أوراق عنايات الزيات 1962) «يتحول الكاتب الذي لا يستطيع التواصل مع آخرين إلى بطل مسرحي تراجيدي، يتضخم في عزلته إحساسه بالظلم أو بالعظمة أو بانعدام معنى وجوده».
هذه العبارة التي وردت في كتاب «في أثر عنايات الزيات» للشاعرة المصرية إيمان مرسال ــ من إصدارات الكتب خان في القاهرة ــ توضح إلى أي مدى ستكون حياة وتفاصيل الشخصية التي تبحث مرسال عنها، وتحاول بعث الروح في سيرتها التي اتفق الجميع في تواطؤ أن يتم تجهيل هذه الشخصية وحياتها، وكأنها لم تكن. وبمناسبة صدور الكتاب، تم عقد ندوة في دار النشر، أدارها الكاتب والمترجم أحمد شافعي، وحاولت من خلالها إيمان مرسال توضيح بعض من تفاصيل حكايتها مع عنايات الزيات (1936 ــ 1963). الكاتبة المصرية صاحبة الرواية الوحيدة المعنونة بـ «الحب والصمت» ــ أنهتها عام 1960، ثم تلقت ما يفيد بعدم صلاحيتها للنشر عام 1963 ــ والتي اختارت كاتبتها أن تصمت إلى الأبد بدورها، بعد انتحارها في عام 1963، وقبل صدور روايتها عام 1967.
عن كرامات الأولياء
تحدث أحمد شافعي بداية عن أجواء الكتاب، وأثار عدة أسئلة وتفسيرات للكتاب ومؤلفته، التي تعرضت إلى مظاهر عدة، مما كان سائداً وقتها، في خمسينيات وستينيات القرن الفائت، كقوانين الأحوال الشخصية، مستشفى بهمن والعلاج النفسي في مصر. إثارة فكرة التأريخ من خلال فكرة الكشوف الصغيرة.. نوع الحبوب المنوّمة وسيلة عنايات الزيات لانتحارها. ذكر فقرة كاملة من قانون الأحوال الشخصية. التأريخ من خلال الهامش. إنقاذ سيرة بأرشفتها. اختلاق أرشيف ما على سبيل المثال، وهو ما يتكامل، وأرشيف الشاعرة نفسها، ويوضح فكرة التجاهل من خلال سياق متشابه إلى حدٍ كبير، كذلك مصادفة إيجاد رواية عنايات الزيات الوحيدة في سور الأزبكية، في بداية التسعينيات، والمؤلفة في طريقها للبحث عن كتاب عن كرامات الأولياء، فتجد رسالة وكأنها من العالم الآخر.
عن التجاهل والنسيان
تشير إيمان مرسال إلى أن الحافز للكتابة عن شخصية عنايات الزيات هو السؤال لماذا تم تجاهلها؟ لتنفتح أمامها خريطة متشابكة من الظروف والسياقات السياسية والاجتماعية، التي تتشابه إلى حدٍ كبير وما نعيشه اليوم. فالنغمة السائدة وقت الستينيات هي ربط الذات بالعام، لكن عنايات الزيات لم تفعل ذلك، فتم إبعادها. فالسلطة السياسية هي التي تتحكم في الأرشيف. فتم تقرير ماذا سيبقى، وما الذي سيتم نفيه أو تعمد نسيانه. ولكن الأمر بعيداً عن الأرشفة، فهي (عنايات) مُجهّلة في الأرشيف ومرفوضة. أما أصحاب المشروع الإبداعي المُساير لمشروع الدولة، فيتم الاحتفاء بهم، بخلاف أي صوت مختلف، الذي سيكون بالضرورة مصيره النسيان.
من ناحية أخرى فالكتابة ليست مع شبيه، أو رفع الظلم عن شخصية انتهت، بل تقاطعات مع لحظات مؤثرة، ولا تهم أهمية الرواية من حيث قيمتها الأدبية، فالكتاب كان من الممكن أن يكون عن شخصية ليست روائية.
فالأمر لا يخص القيمة الفنية للعمل، فالرواية عند صدورها عام 1967 تم استبعادها، والأرشيف مهمته التعدد وليس الاحتفاء «مش شرط تكون عظيمة علشان تعيش».
عن المجتمع الذكوري وكُهان الأدب
وتضيف مرسال أن حالة عنايات الزيات كانت عبارة عن لحظة تمثل الفردية في مواجهة الجميع. ففي عصرها لم تكتب كاتبة مصرية أو عربية عن لحظات وتفاصيل متوترة تخصها وحدها، وتتمثل حالتها، بدون الاهتمام بشيء آخر، وبعيداً عن النغمة السائدة وقتها أو التوليفة الكتابية المعروفة. فالكتابة الجيدة في نظرهم وقتها ــ الستينيات ــ هي توليفة من قصة الكاتبة الشخصية والصراع الاجتماعي والسياسي. والخارج عن هذا النظام لا يجد سوى أن تُسحق إمكانياته لصالح الفكرة السياسية المسيطرة. وبالتالي نجد أن رواية «الباب المفتوح» هي الرواية النموذجية لكتابة المرأة، التي أصبحت تمثل سلطة بدورها إلى وقت قريب. ناهيك عن الفكر الذكوري أو نمط التفكير هذا، وفي حالة الزيات يبدو كل من يوسف السباعي وأنيس منصور مثالا لكُهان الأدب، ولم يزل أشباههما يعيشون بيننا حتى الآن، فهل تغيّر شيء؟
المصدر: القدس العربي