تأخذك رواية ابتسام شاكوش الأخيرة في عالمها بطريقة لا مواربة فيها، والتي يمكن اعتبارها ضمن عدة أصناف من الأدب مثل أدب اللجوء وأدب الثورة وأدب الكارثة السورية ولكنها بالتأكيد ضمن الأدب النسوي السوري.
تكثف الروائية صورها وتقودك بسلاسة نحو العيش معها غمار أحداث الرواية، فسؤالها الأساسي الذي تطرحه كيف تبحث امرأة لاجئة عن مأوى لها وكيف تلملم شتات نفسها وكيف لها أن تعيد البحث عن أهلها ومن خرج من قريتها إلى تركيا.
تدخل بنا في عدة حكايات وذكريات خلال رحلتها ومغامرتها المرغمة على القيام بها، وتنقل الأحداث بحرفية وغزارة تصويرية لتجعل القارئ يعيشها لحظة بلحظة وبانتباه شديد، تتكشف في روايتها تناقضات المجتمع السوري اللاجئ وانقسامه واصطفافه حتى فيما بين اللاجئين الذين ربما يكيلون الاتهامات تارة على الثوار وتارة أخرى على النظام. تتشابك الأحداث وتتالى وتعود بنا بذاكرتها لدمشق والقنيطرة وفساد النظام على مر عقود، وتعود بنا للثورة الأولى ضد الأسد الأب لتنقلنا للثورة الثانية ضد الأسد الابن بل وتستحضر مجزرة حماة الأولى في عهد أمين الحافظ ذو عقلية القبضايات والسذاجة والتسطيح بذات الوقت. طالما تبحث عن إجابات لا حلول مطلقة لها.
عبرت الروائية عن شكرها لصديقتها التركية التي استضافتها بمنزلها مع أختها ووالدتها، والتيار التركي المحافظ الذي دعم اللاجئين السوريين بصورة أو بأخرى في الأعوام الأولى للثورة وحماسة الشباب على العودة بعد الإصابة للكفاح المسلح في مواجهة آلة النظام القمعية.
كما عبرت عن ضحايا الثورة الأولى وعادت حتى لعهد الانتداب الفرنسي، وأشارت للطائفية المتجذرة في مناطق العلويين في سورية، وصولاً لإرث البعث في التعاطي مع الشعب ولا مواطنية المواطن السوري وأساليب قمعه السابقة وصولاً للبراميل والقصف والحصار والتجويع. والمخاطر التي تواجهها المرأة السورية فمرة على حياتها وتارة أخرى على فقدان أحد أفراد عائلتها.
الرواية حملت أبعاد دينية وقومية وهويات سورية متعددة وطرحت مبدأ الهوية ذاتها سواء كانت عربية أو اسلامية وإن كانت طائفية أو مناطقية أو اثنية وحتى الهوية الوطنية كان لها مكاناً في بحثها عن ذاتها.
لم تتوقف التساؤلات عن الطرح من بداية الرواية لنهايتها، هذه التساؤلات التي جعلت القارئ يتقبلها كما هي في إطار الواقع المرير القائم على كارثة شعب بأكمله ينزح ويُهجّر رغماً عنه، وهو يزحف بلا هوادة نحو تركيا، أمام عجز البشرية عن استيعاب حجم آلة الدمار داخل الأرض السورية وتخيلها ربما.
امتلأت الرواية بأبعاد الإرث السوري الثقيل والساخر بذات الوقت لتشكل الكاتبة تراجيكوميديا في وصفها للفاسدين وسذاجة التجار المقتنعين بفرضية “كنا عايشين”، وإجبار الناس على الانتساب للبعث وهدم مساجد حماة عام 1982، وصولاً لهدم كامل سورية بعد 2011.
تتعلق الكاتبة بالأنهار التي تمتد لداخل وطنها الأم فتجد السعادة لدى رؤيتها الفرات وتحزن لدى رؤيتها مياه العاصي المتعكرة في انطاكيا، وكأن للماء رسائل عابرة للحدود بشكل عكسي للجوء البشر.
قارنت الكاتبة بين خراب بلادها طوال حكم البعث وتطور تركيا وحداثتها المستمرة، ونقلت صور حزينة عما آلت إليه البلاد نتيجة آلة القمع التي امتدت لعقود. وصولاً للخراب الأخير. وبينت عقلية النظام التي تعمدت تخريب العقل السوري وإفساده بل وجعل الفساد عرف وتقليد فشوه الأخلاق وحول البلاد لمزرعة. بل ونهب خيرات البلاد مثل النفط وبيعه لاسرائيل طوال عقود وتحت جنح الظلام في الوقت الذي يؤدي مسرحية الدفاع عن القضية الفلسطينية. وانعكس هذا الفساد على محدثي النعمة من متسلقي الثورة السورية الذين استغلوا الدعم الدولي للاجئين السوريين في المخيمات وخارجها، لملء جيوبهم ووضع ربطات عنق لم يعتادوا ارتداءها من قبل، وكأنها فرصة لا تعوض لمثل هؤلاء اللصوص.
الرواية استحضرت نقاط مضيئة من الثورة بالمقابل وكيفية استغلال النظام للإسلاموية الصاعدة آنذاك وأشارت بشكل غير مباشر كطوق نجاة للنظام لإعادة تعويمه عالمياً وتبرير قتله لشعبه تحت جنح الحرب على الإرهاب، وحاولت التفريق بين أن تكون مسلم كهوية جوهرية لدى السوري وأن تكون اسلاموي داعم للنظام عن قصد أو عن غير قصد.
لم تخفِ الكاتبة امتنانها للدولة التركية التي استقبلت ملايين اللاجئين السوريين، وصورت أحد المخيمات ومعاناة النساء والرجال على السواء وبالطبع الأطفال الذين فقدو أحبتهم من أب وأم وهذا التشرذم السوري الهائل. وبالمقابل واجهت عائق اللغة والصدمة الحضارية والاستعانة بما يحيط بها، وردة فعل الشعب التركي المتنوعة في استقبال اللاجئ السوري بين من يحمل تركيا المسؤولية وبين من يدافع عنها بأن ما يحصل بسورية لا يستلزم تدخل جيش تركية فهي مسؤولية السوريين وحدهم والذين عليهم العودة لمواجهة أتون الجحيم السوري والاحتلالين الروسي والايراني في الأعوام الأولى للثورة السورية. صورت الكاتبة علاقتها بقريتها ووالدها المسن الذي تركته خلفها مرغمة خشية الاعتقال، وهو المئوي المحاصر والجائع، والذي رفض اللجوء مفضلاً البقاء في أرضه وقريته. كان تصويرها لجوع والدها مؤثر ومؤلم. نجحت الكاتبة بتصوير الألم بأقصى حالاته والتي تفوق الخيال لكنه يحصل وحصل بالفعل. العمق الانساني للرواية كان مذهلاً كالأم التي عادت ابنتها لاحضار لعبتها من المنزل الذي دفنتها طائرات الأسد مع لعبتها. كثيرة هي صور الألم السوري في الرواية والتي تبدو بلا نهاية وقد نجحت بنقل سوداوية المشهد السوري ونفقه المظلم دون أي نور بالنهاية فيما عدا الناجين من المذبحة السورية، ليكتبوا حقيقة المأساة ويرفعوا مشاعل الحرية كما في الرواية
*خاص بالموقع