يكاد التاريخ الإنساني أن يكون رحلة البشر بحثاً عن حرّيتهم. وحين تستعصي الحرية ويغيب الأمان في وطنك الذي عرفته، ترتسم أمامك طريق الرحيل. نناضل منذ عقود من أجل السلام. نكافح لإعلاء المبادئ والقيم الديموقراطية. نتطلّع إلى عالمٍ يسوده الوئام والتفاهم. كنا نتمنى ألا نكرر الأخطاء المؤلمة التي ارتكبت في الحروب الماضية. كنا نؤمن بالخير. وفشلنا. للأسف، بغض النظر عن مقدار التكنولوجيا التي قد لا نمتلكها تحت تصرفنا، بغض النظر عن مدى تحرُّرنا أو عدد الحقوق التي قد لا نمتلكها، يبدو أنه ما زالت هناك حاجة/نزوع ما قبل تاريخي للهيمنة، والكراهية، والانتصار، أياً كانت الكلفة. أسلحة هذه الحرب الجديدة ليست سوى قيم المعتقدات المتطرفة والفاشيات الإلغائية. وللعثور على ما هو أكثر من البيانات التقريرية، ربما تنبغي مشاهدة الفيلم الوثائقي الجديد “بسيط كالماء“(*)، الذي أنجزته المخرجة الأميركية الحائزة جائزة الأوسكار، ميغان مايلان.
في أول أفلامها الوثائقية الطويلة، “أطفال السودان الضائعين” (2003)، تابعت مايلان مجموعة من اللاجئين السودانيين المضطرين لمواجهة وفرة الحياة في الضواحي الأميركية التي تغرّبهم. الآن، تعود إلى موضوع اللاجئين، هذه المرة إلى السوريين المنتشرين في أنحاء العالم، والذين غالباً ما انفصلوا عن فرد أو أكثر من أفراد الأسرة. قصة مُلحّة عن سوريين يكافحون من أجل العودة إلى الحياة الطبيعية بعد الحرب والنزوح، خائضين في سبيل ذلك عمليات صعبة ومتاهات بيروقراطية من أجل هدف بسيط ومستعصٍ يتمثّل في لمّ شملهم مع عائلاتهم.
تلقي مايلان نظرة فاحصة على الحرب في سوريا من خلال قصص خمس عائلات سورية نجت بما أمكنها الحفاظ عليه، ثم، بعد خوض تقاطعات ومحطات قاتلة للوصول إلى بلاد آمنة، يتحتم عليهم انتظار ردّ السلطات على طلباتهم في الحصول على وضع اللاجئ أو اللجوء أو لمّ شمل الأسرة أو مجرد مأوى مؤقت. تمتد القصة حول العالم، حيث صوّرت في تركيا واليونان وألمانيا وسوريا والولايات المتحدة، وعبر الزمن، بتغطيتها خمس سنوات من حياة الشخصيات الرئيسية.
بلا سرد أو مقابلات (ما لم تحسب استخداماً واحداً لأخبار تلفزيونية أرشيفية)، يبيّن الفيلم صدمة وألم وشوق شخصياته/موضوعاته من خلال السماح لنا بقضاء الوقت معهم. هذا لا يعني أن الفيلم يأخذ متفرجه إلى منطقة راحته، فمايلان تعمل مع كاميرتين على الأقل في العديد من المشاهد، وتبدّل الزوايا خلال المحادثات، ما يسمح لنا برؤية كيف يتفاعل العديد من الأشخاص مع الموقف نفسه. تترك مايلان لأبطالها الحديث، ولا تتدخل بإضافات توضيحية، وإنما تنتهج الدراما الوثاثقية الكلاسيكية: تترك الصور تتحدث. بالحديث عن الصور، فهي على درجة عالية من الجودة، مونتاجياً ولونياً، من درجات الإضاءة إلى اللعب بالظلال، بما يكفي لنقل الحالة المزاجية والعاطفية إلى المُشاهد.
بالطبع سيختبر المشاهدون قدراً معتبراً من المشاعر طوال الفيلم، لأن قصص العديد من المهاجرين حزينة للغاية. واحدة تفقد طفلها أثناء عبورها بالقارب من سوريا إلى اليونان. وأخرى تجبر على إيداع أطفالها الخمسة في دار للأيتام، لعدم قدرتها على رعايتهم. واحد يعتني بشقيقه بعدما بُترت ساقه في غارة جوية، قبل أن يحمله على ظهره إلى تركيا. زوجة أحدهم تموت ببطء أثناء فرارها بسبب سرطان ينهش جسدها. وأمّ منهارة لا تتخلّى عن الأمل برؤية ابنها حيّاً مرة أخرى بتصديق روايتها عن اختطافه وسجنه على يد تنظيم داعش (وبالتالي فهو مؤهل للدخول في صفقة لتبادل الأسرى). كل حياة من تلك الحيوات الضائعة عبارة عن سردية تقرنها مايلان بخلفية عاطفية تخاطب المُشاهد، وهنا الكلمات لا لزوم لها. كل ما يتبقّى هو قراءة الألم في عيونهم أو الشعور بانفعال لمّ الشمل، حين ترى شخصاً يفقد إيمانه فيما يجد شخص آخر معنى لحياته.
على الرغم من تناقض هذه القصص في بعض المواضع، إلا أن خيطاً ينظمها جميعاً، فهي تحكي قصص أشخاص مقتلعين من وطنهم، قُذفوا تحت رحمة الدول المُضيفة. فقط بالمقارنة مع الأطفال، هؤلاء أشخاص تجاوزوا أوانهم بالفعل، أشخاص رأوا كيف أن نظاماً متطرفاً في وحشيته، فاحشاً في شرّه المطلق، غيَّب أزواجاً أو آباء أو أطفالاً، ودفعهم للتيه في بلادٍ غريبة وقاسية. المونولوغات، في فيلم ميغان مايلان، تأتي كأمثولات من دون أي تلميح لاستياء أو مظلومية، إنما بإمكانها تبديد عدوانية الأوروبي العادي تجاه هؤلاء الرُحَّل المجبرين على بدء حياتهم من الصفر.
المؤثّر في “بسيط كالماء”، ليس الشهادات نفسها، لكن الحقيقة اليومية النابعة منها تلك الشهادات/الحيوات. لا تنشغل مايلان بعيداً منها، لكنها أيضاً لا تبالغ في ما تعرضه. على عكس الفيلم الوثائقي المعتاد، الذي يستخدم “موضوعاً” ليكشف عنه، فإن “بسيط كالماء” عبارة عن وثيقة رصدية تطلب المساعدة من دون الحاجة إلى تمارين عاطفية دافعة، أو نصّاً أو سرداً مصاحباً. نحن لا نعرف سوى القليل عن “كيف” أو “أين” لكل عائلة. ما يهمّ مايلان هو ما يمكن لإضافتها هذه، تحقيقه في نسيج الحياة هذا، بحسب حديثها لصحيفة “الغارديان“، إذ تقول إن “الفيلم يملك سقّالات الصحافة”، وهي فكرة يؤكدها الناقد راديان سيمونبيلاي لاحقاً، “لكنه مدفوع بالإنسانية”. مرتكز الفيلم هو بالتحديد هذا البناء المحفّز على التفكير بطريقة توازن بين استخلاص المعلومات والتعاطف الكامل.
“بسيط كالماء”، مثل عنوانه المأخوذ من قصيدة لرياض الصالح حسين، فيلم صريح ومجازي في آن، يدفعنا للتأمل في معنى العائلة وتمثّلاتها على نطاق أوسع، يشمل البشر جميعاً. وثائقي حميمي، يجبرنا على اتخاذ موقف والقيام بدورنا للتخلص من الصور النمطية للكراهية، وكراهية الأجانب، لبناء عالمٍ ينتصر فيه الخير على الشرّ.
*المدن