الصورة الرمزية الوحيدة لاتفاقية أوسلو هي تلك التي يصافح فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في حديقة البيت الأبيض في أواخر صيف 1993. عُرفت الوثيقة التي وُقعت بين الاسرائيليين منظمة التحرير الفلسطينية، باسم إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت، لكنها أصبحت تُعرف عالمياً باتفاقية أوسلو. كان جوهر الصفقة هو الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وإنشاء سلطة فلسطينية في غزة والضفة الغربية. وكان من المقرر التفاوض على القضايا العالقة، الأساسية والأكثر صعوبة، في مرحلة لاحقة. أسست الاتفاقية موطئ قدم لمنظمة التحرير الفلسطينية في غزة والضفة الغربية ومهَّدت الطريق لمعاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية في العام 1994. ما روّج له بأنه اختراق في العام 1993، تحوَّل في السنوات القليلة اللاحقة إلى فشل كامل في التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا الرئيسية التي كان من المقرر معالجتها لاحقاً. كان فشل محادثات كامب ديفيد للسلام عام 2000 بمثابة نقطة تحول رئيسية أخرى.
كان الاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بمثابة فصل جديد في صنع السلام في الشرق الأوسط، كما روّج البعض، وباباً ملكياً لتصفية القضية الفلسطينية في نظر البعض الآخر. جاء حفل التوقيع في واشنطن تتويجاً لأشهر من مفاوضات القنوات الخلفية السرية للغاية بين الممثلين الفلسطينيين والإسرائيليين جرت في مدينة أوسلو. كانت الوساطة النرويجية في تسهيل هذه المحادثات السرية مفيدة ودخلت منذ ذلك الحين في أدبيات المفاوضات الدولية كدراسة حالة. قبل أسابيع، صدر فيلم تلفزيوني من إنتاج محطة “إتش بي أو” الأميركية، بعنوان “أوسلو“، من إخراج بارتليت شير ومقتبس عن مسرحية بالاسم ذاته للكاتب جيه تي. روجرز حائزة جائزة توني المرموقة، يعيد تناول ما وراء الصورة الشهيرة بين عرفات ورابين عبر تصوير درامي للمفاوضات السرّية في النرويج من أواخر 1992 إلى منتصف 1993.
توقيت الفيلم يبدو مطرَّزاً بالتوفيق التام، بعد التصعيد الأخير في الأراضي المحتلة وما رافقه من إعادة تذكير بمساوئ “أوسلو” وتبعاته، ولواحقه في ترتيبات السياسة الداخلية للدولة العبرية؛ غير أن مشاهدة الفيلم كافية لبيان سذاجة مثل هذا التصوَّر، ومفارقته أيضاً. في الواقع، يحتوي الفيلم أكثر من مفارقة، موضوعياً وإجرائياً، جديرة بمثله من مشروعات فنية “ترقص على السلم”، فتنتهي إلى قول لا شيء عملياً. فالفيلم، ومن قبله النصّ المسرحي، يمثّل نموذجاً شائعاً في الإنتاجات الفنية الغربية حين مقاربتها قضايا معقدة لمناطق أخرى من العالم، يجد فيها جمهور برودواي والتلفزيون المحترم ما ليس فيها فعلياً، فقط لمجرد تخلُّل النصّ تذكير بالسياق التاريخي لموضوعه المهم والحسّاس. “أوسلو” عمل محبط فنياً، ويدعّى حياداً زائفاً بين وجهتي النظر الفلسطينية والإسرائيلية، وبائس بصرياً بانعدام قدرته على ترجمة أصله المسرحي إلى مقابل جذّاب سينمائياً يتجاوز تصاعد نبرة المحادثات وألعاب الفلاتر اللونية وتغيّرات الإضاءة (إشارةً إلى التقدّم المتحقق في المفاوضات) في غرفٍ لا يضاهي فخامتها إلا بؤسها السينمائي.
الأكثر إحباطاً، هو اتكال الفيلم الزائد على فرضية حياده المزعوم، وإخلاء طرفه تماماً من معالجةٍ لازمة في خضم تناوله اجتماع تاريخي بين طرفين متنازعين لا تزال أسباب الحرب بينهما قائمة إلى اليوم، فضلاً عن تجاهله التام لربط تعقيدات الوضع الفلسطيني الحالي بالطارئ الأوسلوي محلّ التناول. السبب في ذلك يرجع في جانب أساسي منه إلى تركيز الفيلم على الزوجين الدبلوماسيين النرويجيين منى جول (روث ويلسون) وتيري رود لارسن (أندرو سكوت)، اللذين نظمّا المحادثات السرّية، من منطلق اعتقاد إنساني عائم بأن الخصوم يمكن لهم التوصل إلى أرضية مشتركة للحديث والتفاوض. المنطلق العائم والفضفاض في مقاربة قضية احتلال واغتصاب أرض وإبادة جماعية لعشرات السنين، يؤدي بدوره إلى اختزال حلّ المسألة برمتها إلى حلول “ترامبية” (نسبة إلى دونالد ترامب) بامتياز. بالطبع ترامب لم يكن موجوداً في العام 1993، وليس نرويجياً، إنما في الحقيقة، فالأرضية التي تأسست عليها مفاوضات أوسلو ومن بعدها مجموعة الاتفاقيات سيئة السمعة التي أحاطها داعموها من منظمة التحرير بالسرّية والكتمان، لم تكن إلا اقتصادية بحتة، بما لا يُبعدنا كثيراً عن “صفقة القرن” الترامبية وصفاقتها المشابهة في اختزال الأمر كله إلى حفنة دولارات ومساعدات تنموية وغيتوهات فلسطينية مطوَّقة ومحاصرة ومنزوعة القدرة تماماً على التصرّف والتحرك بغير ما يريد محتلوها.
الأسوأ من هذا كله، ما يقوله الفيلم بنفسه عن طريقة خوض المفاوضات وإدارتها وتعامل الجانب الإسرائيلي مع الأمر بجدّية واحترافية، في مقابل روح الهواية الغالبة على تصوير الوفد المفاوض الفلسطيني (أحمد قريع، وزير المالية في منظمة التحرير، ومساعده الماركسي حسن عصفور). في البداية أوفدت إسرائيل أستاذا جامعياً في كلية الاقتصاد بجامعة حيفا ومساعده، ثم صعّدت التمثيل بإضافة المدير العام لوزارة الخارجية، وعندما حان وقت صياغة الاتفاقيات استعانت بأشرس مستشاريها القانونيين لهندسة الديباجة والحرص على تفريغ الاتفاق من أي مكسب فلسطيني حقيقي. في النتيجة، “اتفاقية سلام” يفرضها المحتل من موقع القادر والمدير، ليتلقفها ممثل الضحية كانتصار يستحق البكاء الجماعي لأجله في سمّاعة التلفون، ويروّجها الوسيط النرويجي كفتح دبلوماسي جدير بالدراسة والتعلّم منه، وأخيراً يجدها الراعي الأميركي فرصة لكسب نقاط في سباق انتخابي أو في إطراء تاريخي بإعلان انتصار فرص التعايش والسلام على العنف المتبادل.
فنياً، فالمستوى لا يقل سوءاً عن الناتج العام للفيلم. صحيح أن سليم ضوّ وجيف ويلبوش يقدمان اداء مميزاً، إلا أن موهبة المجموعة التمثيلية تُهدَر في تأدية أدوار روتينية إلى حد كبير في شريط لا يتجاوز أصله المسرحي أبداً ويتناوبه نمطان مكرّران من المشاهد لمدة ساعتين تقريباً تغلّفهما موسيقى تصويرية متكلّفة أغلب الوقت. ولا ينفصل الحديث عن الأداء التمثيلي وإعداد المَشاهِد كمجادلات حادة تتبعها ترضيات لذيذة وهُدَن وادعة، عن موضعة صنّاع الفيلم لأنفسهم في موقف غير سياسي عبر إسقاط أنفسهم على شخصية الوسيطين النرويجيين المحايدين النائيين بنفسيهما عن التدخل في سير المحادثات والاكتفاء بتيسيرها عبر الأكل الطيب الحلال والوافل اللذيذ والكثير من الخمر. هذا الموقف غير السياسي لا يقلّل من شأن جرائم الحرب الإسرائيلية فحسب، بل يلجأ أيضاً في كثير من الأحيان إلى محادثات مثيرة للغضب وفكاهة في غير محلها، كما لو أن كل قضايا إسرائيل وفلسطين يمكن أن تختفي لمجرد أن رجلين على طرفي نقيض يعلمان أن ابنتيهما تحملان الاسم نفسه!
ورغم إقرار الفيلم بأن الصراع المركزي لم ينته إلى الآن (من خلال استخدامه لقطات أرشيفية لا يخلو مونتاجها من التجهيل والخلط المتعمّد والسذاجة أيضاً)، إلا أنه ليس لديه ما يقوله عن هذه القضية سوى كذبات لطيفة حول طبيعة البشر وكيف يجب أن يعامل كل منهم الآخر باحترام على أرضية من السعي للتعايش المشترك. يكرّر الفيلم مراراً وتكراراً أطروحته القائلة بأنه إذا كان بإمكاننا التحدث بصدق، إذا وضعنا الأيديولوجيا والعقائد والكراهية جانباً واستمعنا للآخر؛ سنكتشف أن أولئك الذين انفصلنا عنهم من خلال خليج يبدو أنه لا يمكن تجاوزه، لا يختلفون كثيراً عنا. أحد الاعتراضات على هذا النهج الإنساني حسن النية هو أن عواطفنا وأفكارنا، التي لا تنشأ من فراغ بل بمعارضة الآخرين، هي ما تجعلنا ما نحن عليه. يمكن للمرء أن يكون أكثر تسامحاً وقبولاً وأقل تصلُّباً بالطبع، ولكن القول بأن طريقة التعايش هي القبول بوهمية اختلافاتنا لأننا في الحقيقة أكثر تشابهاً مما نتخيل، ليس فقط إنكاراً للتسامح وإنما أيضاً لهويتنا. هذا مكمن الخلل الرئيسي في منطق الفيلم وأساسه: تبني خطاب إنساني سابح في اللاشيء، مع إهمال للحقائق، وتناسي الوقائع، وإهدار السياق، ومساواة القاتل بضحيته، واختراع الانجازات، والترويج لخرافات سياسية.
أخيراً، ليس مطلوباً بالطبع من فيلم أميركي يشارك في إنتاجه داعم للصهيونية مثل ستيفن سبيلبيرغ أن يكون محايداً، فضلاً عن استحالة انحيازه للحق الفلسطيني. هذه بديهيات هوليوودية. مشكلة الفيلم أنه يدعي ذلك الحياد ويطبّق عكسه، بنوايا حسنة غالباً ومنطلقات إنسانية تعيش في فراغ تاريخي ومنزوعة من أي سياق، ما ينتهي به إلى خطاب اختزالي يقوّض الحق الفلسطيني في خضم تصويره ما يُراد له أن يكون وجهة نظر معتدلة في تناول قضية لطالما شوّهتها هوليوود، ليستقر أخيراً صدى لصدفة التصوّرات المتحيزّة والمنغلقة لأميركيين وأوروبيين يرضيهم دور المنقذ الأبيض داعم السلام من دون إتعاب دماغهم بمراجعة أفكارهم وتسمية الأشياء بأسمائها.
*المدن