أثار عرض فيلم “أميرة”(*)، للمخرج المصري محمد دياب، في افتتاح النسخة الأخيرة من “مهرجان كرامةلأفلام حقوق الإنسان” في الأردن (5–12 كانون الأول) غضباً فلسطينياً أردنياً، بسبب موضوعه الذي يتناول تهريب نُطَف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي “بشكل مغاير للواقع، ويسيء مباشرةً إلى الأسرى المعنيين بالقضية”. الأزمة تفاعلت على مدار اليومين الماضيين، وتخلّلتها مطالبات غاضبة بمنع عرض الفيلم في الأردن (كان مقرراً نزوله إلى الصالات في 16 من الشهر الجاري)، ووصلت إلى حدّ المطالبة بسحبه من ترشيحات جائزة الأوسكار للعام 2022 (يمثّل الفيلم الأردن في سباق المنافسة)، وليس انتهاء ببيان مخرج الفيلم بالأمس والذي وأعلن فيه “وقف أي عروض للفيلم”، والمطالبة “بتشكيل لجنة من أهالي الأسرى لمشاهدة الفيلم ومناقشته” قبل اتخاذ أي قرار.
أغلب الظن أن من أقاموا وشاركوا وتفاعلوا مع الدعوات الإنترنتية لمنع عرض الفيلم لم يشاهدوه أصلاً، لكن هذا في حدّ ذاته صار ظاهرة شائعة في فضاء السوشال ميديا، لذا لن يكون موضوعاً للنقاش من الأساس، مثلما لن يكون من الصواب مساجلة حُجج وأحكام الغاضبين المنتمين للفريق نفسه. ما بين أيدينا هو الفيلم نفسه. “أميرة” هو ثالث أفلام محمد دياب، بعد “678” الذي تناول مشكلة التحرش الجنسي في مصر، و“اشتباك” الذي قارب الأزمة السياسية في نهاية عهد الرئيس المصري السابق محمد مرسي العام 2013، عبر حشر متظاهرين من معسكرات المعارضة المختلفة، داخل شاحنة للشرطة. في فيلمه الأخير، محلّ الجدل، يتناول قضية حسّاسة بطلتها مراهقة فلسطينية عاشت حياتها معتقدة بقدومها للحياة عبر عملية تلقيح مجهري للحيوانات المنوية المهرَّبة لأبيها، السجين الفلسطيني الذي يقضي عقوبة مؤبدة في أحد سجون الاحتلال. لكن عالمها ينهار تماماً عندما تكشف المحاولة الفاشلة لإنجاب شقيق لها عُقم أبيها.
“تويست” حرّيف و”سيكسي”، أليس كذلك؟
يحبّ دياب الدراما، الكثير من الدراما في الحقيقة. كما يحبّ تقوية أفلامه عبر استلهام حكاياتها وحبكاتها من “الواقع” و”القصص الحقيقية”. بالنسبة إلى “أميرة”، جاءته فكرة الفيلم عندما قرأ مقالاً عن إنجاب حوالى 100 طفل منذ العام 2012 عن طريق تهريب الحيوانات المنوية للمعتقلين الفلسطينين في السجون الإسرائيلية. لم يُرِد تقديم فيلم سياسي – مثلما كان الحال أيضاً مع “اشتباك” اللاسياسي بالكُلّية – إذ يعتبر أن “هذه هي الطريقة المثالية للتطرُّق إلى أي مواضيع سياسية، عبر تغليفها بقصة اجتماعية لا علاقة لها بالسياسة بل رؤية السياسة من خلال حياة الناس”. ووفقاً لأحاديثه أيضاً، فالقصة لا تتعلّق بفلسطين فحسب، وإنما هي قصة عالمية تُعنى بفكرة الكراهية والطبيعة البشرية والتنشئة وما يجعل الإنسان ما هو عليه. “ما كان يهمّني هو الدراما. شعرت وكأنها قصة خيال علمي لم أسمعها من قبل وأردت استكشاف الأسئلة الوجودية التي يمكن أن تخرج من وضع كهذا”، يقول في مقابلة مع مجلة “سكرين” نُشرت في أيلول/سبتمبر الماضي.
لسوء حظّه أن خياله الدرامي اصطدم هذه المرة بحساسيات و”أعراض” ومساس بقضية مقدّسة. كما لم يعفه التنويه الكتابي في نهاية فيلمه بأنه “تم التأكد من نطف الأسرى الفلسطينين وسلامة نَسَبهم خلال السنوات العشر الأخيرة”، من اتهامه “بالإساءة إلى الأسرى وعائلاتهم”. أكثر من ذلك، ما كشفه بيان أصدرته “الحركة الفلسطينية الأسيرة في سجون الاحتلال”، أمس الأربعاء، عن تواصل الحركة مع منتج الفيلم العام 2019، عبر قنوات عديدة، وأهمّها إحدى زوجات الأسرى كانت تحمل في أحشائها “نطفة محررة”، اعترضت على الحبكة، وعرضت خدماتها الكاملة للمساعدة في توفير الرواية الصحيحة. لكن دياب أكمل فيلمه، بسيناريو كتبه بمساعدة شقيقيه وزوجته، ثم ذهب إلى المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد ليشارك في إنتاجه ويشرف على مراحل إنجازه. والنتيجة؟ اعتمد الفيلم الحبكة “المسيئة” من أجل توليد الدراما التي يحبّها دياب.
الهوية والحرية والشرف والخلاص، هي الموضوعات الساخنة والمركزية التي تدور حولها هذه القصة. رابط الأبوة مجرد حبكة فرعية للحديث عن أشياء أكبر وأكثر “عالمية”، مثل ضراوة “الصراع” الذي يؤدي إلى فقدان الإنسانية وتكريس الكراهية. الواقعية الاجتماعية للفيلم تضع الأساس لمسرحة بيرانديللية (نسبة إلى لويجي بيرانديللو) وأفلمة راشمونية (نسبة لفيلم أكيرا كوروساوا الشهير) حول نسبية الحقيقة. “من هو والد أميرة البيولوجي؟”، يصبح هاجساً دافعاً للفيلم للمضي قدماً. منذ اكتشاف عُقم الأبّ الأسير، يعتمد الفيلم على هذه المعضلة، لاستكشاف فرضيات مختلفة وتقليب تربة أسئلته الوجودية. يصبح موضوع الهوية الوطنية الفلسطينية، والعربية عامةً، على المحكّ. احتمال سريان دم العدو المحتلّ في عروق الابنة المفترضة، يصبح وصمة عار في سياق حرب دائمة. وهنا، تحديداً، مكمن قوة الفيلم الفنية وسقطته الأخلاقية (بالنسبة لمنتقديه)، بتشييده سياقاً درامياً كلاسيكياً وعالمي التأثير ينزع اليقين عن مسألة لا يُفترض الاقتراب منها إلا تمجيداً وإعزازاً.
“أميرة” فيلم جيد فنياً، إنما بلا فلسطين أو إسرائيل. صحيح أنه يحفل بدراما فاقعة وانقلابات حبكة مفتعلة أحياناً، وخطاب إنساني عائم ومزعج، لكن كان يمكن للفيلم نفسه، مع حذف كل ما يتعلّق بفلسطين وإسرائيل، أن يحظى باستقبالٍ احتفالي، وأن تدبّج المدائح في وصف روعة خلطته السينمائية وأهمية انشغالاته الوجودية وترجماتها البصرية. لكن السعي وراء إذكاء الدراما باستلهامها من قصص حقيقية، لإضفاء قدر أكبر من المصداقية والموثوقية والأهمية، يأتي بنتائج عكسية أحياناً.
(*) يضم فريق الفيلم الممثلين الأردنيين: صبا مبارك وتارا عبود وصهيب نشوان، والفلسطينيين: علي سليمان وزياد بكري ووليد زعيتر وقيس ناشف. عُرض الفيلم للمرة الأولى في قسم “أوريزونتي” في “مهرجان البندقية” الـ78، حيث نال ثلاث جوائز. كما حصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم “مهرجان أيام قرطاج السينمائية”، حيث شارك في المسابقة الرسمية، وكان من المقرر عرضه هذه الأيام ضمن قسم “اختيارات عالمية” في “مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي” في دورته الأولى المقامة في جدة في المملكة العربية السعودية.