تحدّث كثير من المتابعين للحرب الروسية في أوكرانيا عن استراتيجية عتيقة ومتكررة للجيش الروسي في تعامله مع الأعداء، فسواء تعلّق الأمر بغروزني الشيشانية أو حلب السورية أو ماريوبول الأوكرانية، تتكرر المشاهد نفسها: مدن مدمرة بشكل شبه كامل، حُطمت كل المرافق الحضرية الضرورية لاستمرارها، وسوّي كل مركز مقاومة محتمل فيها بالأرض. المحظوظون من أهالي هذه المدن قد يتمكنون من اللجوء إلى مدن أخرى، تقوم بـ»إدماجهم» من جديد، ليس دون أثمان صعبة.
ما يجعل التكتيك العسكري الروسي عتيقاً، ليس فقط ارتفاع تكلفته الحربية والبشرية، لكن منظوره للمدن نفسها، بوصفها ماكينة للعدو، تنتج سلعاً وإمدادات ومقاتلين، ولا بد من تدميرها. ربما كان هذا منظوراً صحيحاً في القرنين الماضيين، لكن تكراره في أيامنا قد يشير إلى تخلّف نظرة القادة والجنرالات الروس للعالم، إذ أن خصومهم في الغرب لن يهتموا غالباً بدمار المدن القصيّة شرقاً، ما دامت تشكّل مستنقعاً يلتهم الموارد الروسية، وبعيدةً عن الحواضر العالمية الأساسية. المدن الأهم باتت بعرفهم أكثر حيوية من أن تعتبر ماكينات واجبة التدمير، فهي مركزٌ للتدفقات المالية والبشرية والثقافية، التي يمكن إدارتها والتحكّم بها، سواء عبر زيادتها وتضخيمها، لتصبح المدن بذلك ميداناً لتطوير حضري متسارع بجنون، وجاذباً لاستثمارات، تستوعب الفوائض المالية وتضاعفها بمتواليات هندسية؛ أو عبر قطع التدفقات وحصارها، ما يُنتج المدن المُفقرَة، التي تعاني من العقوبات الاقتصادية، والانغلاق السياسي والاجتماعي، والتصحّر الثقافي.
حدث هذا في مدن عدة: بغداد قبيل سقوط نظام صدام وبعده؛ طهران وكركاس حالياً؛ بل موسكو نفسها، التي يبدو أنها المستهدف بحرب مدن غربية جديدة، لم تظهر بعد نتائجها. بهذا المعنى فإن حرب المدن، على الطريقة الحديثة، لا تحتاج إلى كثافة نيرانية هائلة، ومعارك مكلفة، تنتقل من شارع إلى شارع. وإذا تطلّب الأمر استخدام العنف المحض، فتكفي بعض العمليات الموضعية، التي تتسم بالسرعة والكفاءة.
هذان المنظوران المتعارضان لحرب المدن، الروسي والغربي، قد يكونان مفيدين لفهم التطور في الثقافة المدينيّة. فالمنظور الروسي، الذي يبدو أشبه بطبقة أثرية غنية باللُقى القديمة، يذكّر بما كانته المدن في عصر التصنيع؛ فيما يكشف المنظور الغربي ما استجدّ بعد عقود من نزع التصنيع، وتراجع «الاجتماعي» وغلبة الإداري على السياسي. فما أهم التغيّرات التي طرأت على ثقافة المدن، وفهمها لذاتها؟ وما الذي تكشفه عودة حرب المدن، بالمعنى الكلاسيكي، عن منظورات الحاضر؟
ملحمة البورجوازية
ربما كانت العودة لإسهامات النقد الأدبي الحديث شديدة الأهمية لفهم الثقافة المدينيّة وتطوراتها. لاحظ عدد من النقّاد البارزين ظاهرة أساسية، ترافقت مع نمو المدن، ربما منذ عمل ثيرفاتنس الشهير عن جنون «دون كيخوته»: لم يعد الشعر والملاحم والنصوص الدينية، الفنون المناسبة للحياة المدينيّة، كل تلك القوالب كانت تُروى وتُنشد في حلقات جماعية. في المدن يفضّل الناس شراء كتب مطبوعة، وقراءتها منفردين، ولذلك يمكن اعتبار الرواية القالب المديني الأكثر مناسبة لحياة البشر المُحدثين، ورغم كل محاولات التحديث في الشعر والخطاب الديني، يبقى السرد الروائي الموطن الأكثر مناسبة للأدب، الذي استطاع الصمود مع تقدم الوسائل البصرية والسمعية للفن الحديث. من أهم محاولات تفسير هذا نظرية الرواية للفيلسوف والناقد الأدبي المجري جورج لوكاش: الفن الروائي هو، باختصار، ملحمة البورجوازية. الملاحم القديمة كانت تعبّر أساساً عن تماهي الفرد مع المجموعة، ما يعطي المعنى للبطولة. معظم شخصيات الملاحم كانوا آلهة أو أنصاف آلهة؛ فرسان قومهم وأشرافهم؛ أو ربما أنبياء وقديسين؛ مُثلاً توصل الحكمة والعبرة. لم يعد لهذا كثير من المعنى مع تطور المدن وصعود البورجوازية، فالوحدة البدائية بين الفرد والجماعة تراجعت لمصلحة التناقض الشامل في المجتمعات الحديثة، بين مصالح مختلف الطبقات والفئات والأفراد، في شرط يتسم بكثير من السوقية والتفاهة واللامعنى. من يبحث عن المعاني البطولية الثابتة سينتهي نموذجاً كاريكاتيرياً شبيهاً بـ»دون كيخوته». ولذلك أبدعت البورجوازية القالب المتناسب مع طبيعة حياتها: النثر، المعبّر عن صراعات لا تنتهي، وتشتت المعنى بين منظورات متعارضة، فيما بعد طوّر الفرنسي لوسيان غولدمان أفكار لوكاش، ليعتبر الرواية «قصة بحث متفسّخ عن قيم أصيلة، بطريقة متفسّخة، في مجتمع متفسّخ».
إلا أن لوكاش وغولدمان، وغيرهما من النقّاد المؤثرين بأجيال من أنصار المذاهب الحداثية والطليعية، كانا يعبّران عن معنى آخر، تولّد مع المدينيّة الحديثة: ربما كان المعنى الجمعي القديم قد تفسّخ، إلا أن الحياة في مجتمعات صناعية، قاهرة للفرد تحت سلطة المؤسسات الانضباطية والسلطوية، ومغرّبة إياه عن منتجه ومجتمعه وقيمه، تتيح للبشر إمكانيات التجمّع بأشكال جديدة. وإذا كانت الآداب البورجوازية قد اقتصرت على التعبير عن الاغتراب، والكوميديا/التراجيديا الحديثة، فهنالك فرصة لإنتاج ملاحم جديدة، تؤمن بمستقبل يستعيد فيه الناس سيطرتهم على منتجهم المادي والاجتماعي. وهكذا ولّد اجتماع البشر الحديث، وتضامنهم في وجه الشدائد، قصصاً أخرى عن حروب دارات في المدن، لكنها بعيدة بشدة عن التفاهة واللامعنى، من معارك عامة باريس المسلّحين منذ عصر الثورة وحتى أيام الكومونة؛ مروراً بصمود مقاتلي الجيش الأحمر إبان حصار ستالينغراد؛ وصولاً إلى نضال قادة التحرر الوطني في مدن وبلدات العالم الثالث. ربما تربى الجنرالات الروس أو تأثروا بكثير من النقد الاشتراكي، ولذلك ما يزالون يفهمون الأمور وفق المدرسة القديمة: إذا أردت تدمير مقاومة البشر وتضامنهم، فحطّم مدنهم، واردم مبانيها على رؤوسهم.
لا داعي لتدمير المدن، فهي كيانات مرنة تعد بالكثير، يمكن رفع ريعها أو خفضه بشكل هائل، عبر ضخ بعض البيانات أو حجبها، سواء كانت تحويلات مصرفية، أسهماً في البورصات، معلومات وأخباراً مؤثرة في المستثمرين وتعاملات الشركات، الخ. هكذا يرى المديرون، سواء كانوا في الحكومات أو الشركات الغربية، حروبهم اليومية. لم تعد المدن ملحمة البورجوازية، أو مجالاً لتضامن الطبقات التي خلقتها، وعلى رأسها الطبقة العاملة ونخب المستعمرات، بل مجرد تراكم اعتباطي لعلامات فارغة؛ كثير من المال الوهمي الذي لا يوجد ما يسنده؛ فقاعات عقارية تنفجر بشكل دوري. الملحمة هنا لم تعد صراع الطبقات، أو تناقض الفرد مع المجتمع والسلطة، بل مجرد «محتوى» فارغ، تقاس أهميته بما يجلبه من تفاعل و»ترافيك» أي من بيانات قابلة للبيع والتداول. وإذا أردت معاقبة مدينة وكسرها، فما عليك إلا أن تخفض جاذبيتها الاستثمارية، أي أن تجعل بياناتها ذات تصنيف ومؤشرات منخفضة. ما القالب الفني المناسب للتعبير عن كل هذا؟ ربما على نقّاد المستقبل التركيز أكثر على «المنصات» العارضة لـ»المحتوى».
الفقاعة الثقافية
لا تعرف المدن المعاصرة فقاعات عقارية ومالية، تنفجر دورياً حسب، فالتطوير الحضري له جانب ثقافي عضوي. يمكن القول إن الثقافة ونمط الحياة باتا من أساسيات الجاذبية الاستثمارية لأي مدينة، في عصر «الإنتاج اللامادي» وتسليع العواطف والرموز والهويات. وبات التنوّع والتسامح والتعددية الثقافية قيماً يمكن تداولها. من يرغب بالمغامرة بأمواله في مدن ذات لون وصوت واحد؟
إلا أن هذا «التطور» الذي يجلبه استثمار الفوائض الرأسمالية في الحواضر العالمية، يجعل الثقافة المدينيّة شبيهة بالأموال الوهمية التي تملأ البورصات، أي فقاعة تتضخّم من الرموز والعلامات، التي لا تجد بدورها ما يسندها من معانٍ وأفكار ومفاهيم. وربما كان ما يسمى بـ»الفن المعاصر» خير مثال عن ذلك: أعمال، توصف بـ»الفنية» لا يمكن تحديد ما يُعرّف جمالياتها، تملأ المتاحف ودور العرض، بدعم من البنوك والمؤسسات الثقافية الحكومية وغير الحكومية. قد تصل أثمان تلك «الفنون» وأجور صانعيها، إلى مبالغ خيالية، ثم فجأة تنطفئ، وتصبح قيمتها لا تساوي المواد الأولية الداخلة في إنتاجها. سبق للجغرافي البريطاني- الأمريكي ديفيد هارفي كتابة ما يشبه المرثية عن «غزو» الفن المعاصر لمدينة نيويورك، ومساهمته في تدمير الماضي الاجتماعي التضامني لسكانها ونخبها.
الأفراد الحزانى
عندما لا يجد الأفراد أكثر من فقاعات ثقافية، على «المنصات» وفي المعارض المختصة بـ»المحتوى» المعاصر، سيبدو سعيهم أكثر عبثية من وصف غولدمان المذكور أعلاه، حول تفسّخ البحث عن قيم أصيلة في المجتمعات الحديثة. يصبح الحزن والاكتئاب والانتباه المشتت بين ما لا يحصى من منبّهات السمة الأساسية لبشر يزدادون فقراً وعزلة وفقداناً للحقوق الأساسية، مع انفجار كل فقاعة مالية وثقافية. هؤلاء ضحايا حرب مدن لا تعرضها وسائل الإعلام ومنصات التواصل.
قد يكون أبناء المدن المدمّرة، البعيدة شرقاً، أصحاب تجربة أكثر عمقاً. بعضهم عرف معنى التضامن والمقاومة في وجه سلطات أشد مباشرة ووضوحاً؛ وآخرون حملوا تجاربهم بين عالمين. وفي كل الأحوال فقد يكونون شهوداً، أو حتى مساهمين، بانفجار نهائي للبنية المولّدة لكل تلك الفقاعات.
(القدس العربي)