محمد زعل السلوم: رسالة غامضة على لوحة “الصرخة” تكشف أسرار مونك

0

بالكاد تظهر رسالة قصيرة أعلى اللوحة، وهي رسالة تتهم الفنان بالجنون وتُنسب منذ فترة طويلة إلى زائر خبيث. لقد أثبت متحف أوسلو مؤخراً أن الفنان نفسه هو كاتب ذلك النقش.

إنها صرخة جليدية، ترتعد لها الفرائص، وواحدة من أكثر اللوحات شهرة في العالم وهي لوحة الرسام النرويجي إدفارت مونك، التي أنتجها في خمسة إصدارات بين عامي 1893 و 1917 والتي لا تزال أصداءها تتردد بعد قرن. لأن العمل، الذي تم فيه تناول شخصيته الشبحية للفنان ذاته بسرور وتم اختطافها على الشبكات ونشرها منذ بداية وباء الكورونا، عادت لتثبت أنها أفضل من أي عمل آخر يرمز إلى الكرب الذي عانته البشرية خلال هذه الفترة المؤلمة. ولأن الصرخة قد منحت مؤخراً واحدة من أسرارها الأخيرة : رسالة غريبة، مُلصقة بشكل خفي بالقلم الرصاص على اللوحة ومعلنة عن نفسها بالنرويجية : “لا يمكن إلا لرجل مجنون أن يرسمها”.

والنقش مرئي للعين المجردة … لكنه يبدو كحكمة، لأنه مخبأ في أمواج السماء المتوهجة، ولتظهر هذه الرسالة فقط في النسخة الأولى والأكثر شهرة من الصرخة. إذ كان وجودها معروفاً بالفعل في بداية القرن العشرين، فقد اعتبرها المتخصصون حتى اليوم على أنه عمل تخريبي للوحة. هذا الأسبوع الأخير من فبراير شباط 2021، أثبت المتحف الوطني النرويجي للفنون والعمارة والتصميم عكس تلك الفرضية الشائعة منذ أكثر من قرن، فمع التصوير بالأشعة تحت الحمراء ثبت أن الفنان نفسه ادفارت مونك هو الذي كتب تلك العقوبة على اللوحة. و لكن لماذا؟

مرة أخرى في عام 1895، لتحديد السياق التاريخي وظروف تلك اللوحة. فبعد تصوير ذاته وهو بحالة الصرخة عندما تنزه في الخارج لبعض الوقت في اوسلو وقت الغروب، تم تقديم اللوحة القماشية، إلى جانب أعمال أخرى لإدفارت مونك، بما في ذلك صورته الذاتية مع السجائر، للجمهور النرويجي لأول مرة. فكانت ردود الفعل مختلطة على أقل تقدير. حتى زعم مدير متحف محلي أنه “لا يمكن لأحد أن يعتبر إدفارت مونك ذو عقل طبيعي”، وفي نقاش جانبي بالمتحف عن أعمال مونك، افترض طالب الطب يوهان شارفينبيرج عبرطرح أسئلة أمام الجميع عن حالة مونك العقلية.

فرضية قوية

تشرح ماي بريت غولنغ، أمينة المتحف الوطني النرويجي والمتخصصة في مونك أن ما سمعته هو مجرد كلمات تؤذي الفنان الكبير وأنه : “لم يكن انتقاداً لعمله، بل هو استفزاز له كفنان طليعي”. كان يحب الفكرة الرومانسية للجنون، والعبقرية المتبصرة للانسان. ولكن ناهيك عن الجنون بالمعنى السريري للمصطلح “. في الواقع، تتخلل القضية تاريخ عائلة مونك نفسها (بدءاً من أخته، التي كانت محتجزة في مصحة للأمراض العقلية)، وفكرة المرض الوراثي التي كانت ترهب إدفارت مونك – لدرجة أنه لم ينجب طفلاً أبداً.

وبالتالي، فإن فرضية المنتقد الذي جاء بتكتم للتنديد بعصاب الفنان على قماشه، خلال معرض عام 1895، تم تأجيلها – بحيث لم يأت أحد على التشكيك فيها فيما بعد. تقول ماي بريت غولنغ : “إنه أمر رائع بحد ذاته”. فقد ركزت الدراسات على جوانب أخرى من اللوحة، مثل أهميتها في مهنة مونك أو الروابط الموجودة مع لوحاته اللاحقة. يمكن تفسير عدم الاهتمام هذا ببساطة بحجم القائمة”. وهو نهب رصين وملهم للبشرية بغرابة.

تم إغلاق المتحف الوطني للفنون والعمارة والتصميم في النرويج بسبب فيروس كوفيد، ولكن بشكل خاص بسبب الخطوة القادمة، وكان قادراً على قضاء بعض الوقت هذا الشتاء لعام 2021 لوضع اللغز تحت المجهر. أو بالأحرى التصوير بالأشعة تحت الحمراء، مما يسمح لكربون القلم الرصاص بالظهور بشكل أكثر وضوحاص. قبل مقارنة الكتابة بما كتبه الفنان بالفعل.

استعادة السيطرة

إن أوجه التشابه ، خاصة في تشكيل حرف “ام”، لا تترك مجالاً للشك لدى الخبراء : إنها بالفعل يد مونك التي نقشت هذه الحروف. لم يسبق لها مثيل من قبل، كما تقول ماي بريت غولنغ، وأنها نافذة جديدة على الطابع المعقد لإدفارت مونك. “نرى أنه كان يحب الاستفزاز، وأنه لا يهتم بقواعد كيفية الرسم ولكن أيضاً بكيفية التعامل مع اللوحة”، كما تلاحظ أمينة المعرض. بأن هذا يؤكد جانبه المتمرد، ولكن أيضاً على إحساسه بالعجز. هذه الكلمات تبدو وكأنها وسيلة له لاستعادة السيطرة بعد الانتقادات التي سمعها عندما عرضت لأول مرة.

هل من أجل رمزيته، المعروفة له فقط، أن الفنان تعمد عدم اخفائها، رغم أنه أعاد لمس صرخاته أربع مرات أخرى بعد الأولى لكنه لم يكتب عبارته إلا في الأولى؟ “أو ربما لم يفكر في الأمر، أو أنه كان في حالة سكر ونسي الأمر عند كتابته عليها …” لن ينسى إدفارت مونك أبداً حلقة طالب الطب على أي حال، والتي سيستحضرها في مذكراته بعد ثلاثين عاماً. من خلال وضع النقاط على “إي”، تتذكر ماي بريت غولنغ، مؤكدة “أن أمثاله لم يفهموا شيئاً : رسم المرض والموت والألم لا علاقة له بمعاناة النفس والجنون. بل على العكس من ذلك، إنها سمة من سمات العمل الفني”.

صرخة مونك رمز العذاب البشري لم تكن صرخة مونك فقط رمز الكوفيد مؤخراً بل كانت صرخة البشرية في الحرب العالمية الأولى والثانية وتنديد بالأنظمة الشمولية والديكتاتورية عبر أكثر من قرن من الزمن وآخرها الصرخة السورية وغيرها من صرخات الشعوب، كما ألهمت الشعراء عبر العالم وحتى السينما والصحة العقلية والنفسية للانسان وقضية وجوده ذاتها. أصبحت رمز حالات الهلع والرعب للطفل السوري لحظة قصف، والياباني لحظة تسونامي وزلزال الحادي عشر من مارس 2011. الصرخة بالفعل لوحة ترسخت بالذاكرة البشرية ونقلت ليس رعب الفنان ذاته فحسب لحظة مساء سوداوي بل رسمت ألم البشرية جمعاء.

*خاص بالموقع