وُلِد كل من أمل الزقوط (1988) وخالد عبد الواحد (1975) في سوريا. لكنهما لم يلتقيا هناك، بل في تركيا، حيث تزاملا في المنفى بعد فرارهما من بلدهما الغارق في مقتلة لا نهاية قريبة لها. وقعا في الحب وبدآ التفكير في الحياة معاً، مع ألم العيش بعيداً من الوطن. بدت برلين وجهة مثالية، مدينة عالمية، تؤمّن فرصاً وهدوءاً أكثر قليلاً من اسطنبول، حيث وضعت الاحتجاجات الاجتماعية، المهاجرين السوريين في وضعية ظهرهم للحائط. لكن خالد وحده كان يحمل الأوراق من أجل هجرة قانونية. فيما كل ما تبقّى لأمل فعله هو الدخول في المتاهة البيروقراطية للبحث عن تأشيرة، والانتظار. انتظرت طويلاً. ثم انطلقت في المغامرة المرعبة نفسها التي خاضها آلاف اللاجئين والمهاجرين – الموسومين بـ”غير الشرعيين” – بحثاً عن حياة أكثر كرامة: محاولة دخول أوروبا على متن مركب تهريب.
رحلة عبر البحر الأبيض المتوسط كان من المفترض أن تصل جنوب غربي تركيا، باليونان، بعيداً من عيون رجال الأمن. لكن في الأثناء، كما يحدث عادةً، غرق القارب بالقرب من الوجهة المنشودة، مخلّفاً العشرات من حمولته الزائدة، سابحين في المياه المالحة، ليس هرباً من قسوة الطبيعة والمياه فحسب، وإنما أيضاً من اليد الطويلة لخفر السواحل الأوروبية. حدث ذلك في العام 2015. مع حمولة تزيد عن 300 شخصاً على متن القارب، قضى نحو 50 منهم في البحر، بينما ظلّ الباقون مدة 15 ساعة تقريباً متشبثين بعوامات الإنقاذ وغيرها مما طاولتها أيديهم بحثاً عن النجاة.
ما يلي الغرق مباشرة هو ما يسجّله فيلم “بحر بنفسجي“، الوثائقي المدعوم بالنصوص الأدبية على عادة غالبية الوثائقيات السورية في الأعوام الأخيرة، وهو من إخراج الثنائي الزقوط وعبد الواحد، والذي يصل هذه الأيام إلى منصة “موبي” بعد جولة لافتة في المهرجانات السينمائية، شملت “برلين” و”رؤى الواقع” المرموقَين. تسجيل صادق ومُلحّ، مصوَّر بكاميرا مائية ثبّتتها الزقوط بسترة نجاة كانت ترتديها. من تلك “العين الإلكترونية” غير المستقرة والمغمورة جزئياً، كما يقول صوتها، كل شيء مرئي: السماء الزرقاء، والمياه الشفافة، والحدود القارية في الأفق. لكن هذه ليست نزهة بحرية، بل لعنة حقيقية، أن تضطر للتعامل مع وضع ميؤوس منه تكون هي نفسها إحدى بطلاته: قريبة جداً من هدفها، إنما في حقيقة الأمر أبعد ما تكون عنه.
لا يهتم ثنائي الزقوط وعبد الواحد، كثيراً، بالنهج الصحافي والتقريري، بقدر اهتمامهما بالمنهج الحسّي والمقاربة الإنسانية المجرّدة، ما يخلق شعوراً بضرورة التيقّظ التام، يسيطر عليه التباين بين طبيعة السطح (وإمكاناته التي تبدو بعيدة جداً) وهذا العالم السائل (المغمور فيه المُشاهد بصحبة الكاميرا والمخرجة) حيث يبدو أن الوقت يمرّ بسرعة مختلفة تماماً عن مثيله في البرّ (أو أمام الشاشة). ينقضي جزء كبير من مدة الفيلم (67 دقيقة) والكاميرا تحت الماء، تعتم الشاشة حيناً، وتغمرها أشعة الشمس أحياناً، مزودة الصور بدهشةٍ مفتوحة على جمالٍ مخيف، فيما لا تظهر الوجوه أبداً. بهذا القرار الفني الجريء، يندرج الفيلم في فصيلة نادرة من المشاريع السينمائية التي تتوخى الواقعية إلى حدودها القصوى، وتنفتح المأساة الشخصية على بُعد أشمل لتنعكس كارثةً جماعية تشمل كل مَن يغيب وجهه عن النشرات الإخبارية وتقارير الموت المتواتر في مياه المتوسط.
الإرباك هو القاعدة في “بحر بنفسجي”. من الناحية المرئية، في مقابل غياب الوجوه – وجه الزقوط ووجوه رفاقها الباحثين عن النجاة – يمكن للمرء رؤية الحبال التي تربط سترتها، وعدد لا حصر له من الأرجل والأذرع يحاول إبقاء الأجساد طافية. بعبارة أخرى، الصراخ وضجيج الماء الذي يضرب الأجساد مصحوباً بسمفونية غير متطابقة من الصفارات يطلقها أولئك الذين يربطون بقاءهم على قيد الحياة بإمكانية سماعهم. يُبرز عنصر الصوت هذا النضال الدائم في الماء البارد، يرافقه تشويش المطاط الذي يخمد ضجيج الصرخات، ويصاحب هذا كله صوت أمل نفسها في رسالة مفترضة موجّهة إلى رفيقها، تستذكر فيها المواقف التي قادتها إلى هناك وتسرد المشاريع المشتركة مع مَن تحاول النجاة لأجله، مما يعطي الذكريات وإمكانية الحلم بمستقبل أفضل صفة/قوة محركات النجاة. هناك أيضاً تأملات – بعضها أكثر إثارة للاهتمام من غيرها – حول تأثير هذه التجربة فيها وفي أولئك الذين يعيشون مواقف مماثلة يومياً.
بهذا المعنى، فإن “بحر بنفسجي” هو شهادة عن أولئك الذين، من الناحية الإخبارية والجيوسياسية، يبقون مجرد إحصائيات وأرقام توضّح عالماً مأزوماً تغيب عنه إرادة الإصلاح. الفيلم يعطي صوتاً لهؤلاء المغيّبة وجوههم والمنسية أسماؤهم، ليذكّر بالحرب المقيمة في بلدهم، وبالجزّار الأبدي المقيم في قصره الرئاسي، وبامتيازات لامحدودة ينعم بها “المضيف” الأوروبي في خضم إعلان رفضه استقبال هؤلاء الفارّين مما لا يُمكن تخيّله أو تصوُّر النجاة منه والعيش بعده. فيلم جذري وقدّاس شاعري ووثيقة أصيلة وصادمة. من أول ثوانيه إلى آخرها، لا يفلت المُشاهد، يواجهه بمنظورٍ ذاتي لا فكاك منه لإشعاره بمعنى أن يتحطّم قاربك في قلب البحر. ليُظهِر – وشيء من هذا القبيل قاله شوبنهاور قبلاً – أن التعاطف ليس شيئاً يقرر المرء الانحياز إليه أو ضده، وليس فضيلة يختصّ بها “الإنسان الجيّد” دون غيره، بل راسخ بعمق، أنثروبولوجياً، وهذا الشعور بالألم أو التجانس معه على الأقل، هو ما يجعلنا بشراً في المقام الأول. مَن لا يتعاطف هنا يجب أن يكون حجراً.
(المدن)