محمد شاويش: في تركيب الثقافة العربية المعاصرة – منظورات لسانية واجتماعية

0

مجلة أوراق- العدد9

محاضرة ألقيت في إطار “محاضرات ابن رشد” مساء الأربعاء الرابع من شهر نيسان (أبريل) عام 2018 في برلين.

أراد المنظمون لهذه المحاضرة في الأصل أن أتكلم عن كتابي الجديد “الثقافة العربية المعاصرة من الوصف إلى التغيير”، وهو كتاب مؤلف من ثلاثة أجزاء. صدر الجزء الأول منه بالفعل بعنوان “من فتى؟ عن الوعي المناسب لمجتمع في خطر” عن “أكاديمية العلم والسلم”- فوبرتال- ألمانيا في عام  2015. والجزءان الباقيان “تركيب الثقافة العربية المعاصرة” و “دفتر المطر” يصدران قريباً في جزء واحد عنوانه هو العنوان العام للكتاب.

لكني بسبب محدودية الوقت سأجمل ما أراه نقاطاً أساسية في الموضوع، وأترك التفصيل لمن يحب أن يقرأ الكتاب.

1- في مفهوم “الثقافة”.                                                                                                                

كلمة “ثقافة” هي كلمة جديدة في اللغة العربية، وقد اشتقها من الأصل العربي “ثقف- ثقافة” على الأرجح سلامة موسى في مطلع القرن العشرين لتقابل الكلمة الإنجليزية Culture.

بهذه المناسبة أحب أن أذكر أن اللغة الفصحى المعاصرة هي إلى حد كبير نتاج للترجمة، فقد اشتق المترجمون للصحف والكتب الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر عدداً كبيراً من المصطلحات والتعابير الأجنبية، وهكذا ظهرت كلمات أو مفاهيم مثل “مجتمع” (وهي ترجمة للكلمة الأجنبية- الإنجليزية مثلاً: Society) و”عائلة” (Family) ومثلها ألفاظ ومفاهيم كثيرة لا حصر لها مثل “حكومة”، “وزارة”، “طبقة اجتماعية” إلى آخره..

وبهذا أقول للجيل الجديد من الشباب الذين أتكلم معهم: لو أن أستاذنا الجليل أبو عثمان الجاحظ بعث حياً وفتح صفحة من جريدة الأهرام أو من المرحومة جريدة السفير، أو سمع نشرة أخبار من قناة الجزيرة فماذا ترونه سيفهم أو يعلّق على ما قرأ أو سمع؟ ولأذكر هنا أن مستويات اللغة كلها يمكن أن تكون في حالة “انحراف” عن العربية كما عرفها عصره، انطلاقاً من المستوى الصوتي نفسه، حيث يفترض الاختصاصيون فيما يسمى “اللغات السامية” أن انحرافاً في نطق أصوات العربية يمكن أن يكون حدث عبر القرون التي تفصلنا عن العصر العباسي. فإن جئت إلى المستوى الدلالي فستجد أستاذنا وكبيرنا الجاحظ يعرف ولكنه ينكر ألفاظاً كثيرة هي عربية لكنها تسلك سلوكاً غريباً في السياقات التي ترد فيها!

وإنما ذكرت مولانا وقرة أعيننا أبا عثمان، لأنه كان من أكبر العقول اللغوية في تاريخنا، وأحسبه هو من أسس علوما نعرفها الآن مثل “علم الدلالة” Semantics  وغيره، وانظروا لتعرفوا ذلك كتابه “البيان والتبيّن” الذي يغلب أن يكون عنوانه قرئ خطأ (فهم يقرؤونه ويكتبونه “البيان والتبيين”).

وفي كتابي الجديد أستعمل كلمة “ثقافة” بمعنى “الطريقة الخاصة لكل جماعة بشرية في التعامل بين أفرادها وبينهم وبين الطبيعة”.

“الثقافة” من جهة تعني جملة القواعد التي تحدد أشكال التعامل بين البشر، وهو ما يكتشفه المهاجرون إلى البلاد الأجنبية حيث يرون أن أهل المجتمعات الجديدة يتعاملون بين بعضهم بطرق تخالف ما تآلفوا عليه، وهي من جهة أخرى تعني مجمل الطرق النوعية التي تميز جماعة بشرية محددة في تعاملها مع الطبيعة، فهي تتضمن مجمل الأدوات المنتجة لاستعمال الطبيعة في أغراض الجماعة ووفقاً لنظرتها، وهي تتضمن جملة المنتجات المادية.

وفي المجتمع العربي يميل العرب إلى تعريف الثقافة بأنها جملة المنتجات الذهنية  (المكتوبة أو الملفوظة)  التي تنتجها الجماعة (نثراً وشعراً، فلسفة وقانوناً ونصوصاً دينية وغير دينية، إلى آخره..). وأنا أحب استعمال الكلمة بمعناها الأوسع.

2- مفهوم “الحداثة”:

أريد أن أتكلم عن التغيرات في العناصر المكوّنة للثقافة العربية بين عصرين: ما قبل الحداثة وما بعدها.

لهذا لا بد من أن أتكلم عن مفهوم “الحداثة” بين الغرب والعرب.

كنت غالباً أسأل متكلمين عرب عن الحداثة: “ما هو عكس مفهوم “الحداثة””؟ ولم أكد أسمع من أحد منهم الجواب التالي: “عكس الحداثة هو “التقليد””! مع أن الحداثة في السياق الغربي توضع بالفعل هكذا: إن الحداثة هي العصر الذي ترك فيه أهل الغرب التقليد. ولذلك تجليات في شتى مستويات البنية الاجتماعية: في الاقتصاد والدين والسياسة والفكر والعلاقات الفردية بين البشر.

ثمة “موقف حداثي” استجد بديلاً عن “الموقف التقليدي”. “الموقف الحداثي” هو موقف وقفته النخبة المفكرة في المجتمع يتلخص في أن هذه النخبة صارت ترى نفسها وحيدة إزاء العالم، وعليها أن تتخذ القرار بدون استناد إلى أي خبرات سابقة وقواعد راسخة سارت عليها الأجيال السابقة (وهي ما سمي “التقليد”). هذا الكسر مع تقاليد صارت تعد غير صالحة وغير جديرة بالاعتماد عليها يمكن تتبع أصولاً وعناصر كوّنته منذ بداية “عصر النهضة” الأوروبي، وهو ما ليس من هدف هذه المحاضرة طبعاً، فلنكتف هنا بهذا الإيضاح: تعرّف الحداثة بأنه القطيعة مع “التقليد”.

لا بد هنا من الإشارة إلى وجهة النظر الشائعة عند الحداثانيين العرب التي تخلط مراحل الحداثة وتدمج مفاهيم مختلفة وتجعلها شيئاً واحداً، ومنها مفاهيم “التنوير”، و”العلمانية”. وهي مكوّنات ثقافية مختلفة ظهرت في المجتمعات الغربية ولكنها لا تقترن بها الاقتران الميكانيكي الذي يفترضه المثقف العربي.

وحين سألت كثيراً من المثقفين عندنا: “ما هو عكس الحداثة”؟ كان بعضهم يجيب: “الحداثة عكس الخرافة”، وقد يصل بعضهم إلى الجواب التالي: “الحداثة هي عكس الدين”! وعلى هذا من غير الممكن تصور حركة فكرية متدينة وحديثة في الوقت نفسه. وكثيراً ما ينسب الدين بأي شكل ظهر فيه إلى “التقليد” و قد تضاف الأفكار التي تظهر في الحركات الفكرية المتدينة العربية إلى “الزمن الغابر”.

لا ريب أن المواجهة الحالية مع الإسلامانية في العالم الإسلامي أثرت بشدة في هذا الموقف، ولعلكم تلاحظون تغيراً في تركيز الاتجاهات اليسارية العربية نجد إرهاصات له منذ السبعينات، لكنه تحول في التسعينات إلى ميل شديد الوضوح: إذا كان اليساري القديم منطلقاً من الفرضية الماركسية القائلة بأولوية “البنية التحتية” على “البنية الفوقية” لا يعطي المواجهة مع الدين والأفكار الدينية أولوية خاصة، بل يقصر اهتمامه على البنية الاجتماعية الاقتصادية، فإن اليساريين منذ التسعينات أعادوا الاهتمام “بالتنوير” وصاروا يعدونه الرافعة الأساسية لأي تغيير اجتماعي حديث. بل صاروا يدمجون كما قلت بين “الحداثة” و “التنوير”. ومن المميز عند المثقفين السوريين مثلاً أنهم يعدون تجربة الحداثة الفرنسية هي التجربة الغربية النموذجية (أو حتى الوحيدة).

لكني دعوت الشباب والكهول المتحمسين الذين يظنون أن التجربة الفرنسية هي وحدها “التجربة النموذجية” للحداثة أو التحديث (بمتضمناتها اللاحقة منذ الثورة الفرنسية من عداء شديد للدين ونزوع لاستئصاله من كل تجل له في الحياة العامة) إلى العودة إلى تجارب أخرى مثل التجربة الألمانية أو الإنجليزية (أو حتى الأمريكية إن شئتم).

ويفيد هنا الاستشهاد بمنظّر شهير في علم الاجتماع المعاصر هو ماكس فيبر.

يرى فيبر أن ثمة توازياً بين نشوء البروتستنتية ونشوء “روح الرأسمالية” (هو لا يضع علاقة سببية بينهما على طريقة الماركسية: “البنية التحتية” تنتج “البنية الفوقية”)، وهو يهتم خصوصاً بالفرقة الكالفينية التي يرى أن عقيدتها القائلة بأن خلاص الفرد الأخروي أمر لا علاقة له بأي أفعال صالحة يقوم بها في الدنيا، بل هو قدر محتوم سلفاً Prädestination أنشأت عند أتباعها رعباً كبيراً دفع أفرادها إلى البحث عن “علامة” تشير إلى أنهم من المكتوب لهم الخلاص الأخروي،  وهذه العلامة وجدوها في النجاح في العمل. وهو ما جعلهم ينظرون إلى الربح على أنه هدف بذاته (وليس وسيلة يرتجي منها الفرد مثلاً المتعة الدنيوية أو رفاهية الحياة)، وهو ما خلق عندهم الدافع إلى العمل مسترشدين بمبدأ البحث عما يحقق أقصى قدر من الربح ويخفض من الخسارة إلى أقصى حد، وهذا هو “الترشيد” Rationalisierung (والكلمة تترجم في العربية بمصطلح غير ملائم في اعتقادي هو مصطلح “العقلنة”). وهو المبدأ الذي يتتبعه فيبر في جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية ويرى أنه هو الذي صاغ الحياة الحديثة للمجتمع الرأسمالي الغربي. وهو حين يبحث (البحث المألوف عند مفكرين غربيين كثر يريدون أن يعللوا “فرادة” التجربة الغربية في العالم) عن أسباب عدم قدرة أنظمة دينية أخرى (مثل الكونفوشيوسية والإسلام) على إنتاج الرأسمالية لا يبحث عن مدى “تنور” هذه الأنظمة (هو لا يرى أصلاً أن الدين بحد ذاته يمنع ظهور الرأسمالية بل يسأل عن كل حالة: “ما هو السلوك الذي تقود إليه القيم الخاصة بالدين المعني من المنظور الاقتصادي”؟).

يضرب فيبر أمثلة على مبدأ الترشيد منها مثلاً “وصايا” السياسي والعالم الطبيعي والمفكر الأمريكي الشهير بنيامين فرانكلين لمن يدخل عالم المشاريع الاقتصادية. منها مثلاً مبدأ يقول: سدد ديونك في ميعادها! السبب ليس أنه من “العيب” أن تتخلف عن سداد الديون، أو أنك بذلك تنتهك محظوراً أخلاقياً متعارفاً عليه خارج نطاق عالم العمل والتجارة، بل السبب هو أنك عليك أن تحافظ على سمعة جيدة عند الدائنين ليستمروا في إقراضك!

ولعلكم ترون هنا الافتراق الكبير بين هذه الفرضية والفرضية “التنويرانية” كما أسميها، وهي حالة خاصة من “الفكرانية” (الاعتقاد أن الفكر هو السبب الوحيد للبنى الاجتماعية، وفيه تفسير نشوئها ووجودها)، إذ نشأ “روح الرأسمالية” عند فرقة تطابق قليلاً جداً شروط المثقف العربي للحداثة: كان مارتن لوثر لا يهتم بإيجاد تفسير عقلاني لنصوص الكتاب المقدس بجزءيه القديم والجديد، على العكس: كان “أصولياً” من هذه الناحية (والأصولية المعاصرة Fundamentalism  نشأت في الكنيسة البروتستنتية الأمريكية في بداية القرن العشرين). حداثة مارتن لوثر تتمثل في كونه وقف “الموقف الحداثي” الذي وصفته قبل قليل: موقف الفرد المجرد من أي إيمان بصلاحية التقاليد الموروثة أومقدرتها على أن تعينه على مواجهة العالم. لوثر ترجم النص ودعا المسيحيين إلى أن يتوجهوا إليه مباشرة ليعرفوا حقيقة المسيحية بالقفز فوق توسط المؤسسة التقليدية المتمثلة في البابا والكنيسة الكاثوليكية.

2- الثقافة العربية قبل عصر الحداثة وبعده:

أعرّف “الحداثة” في السياق العربي إذن أنها العصر الذي قررت فيه النخبة العربية المفكرة أن التقاليد فقدت صلاحيتها ومقدرتها على تحقيق الأهداف الملحّة للجماعة العربية (وأعني بها هنا وفي كل كتاباتي مجمل الناطقين بالعربية لغة وحيدة أو مع لغة ثانية كالأمازيغية أو الكردية أو التركمانية أو الشركسية أو حتى الأرمنية إلى آخره..). وهو ما أضع له لتسهيل البحث موعداً تقريبياً هو منتصف القرن التاسع عشر.

قبل عصر الحداثة وجد في العالم الإسلامي نمطان متكاملان من الثقافة: “ثقافة العامة” وقد نسميها “ثقافة الشعب”، و “ثقافة الخاصة” وقد نسميها “الثقافة العالِمة”. الأولى هي ثقافة “العلماء” و “الحكماء”، وكتبت باللغة الفصحى. أما العلماء فهم حاملوا “العلوم النقلية” التي كانت تدرس في الجامعات الإسلامية الكبرى مثل الأزهر والقرويين والزيتونة والنجف في العراق عند الشيعة الاثني عشرية. ويلتحق بهم مجمل أهل الأدب والشعر الفصيح الذي يصعب على العامة نظمه لصعوبة لغته وقواعد بنائه. وأما “الحكماء” فكانوا المختصين بمجمل ضروب “الحكمة” من النصوص غير النقلية ومنها الفلسفة والطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والميكانيكا.

ومن الجوانب التي قلما تعد من الثقافة مع أنها جزء لا يتجزأ منها فيما أرى الموسيقى، وهي أيضاً كانت تنقسم إلى قسمين: موسيقى عالِمة صعبة كما في موشحات مدينة حلب أو الموسيقى الأندلسية في المغرب، وموسيقى شعبية يسهل أداؤها ويستعملها العمال والفلاحون والحرفيون ومجمل الشرائح الشعبية.

سنجد أن هذين النمطين من الثقافة كانا في حالة تآلف لا عداء، ولكل منهما وظيفته ومجاله الاجتماعي الخاص.

ومع دخول الحداثة تحدّثت “الثقافة العالِمة” بالتدريج لتظهر “ثقافة عالِمة جديدة” في الجامعات الإسلامية الكبرى والمؤسسات المماثلة، لكن علينا أن نلاحظ تراجع دور “العلماء” في المجتمع في مقابل ما قد نسميه “الحكماء الجدد” (مثل الفلاسفة والمختصين في العلوم الطبيعية والتقنية)، وفي المقابل تحدّثت “الثقافة العالِمة” في مجال الأدب مع تحديث اللغة العربية عبر العودة إلى “فصاحة العصور الذهبية” في مقابل “ركاكة عصور الانحطاط” فالشاعر الجديد (بدءاً من محمود سامي البارودي الذي يعد المؤسس “للكلاسيكية الجديدة” في الشعر العربي، أو بتعبير المنهاج الدراسي السوري “الاتباعية الجديدة” حتى تلميذه أحمد شوقي ومن حذا حذوه) كف عن السير على خطا شعر العصر العثماني والعصر المملوكي المليء بالمحسنات البديعة والمهتم بالألفاظ أكثر من اهتمامه بالمعاني منتقلاً إلى احتذاء نماذج مأخوذة من العصر العباسي والأموي وحتى الجاهلي أحياناً. وما جرى في الشعر جرى في النثر، فقد هجرت اللغة التي سادت في العصور المتأخرة وعاد الكتاب إلى استلهام نصوص الأدب العربي في العصر الذهبي (وشجع ذلك طباعة عدد كبير من كتب الأدب الكبرى مثل كتابات الجاحظ والأصفهاني وغيرهما). وسنرى عند كاتب مثل محمد المويلحي استلهامه لنمط المقامات عند الهمذاني والحريري ليكتب قصة مصرية جديدة تبحث في الأحوال الاجتماعية والسياسية في مصر المعاصرة.

وحتى اتجاهات رومنسية مثل اتجاه العقاد والمازني (مدرسة كتاب “الديوان”) التي هاجمت  شعر شوقي ومذهبه الأدبي لم تخرج عما أسميه “الثقافة المعيارية” أي الثقافة المقبولة من الجماعة العربية في مجموعها.

بدأ الانشقاق وطلائع الحرب الأهلية الثقافية مع جيل لاحق صادر مفهوم “الحداثة” لنفسه وأنكره على الاتجاهات الأخرى، وهو جيل تميز بما أسميه “المصادرة الثقافية” إذ أعلن أناس مثل أدونيس وآخرون أن كل ما سمي بشعر إلى الآن لم يكن شعراً، وإنما الشعر هو هذا الذي يكتبونه، ووصل بعضهم إلى أن يقول إن “العلماء” هم حصراً المختصون في العلوم الطبيعية، ولا حق لعلماء الدين في هذا اللقب، وهي مفارقة كما رأيتم، لأن لقب “العلماء” كان يطلق على هؤلاء بالتحديد على حين كان المشتغلون بالعلوم غير النقلية يسمون “الحكماء”.

وصارت كلمة “ثقافة” والكلمة التي اشتقت لاحقاً، في الخمسينات غالباً مع ترجمة الأدبيات الوجودية وهي كلمة “المثقف” تطلق حصراً على أهل “الثقافة الحديثة” بافتراض ضمني يقول إن كل ما لم ينتسب إلى أصل غربي فهو ليس بحديث! وعلى هذا يكون أناس مثل الكاتب المسرحي سعد الله ونوس والشاعر محمود درويش والفيلسوف مطاع الصفدي (على سبيل المثال) مثقفين ولهم علاقة مباشرة بالثقافة، على حين لا يكون أناس مثل يوسف القرضاوي، أو الطاهر بن عاشور “مثقفين”. ولعلكم ترون هنا هذا الانقسام الطبقي الفريد  في الثقافة العربية.

3- الأيديولوجيات العربية: حديثة أم تقليدية؟

نشأت الأيديولوجيات العربية الكبرى كلها في القرن العشرين، وفي أوقات متقاربة، ففي الثلاثينات رأينا ظهور الأيديولوجيا القومية العربية (مع مقدمات لها قبل ذلك)، والقومية السورية، والتنظيمات الشيوعية، والأيديولوجيا التي أسسها البنّا وتبلورت في المؤتمر الخامس للإخوان عام 1938 وأهم أفكارها الفكرة التي تقول: “الإسلام دين ودولة”.

الذي يجمع هذه الأيديولوجيات كلها أنها حديثة. وإذا كان العرب لا يختلفون عادة على حداثة القوميين واليساريين واللبراليين لأن مصدرهم الفكري غربي (وهو ما يلزم أيضاً أن نفهمه بشكل نقدي، لأن الأدق أن نتكلم عن “فهم عربي لأفكار غربية” لا عن “أفكار غربية” ببساطة). فإن المعتاد أن ينسبوا من يسمون أنفسهم “الإسلاميين” إلى التقاليد وما قبل الحداثة.

أفضّل تسمية الأيديولوجيا التي أسّسها البنا وذكرتها قبل قليل باسم “الإسلامانيين”. اللاحقة المؤلفة من ألف ونون تستعمل عادة لوصف مدارس فكرية وفلسفية كما في “الشخصانية” و “الجوهرانية” إلى آخره. بهذا نتجنب محذورين: المحذور الاول هو القصد التحقيري عند من يسميهم “إسلامويين”، والثاني أن نقبل الالتباس المهم عندما نستعمل كلمة “إسلامي” بمعنى ما هو منسوب إلى هذه المدرسة الفكرية السياسية، لأن في ذلك تضييقاً للصفة الأصلية “إسلامي” وهي تصف كل ما يخص الإسلام كما في مصطلح “بلاد إسلامية” ونعني به كل البلاد التي غالبيتها السكانية مسلمة، أو تعابير مثل “العمارة الإسلامية” ونعني بها العمارة التي ميزت بلاد العالم الإسلامي كما في العمارة المملوكية مثلاً التي نقول عنها إنها “عمارة إسلامية”.

وعلى هذا فإن ياسر عرفات مثلاً “قائد إسلامي” حيث أنه منسوب إلى العالم الإسلامي ولكن إسماعيل هنية “قائد إسلاماني” لأنه منتسب إلى هذا التيار الخاص. وكما ترون يكون كل إسلاماني إسلامياً ولكن ليس كل إسلامي إسلاماني! 

إن عدنا إلى تعريف الحداثة بأنها هي عكس التقليد، فسنرى أن الإسلامانية مثلها مثل الأيديولوجيات الأخرى أيديولوجيا حديثة لا تقليدية، ومن ينسبون الإسلامانيين إلى التقاليد لا ينتبهون إلى كونهم معادين للتقاليد بقدر لا يقل عن عداء الأيديولوجيات الأخرى لها! التقاليد بالنسبة للإسلامانيين هي غالباً شيء مشبوه بأنه “منحرف عن الإسلام الصحيح” أو “الإسلام من منبعه الصافي”. وقد جربت مرة أن أدافع عن الأزياء الوطنية فتعامل الإسلامانيون مع دفاعي هذا بعداء لا يقل عن عداء أهل الأيديولوجيات الأخرى، ذلك أن الزي عندهم لا يجوز أن تحدده تقاليد البلد المعني بل يجب أن تحدده الشريعة!.

ومثال الحجاب هنا هو مثال دال كل الدلالة على ما تقدم: كلمة “الحجاب” بما هي وصف لغطاء الرأس (أو أحياناً لمجمل “الزي الشرعي للمرأة”) هي كلمة حديثة لم تستعمل بهذا المعنى قبل الستينات، ولم ينتشر “الحجاب” كما نعرفه انتشاره الكبير قبل التسعينات من القرن العشرين. حتى قاسم أمين كان يستعمل كلمة “حجاب” على الأغلب بمعنى الوضع الذي كانت فيه المرأة المصرية في المدن الكبرى محجوبة عن المشاركة في الحياة العامة. وتعلمون أن كلمة “الحجاب” في القرآن تطلق على ساتر كان على المؤمنين أن يكلموا أمهات المؤمنين من ورائه.

“الحجاب” كما يرى أي عارف بأزياء نساء العالم الإسلامي ليس “زياً تقليدياً” بل هو إن نظرت إليه بدقة زي حديث من أزياء النساء وإنما يتميز بتغطية الرأس والرقبة، وهو يخالف الزي التقليدي للمرأة المسلمة كما نعرفه في البلاد المختلفة كما في الزي التقليدي لنساء دمشق القديمة أو حوران أو السودان أو زي المرأة الشركسية إلى آخره..

وخروج الحجاب عن صفة الزي الوطني قاد إلى تسهيل التمييز العنصري ضد المحجبات في أوروبا بمعنيين شرحتهما في كتابات أخرى: المعنى الأول أن المرأة المسلمة التي لا ترتدي الزي الوطني التقليدي بل هي ترتدي زياً حديثاً مضافاً إليه هذه العلامة على انتمائها الديني وهي غطاء الرأس هي وحدها من طلب منها أن تتحمل تمييزها بعلامة فارقة! على حين وفّر الرجل المسلم بانتهازيته على نفسه هذا الإزعاج حيث أنه يرتدي زياً حديثاً بدون علامة فارقة!

والأمر الثاني الذي سهّل اضطهاد المرأة المحجبة والتمييز ضدها كان إصرار المسلمين والمسلمات أن الحجاب علامة دينية. وحيث أن بعض البلاد مثل فرنسا، ولكن غيرها أيضاً، تمنع العلامات الدينية في المدرسة وربما في غيرها من الأماكن العامة، فقد منع الحجاب بهذا المعنى! ولم يكن من المتصور منعه لو كان في الأصل زياً وطنياً فيكون حكمه حكم أي زي وطني لا يمكن منعه تحججاً بحياد الدولة والمدرسة تجاه الدين!

تظهر بلاد مثل السودان معنى حداثة الإسلامانيين، فحزب الترابي الذي تغير اسمه عدة مرات في العقود الماضية كان وحده من بين ثلاثة أحزاب كبيرة متجاوزاً للبنى الاجتماعية التقليدية (مقارنة مع حزب الأمة الممثل لطائفة الأنصار والحزب الاتحاد الممثل للطريقة الختمية أومع أحزاب أخرى ذات سمة قبلية كما في الجنوب). وهو بهذا يقارن مع الحزب الشيوعي السوداني مثلاً.

4- الوعي المناسب: نحو كتلة تاريخية عربية:

بحثت الشريحة العربية المهتمة بالشأن العام في السؤال: “كيف نتجاوز الثغرة الحضارية التي تسمح للآخرين بإخضاعنا”؟، منذ دخول الاستعمار في القرن التاسع عشر، والأجوبة كانت مختلفة، فهي عند الأفغاني وعبده ترى الحل في تجاوز الفهم الموروث للدين، وإذا كان للأفغاني محاولات لتغيير الحكومات بعمل ثوري فإن تلميذه عبده لخص الهدف المباشر لإعادة النهوض بنشر التعليم. ولكن الأجوبة التي تلت في الجيل اللاحق كانت غالباً تتمحور حول هدف استلام السلطة والتغيير من أعلى.

وعندما كانت القوى العالمية في حالة توازن أمكن بالفعل قيام سلطات ذات برنامج طموح جعل الناصرية مثلاً تعيد محاولة تنفيذ البرنامج الذي بدأه محمد علي وقضي عليه بالقوة العسكرية. ومع انهيار التوازن العالمي اتضح أن التجارب المنفردة للنهضة (بتعريفها المحدد: محاولة السير بالمجتمع في اتجاه التكافؤ الحضاري بالمعايير التي فرضتها القوى العالمية المسيطرة) تنتهي بالإجهاض عبر استعمال القوة الخشنة أو الناعمة وهي قوة قاهرة.

ومن الغريب أن الفاعل العربي العام لا يزال يعلق كل آماله على التغيير السياسي ويهمل كل جوانب التركيبة الاجتماعية الأخرى، رغم الهزائم المتوالية لهذه المشاريع، فعنده يصح أن السلطة كل شيء وغيرها لا يعد شيئاً. لا ينفع مع غياب السلطة شيء ولا يضر مع حضورها شيء. وهذا ما أسميه “فرط التسيّس”، وبسببه تحول العرب إلى متكلين كلياً على التغيير المنشود في السلطة، وعلاوة على ذلك انخفض إلى أعلى مستوى درجة نقد البنى الداخلية المسهّلة للسيطرة الأجنبية، وهي التي يسميها مالك بن نبي بالاسم الجامع “القابلية للاستعمار” ويسميها ياسين الحافظ “معمار المجمتمع”. وكما أتى على العرب حين من الدهر كانوا فيه يحمّلون الاستعمار حصراً المسؤولية عن كل مشاكلهم نراهم الآن يحمّلون الحكومات كل المسؤولية بالطريقة نفسها.

في ختام المحاضرة أشير إلى أني أدعو المهتمين بالشأن العام في الجماعة العربية (مجمل الناطقين بالعربية لغة وحيدة أو مع لغة ثانية بين المحيط والخليج) إلى تبني “وعي مناسب” لهدف تغيير البنى الداخلية بحيث تصبح مناسبة لغرض امتلاك الكفاءة في المنافسة والمغالبة الحضارية العالمية.وهذا الوعي المناسب محصور في المهام المحددة التي يمليها زمان ومكان محددان هما زماننا ومكاننا، وهو لا يدعي أي صلاحية مطلقة، فهو ليس عقيدة دينية ولا أيديولوجيا جديدة. هو رؤية واقعية لما يستلزمه الخروج من أسوأ هوة وقعت فيها الجماعة العربية، ربما منذ قرنين من الزمان. وكما ترون يترابط هذا الوعي المناسب مع سلوك مناسب يجب أن تتبناه الجماعة العربية بغالبيتها ويبدأ من الشريحة الأوعى فيها.

ومن مكوّنات هذا الوعي “الوعي المطابق” وأعني به المعرفة بحقيقة القوى المكوّنة للعالم والدوافع المحركة لسياساته وتركيب القوى المحددة لهذه السياسات.

من الوعي غير المطابق اعتقاد متدينين عرب جدد مثلاً أن العالم ينقسم إلى مسلمين وكفار، وظنهم أن الدوافع الدينية هي التي تحرك السياسة الغربية (وغير الغربية) وينتج عن انعدام المطابقة هذا نتائج وخيمة على كل سياسة عربية تمنعها أن تكون رشيدة.

وبالترافق مع هذا الوعي المناسب أرى أن على الجماعة العربية أن توقف الحرب الأهلية الثقافية بين اتجاهاتها الفكرية – السياسية الكبرى: ثمة هدف مشترك هو الخروج بالجماعة العربية من عنق الزجاجة الحضاري، ولهذه النظرة التي تعيد المشكلة إلى البناء الحضاري للجماعة العربية (وهو البناء الذي يسمح بنجاح الفعل الاستعماري الخارجي مثلاً) رائدان كبيران أذكرهما غالباً (وهناك غيرهما أيضاً ممن سار في طرق تفكير مماثلة) وهذان الرائدان الكبيران هما مالك بن نبي الجزائري الذي رأى في مشكلة العالم الإسلامي وعالم الدول النامية مشكلة حضارية أساساً (كل كتبه لها اسم عام: “مشكلات الحضارة”)، ومالك كان يرى أن الاستعمار هو نتيجة “للقابلية للاستعمار”، وياسين الحافظ السوري الذي كان يرى في هزيمة حزيران “هزيمة لكل معمار المجتمع العربي” وليس للمستوى العسكري فقط. والذي أتبناه طبعاً عند الاثنين ليس أفكارهما التفصيلية بل طريقتهما في رؤية المشكلة.

من أنماط “الوعي غير المناسب” الشائع عند العرب الآن ما أسميه “الوعي المقاوم الصِّرف” وهو يرى أن الحل كله يأتي بالبندقية. وهذا الوعي يقود الجماعة إلى نكسات مستمرة، لأن الجماعة لا تفتقد إلى الشجاعة الحربية بل تفتقد إلى الأساس الحضاري الذي يجعلها لا تنهزم بالسهولة الخارقة التي جربناها في العصر الحديث. لم يكن الأمير عبد القادر مثلاً مفتقداً إلى الشجاعة هو أو جنوده لكنه هزم في النهاية لأن “مجمل المعمار الاجتماعي” بتعبير ياسين الحافظ لم يكن كفئاً للمغالبة الحضارية، وبتعبير مالك بن نبي: هزم عبد القادر لأن المجتمع كان “قابلاً للاستعمار”!.

وأسوأ ما ظهر في السنين الأخيرة كان مسخ فكرة المقاومة التي نعرفها في الستينات عبر ظهور “السلفية الجهادية”، وهي كارثة كبيرة على العالم الإسلامي أولاً وقبل أن تكون كارثة على غيره. خلافاً للمقاومين الأوائل يحمل هؤلاء فكرة مقطوعة الصلة مع الواقع الفعلي للعالم، وهم يروننا أسوأ متضمنات “الموقف الحداثي” الذي وصفته آنفاً، فقد قطعوا كل صلة مع التقاليد ليعودوا إلى تفسيراتهم الخاصة للنصوص قافزين فوق الخبرة الاجتماعية والأخلاقية المتراكمة عبر القرون للجماعة العربية مما أوصلهم إلى نتائج لا أخلاقية ولا عقلانية لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث.

ومن الخطأ وضع كل الإسلامانيين في سلة واحدة فكما رأينا الزرقاوي والبغدادي رأينا في المقابل الغنوشي ومورو و”حزب العدالة والتنمية” المغربي. ومن أسوأ ما جرى في السنين الأخيرة كان إجهاض تجربة قابلة للتحول في اتجاه نظام برلماني حر يسمح بتداول السلطة في مصر، إذ قاد الخوف المرضي من الإخوان مثقفين مصريين كثر قصيري النظر إلى تأييد قيام نظام دكتاتوري هو أسوأ بكل المقاييس من حكم الإخوان المحدود القوة، وقد كان من المطلوب تشجيع الاتجاهات المتعقلة ضمن الإخوان التي تقبل مبدأ الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وعزل الاتجاهات غير المتعقلة. أما ما جرى فكان وضع العقلاء وغير العقلاء في سلة واحدة واستئصالهم العنيف معاً مما وضع الأساس لما يشبه حرباً أهلية تتحول عملياً إلى حرب استنزاف أبعدت مصر وهي قلب الأمة العربية عن هدف النهضة الملح وسارت بها تماماً في عكس اتجاهه.

من هنا أهمية إيقاف الحرب الأهلية الثقافية وبناء الكتلة العربية التاريخية من أوعى العناصر في الاتجاهات الفكرية السياسية العربية المختلفة.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here