محمد زعل السلوم: مسلسل عمدة كينغستون والدول السجون مثل سوريا

0

تكون مفهوم الدول السجون بدايات القرن الماضي بتحولين رئيسيين على مستوى العالم، كنتيجة للحرب العالمية الأولى وامتداد لها وهما الثورة البلشفية عام 1917 واتفاقية سايكس بيكو ومؤتمري باريس وسان ريمو، ليتكون مفهوم جديد للعالم، لتتطور تلك الدول السجون وتتبلور بعد تشكيل دول جوفاء ونهاية امبراطوريتين هما فرنسا وبريطانيا، ورحلة الاستقلال الوطني والحرب الباردة، ولتصبح الدول السجون فاقعة اللون في أوروبا الشرقية ودول العالم الثالث، بالمقابل يبدو البطل الرأسمالي عمدة كينغستون هو رمز للأمم المتحدة التي تعتبر نفسها فوق القانون أو فارضة القانون تحت شعارات القيم الانسانية، ولتدير مصلحة السجون تلك بشكل أو آخر، عبر التنسيق مع السجان والسجين تارة وتجار المخدرات في شوارع المدينة تارة أخرى.

يبدأ الحديث عن المسلسل الرمزي لتلك الحالة العالمية بالتعريف عن مدينة السجون تلك التي تزخر بعشرين ألف سجين يشرف عليهم أربعين ألف حارس وشرطي ومعلم وإداري وموظف، وحتى لا تنتقل صراعات تلك السجون بين العصابات لحرب عصابات في الشوارع فلابد من منسق عام ومفاوض بارع يحفظ التوازن ويمنع الثورات داخل تلك السجون والحروب في شوارع المدينة. ويخفف الأضرار والتكاليف.

يتم قتل العمدة المعتدل وكما يبدو أنه يرمز للسوفييت ونهاية الحرب الباردة عام 1989، لسبب تافه وهو طمع لص بمال لا يملكه ليقتحم مكتبه ويرديه قتيلاً، ليتم تصفية القاتل بتواطئ الشرطة التي تعيش على الطريقة الأفغانية وكأنه يشير لذاك اللص لأفغانستان التي أردت السوفييت في بلادها. أو لسبب قدري ونتيجة لطبيعة عمل ذاك العمدة القائم أساساً على هذا النوع من المخاطر.

ليتسلم السلطة بعد ذلك العمدة “الأزعر” ذو الخلفية الإجرامية والخبرة المعتقة بالسجون، وكأن الكاتب يكاد يقول إنها الولايات المتحدة، ليدير هذا العالم الصغير مدينة السجون كينغستون على طريقته وهي طريقة رعاة الأبقار، ليتسبب في النهاية بسبب سياساته وتوجيهاته لحراس السجون المجرمين بالأصل ليدفعوا المساجين للانفجار والثورة على سجانيهم.

المسلسل في موسمه الأول هذا العام 2022 يذهل المشاهد في اسقاطاته على هذا العالم القائم على السجون والعصابات، والعمدة الوريث حين يهرب عن صخب مدينته المجنونة يتوجه إلى غابته وكوخه البعيد حتى عن إشارة الاتصالات الهاتفية وفي عزلته يراقب الدب الذي يعتبر كلأ العصافير أمام كوخ عمدتنا عبارة عن محطة طعام، فالدب يتلذذ بكل ما يأكله البشر ويتنقل من محطة طعام لأخرى وراء غريزته، ربما تلك الرمزية البسيطة حين يفكر في قتل الدب إذا ما اقترب منه ثم تراجعه عن قراره، ليشير أن البشر أقرب لذاك الدب فكل ما يحتاجونه هو ذاك الطعام وتلك المحطة فحسب وليسوا مضطرين لأذى من حولهم، وهنا لا يفرق بين الإنسان وحاجات الحيوان الغرائزية، في حين تُعلّم والدة العمدة بسجن السيدات عن الفرق بين الإنسان والحيوان، بأن الانسان يتميز عن الحيوان بميزة المشاركة والتعاون لا التنافس وإلا سيؤدي ذلك التنافس لفناء البشر بالضرورة، وحكاية علاقة الهندي الأحمر بالكلاب إذ يعتبر الهندي الأحمر الكلب هو أحد أسلافه، فعندما كان التطهير العرقي لهم في ذروته قام المستوطن الغربي بجمع أولئك الهنود في سفن لتغيير مواطنهم ومنعوا حمل كلابهم بتلك السفن، فبدأت الكلاب تحن لرعاتها ورغم أن النهر عميق وتياره قوي قام أحد تلك الكلاب باللحاق بسيده ويرمي نفسه بالنهر، ولتتبعه جميع تلك الكلاب وترمي نفسها في النهر، وكأن غريزة الوفاء قاتلة لهذا الجنس ليسحب التيار معظم تلك الكلاب ويغرقها، لكن كلب واحد يبدو أنه أقوى وأشرس تمكن لفترة زمنية أطول من الصمود، حتى الغزاة والسجانين أعجبوا وتعاطفوا معه وحاولوا مساعدته، لكن قواه خارت في النهاية وطاقته انتهت ليجرفه التيار بعيداً، وكأنها تقول بأن الغريزة عبثية وعدمية في النهاية وكان يمكن للكلاب لو فهمت خطورة ذاك النهر ما أقدمت على رمي نفسها فيه، لو كانت تملك العقل والتفكير العقلاني الكافي، ولاستمرت في حياتها، بمعنى أن الهوس الاجتماعي قاتل في ظروف الطبيعة القاسية وعليها الخضوع لقدرها وأن تستمر حبيسة ذاتها كأهون الشرين، وألا تعيش أعراض استوكهولم والمنفعية، بالمقابل شعر الهنود بأنهم باتوا بلا هوية وقد فقدوا حتى أقوى أسلافهم، ليعيشوا عالم جديد ويستوطنوا أرض منفى جديدة وصدمة مستجدة تقتل أحلامهم.

هذه الرسائل العبقرية من التاريخ الأمريكي تعزز فكرة بلاد السجون، سواء كانت بلداننا العربية أو بلدان العالم قاطبة في هويات ربما قاتلة نحبس أنفسنا داخلها في حين أنها جميعا هويات سجون، وحتى التمرد العبثي الذي حصل نهاية الموسم كان استجابة طبيعية لضغط السجان الذي يستمتع بالتعذيب بطريقة سادية دون استجابة لمطالب المساجين الذين كانوا بالعادة منقسمين لعصابات السود والمكسيكيين واللاتينيين والبيض الايرلنديين وغيرهم، وتلك الاصطفافات التي تعكس واقع الشارع في الحقيقة والعالم “الحر”، الذي يدير تلك السجون بالأصل من الخارج.

مسلسل عبقري بتقييم عالي من عشر حلقات بموسمه الأول، ولن أُفصّل هنا بأسماء كبار الممثلين ولا أداءهم وإنما فصّلت ببعض روعة ما أراد المؤلف والمخرج من إيصاله إما بشكل مباشر وإما بطريقة رمزية جميلة، عابرة نحو لاوعي المشاهد أو المتلقي بأن عالم السجون كعالم الشارع بالضبط وهو مرآة عاكسة لحقيقة البشر أجمعين.