ليست سهلة ترجمة العنوان الأصلي لفيلم “Passing“(*)، الباكورة الإخراجية للممثلة ريبيكا هول. فالمصطلح الأميركي يشير هنا إلى ممارسة “تمرير الذات” كشخص من أصل ولون بشرة مختلفين، للتسلّل داخل مجتمع أبيض تجنباً للتحيّزات العنصرية. شاعت تلك الممارسة بين أبناء الزيجات المختلطة (بيض وسود) من أجل الاندماج في مجتمع العرق الأبيض المتفوّق والتخلُّص من عبء “الوصمة البشرية”، كما سمّاها فيليب روث في إحدى رواياته الشهيرة.
الفيلم مقتبس عن رواية بالعنوان ذاته للكاتبة الأميركية نيلا لارسن، صدرت في العام 1929 (صدرت ترجمتها العربية – تحت عنوان “زنج” – في العام 2016 عن دار “أثر”، بتوقيع المترجم السعودي علي المجنوني). وُلدت لارسن في شيكاغو العام 1891، لأب أسود من إحدى جزر الهند الغربية، وأمّ دنماركية، وعايشت منذ طفولتها التمييز العنصري كونها الوحيدة ذات البشرة الداكنة في العائلة. هول (1982 – لندن)، والتي يستحيل إلا توصف كامرأة قوقازية، وُلدت أيضاً لأب من أصول أفريقية (المخرج المسرحي الإنكليزي بيتر هول) وأمّ بيضاء من أصول هولندية وأفرو-أميركية (مغنية الأوبرا الأميركية ماريا إوينغ)، واختبرت كذلك شيئاً من حيرة الهوية العرقية داخل عائلتها المختلطة. كان الموضوع حاضراً في المناقشات العائلية، ثم فكّرت بجدّيها لأبيها، واحتمال أن يكونا أيضاً من أصول عرقية مختلطة لكنهما عاشا كـ”بيض” داخل مجتمعهما. من هنا جاءتها فكرة تقديم فيلم عن تعقيدات الهوية العرقية وأزمتها بالنسبة لأولئك المتسلّلين/العابرين للعيش في مجتمعات بيضاء، تحت ستار لونهم الأبيض، والتمتّع بالامتيازات الممنوحة لهم فقط لأنهم بيض البشرة.
إلا أن الفيلم لا يسعى للنظر إلى الظاهرة من الناحية التاريخية، بل يتساءل عما يشكّل الهوية في الواقع. لم تستسهل هول اختيار موضوع ظهورها الإخراجي الأول، فقد عملت لأكثر من 15 عاماً لتحويل رواية لارسن إلى السينما. تنتمي لارسن إلى “نهضة هارلم”، وهي حركة إحياء فنية وثقافية سوداء ظهرت في نيويورك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. روايتها التي وُصفت وقت نشرها، بأنها دراما مولاتو – وهي كلمة لم تُستخدم أبداً في الفيلم – تحكي العلاقة بين صديقتين من أيام الطفولة، أصولهما مختلطة عرقياً وبشرتهما ذات سُمرة خفيفة، تلتقيان بعد سنوات من الفراق، لتتشاركا سرّاً خطيراً في أميركا عشرينيات القرن الماضي، وهو حسّاس بقدر إرباكه.
تزوَّجت إيرين (أداء رائع من تيسا طومسون) من طبيب أسود، لتؤكد مجدداً في حياتها العامة والخاصة أصلها الأفريقي الأميركي، بينما تزوّجت كلير (روث نيغا) من رجل أبيض، تاركة خلفها هارلم (الحي الذي نشأت فيه) وأي روابط مع المجتمع الأسود وثقافته. يتبع سيناريو الفيلم خطوط الحبكة الأصلية، بما في ذلك نهايتها الغامضة، ويختار التصوير بالأبيض والأسود (لتقليل الاختلافات بين درجتي لوني البشرة، والتأكيد على فكرته الأساسية)، وشاشة شبه مربعة تناسب حجم شاشات السينما الكلاسيكية في العشرينات والثلاثينيات (زمن أحداث القصة، ولبيان القمع المجتمعي والداخلي الذي تواجهه البطلتان أثناء محاولتهما العثور على مكانهما في العالم). على عكس ما يمكن استنتاجه من المَشاهد الأولى، التي تلتقط لقاء بالصدفة بين الصديقتين القديمتين في فندق نيويوركي فخم، فإن منهج ريبيكا هول لم يَمِل إلى الواقعية التاريخية، وإنما اختارت أسلوباً يعتمد على حوارات شبه أدبية وفوتوغرافيا تعزّز الجوانب الأكثر تعبيراً عن بيئات شخصياتها، ما يعكس الحالة الداخلية للبطلة، إيرين، التي لا يتخلّى الفيلم عن وجهة نظرها أبداً.
شعرة دقيقة تفصل بين هذا النهج واحتمال خلطه بالمظهر “المسرحي” السائد في مشاهد الفيلم، لكن هنا تحديداً تكمن السينما. بعيداً من التقليلية المباشرة والمسرحية السائدة في أفلام مثل “قاع ما ريني الأسود“، وهو أحد أفلام “نتفليكس” الأخرى المُتمَسرحة، يتجنّب “Passing” إساءة استخدام الأجندة الأيديولوجية ويركّز على تعقيدات الشخصيات، لا سيما تناقضاتها. في زيارة مطوّلة لنيويورك، لا تعيد كلير إحياء الروابط مع إيرين فحسب، بل تسعى أيضاً إلى استعادة العلاقات المفقودة بأصلها، فتتشارك النزهات والاجتماعات مع الزوجين، دائماً في الخفاء من زوجها، العنصري الأبيض القحّ (ألكسندر سكارسغارد). بشقارها البلاتيني، وانطلاقها، وتألقها وظُرفها؛ تصبح كلير بلا عناء مركز الاهتمام الجديد في المشهد الاجتماعي لإيرين، التي تسير حياتها الموسرة اقتصادياً جنباً إلى جانب مشاركتها في الأنشطة الخيرية والتفاعل مع النخبة التقدمية المثقفة في نيويورك. هذه الأخيرة تمثّل منطقة احتكاك ومفارقات، يبرزها وجود كاتب أبيض مرموق (يلعب دوره العظيم بيل كامب) ويأتي ببعض الدعابات الساخرة واللاذعة.
الوضع الآمن والراحة النسبية لإيرين وعائلتها يتعارضان مع أخبار عمليات الإعدام خارج نطاق القانون وقتل المواطنين السود التي تملأ صفحات الجرائد، وبدورها تداوم إيرين على إخفائها عن أطفالها الصغار. هل من الممكن التوفيق بين العالمين، بمنع حضور الواقع لبناء آخر ممكن؟ لا تستمع إيرين، أو تتظاهر بعدم الاستماع، إلى طلب زوجها المتكرر (أندريه هولاند) لمغادرة الولايات المتحدة، وعندما يرفع هذا، وغيره من صراعات داخلية، مستوى النقاش وحجمه، تدخل البطلة مرحلة من “الميلانكوليا” الشديدة، باستخدام مصطلح يتماشى مع العصر، ترافقها نغمات بيانو “المتجول المتشرد“ للراهبة والموسيقية تسيغوي- مريم غويبرو، مستعيدة الفكرة السائدة لتلك الأيام والليالي التي تشبه زلزالاً صامتاً.
بنبرته الهادئة وميلودراميته المحسوبة وتصويره الرائع، يمثّل “Passing” باكورة إخراجية واعدة جداً، باستقرائه الذكي للأعراف الاجتماعية والعنصرية ومسألة ما الذي يحدّدنا بيولوجياً ومدى تأثير الثقافة فينا. ماذا يفعل هذا المرور/العبور/التسلل بالمرء؟ كيف ندين لأصولنا ولأي مدى؟ أم أن هناك حقاً إنسانياً في اختيار المرء هويته بحُرية؟ في النهاية، يمتلك الفيلم إجابته القاطعة على هذا السؤال، على الأقل في سياقٍ تاريخي. وهكذا يُلقي بظلال الشكّ أيضاً على التقدُّم المحرز في القرن الواحد والعشرين، بعد مئة عام تقريباً من حكايته، في زمن استعار حروب الهويات الثقافية والتوترات العرقية.
*المدن