تحدث أحدهم ذات مرة في رسالة للباحث الإيطالي غويدو فيتيلو عن وفاة أحد جيرانه وهو معلم بالثانوية
فقامت أرملته وحماته بجمع كتبه بأكياس قمامة كبيرة وقامتا على طول سلم البناء بوضع تلك الأكياس
السوداء الضخمة وجرّها للخارج، وملابسه كذلك وأشياءه الشخصية، والمؤلم في الحكاية أن الجو كان
ماطراً وبعض الأكياس المليئة بالكتب والمجلدات كانت مفتوحة ومبعثرة وكانت بالنسبة للشاهد على تلك
اللحظات وكأنها إيماءة وتشتيت حزين لتلك الكتب القيمة وتدنيس للمقدس وعمل مبتذل وكأنهم قتلوا قارئها
الخاص مرتين.
هذا الشعور لازمني وأنا في بلد اللجوء عندما أرسل لي أهلي، وبعد موافقتي على مضض، صور كتبي
وكيف جمعوها في هوندا سوزوكي وكذلك مجلاتي للتخلص منها على كثرتها وكأنها جنازة، لقد شعرت
حينها بالغربة مرتين، وكأنني أخرج من وطني مرة أخرى لأتمزق في مكان آخر.
وكنت قبل لجوئي وخروجي قد قمت عندما كنت معلماً بتوزيع كتبي ومجلاتي الثقافية مثل العربي والمعرفة
في المدرسة عبر معرض للكتاب التبادلي، وكنت راضٍ عن وداع نصف مكتبتي آنذاك، ربما لأن قلبي قال
لي بأنني سأغادر هذه البلاد، ولا مكان لكتبي الكثيرة في منزل أهلي، وربما لأني خشيت من قذيفة تحرق
كل مكتبتي، وقد تم تدمير أجزاء من منزلي ونجوت بأعجوبة فتعلمت الدرس وقتها بأنّ عليّ أن أوزع كتبي،
ولطالما اعتقدت أن التخلص من الكتب بشكلٍ سيء، مثل رمي الكتاب في سلة المهملات، هو عمل يشبه
التجديف إلى حدٍّ كبير. ويقول أحدهم عن وداع الكتب فيجب أن يكون بطقس معين ربما، كأن أضعها في
سلة مثل موسى عليه السلام وأتركها تجري في النهر وأكتب تكريساً معيناً لقارئها المستقبلي، فربما تجدها
امرأة فرعون، وتعيد تكوين فكرها من خلالها. ربما هذا نوع من الطقوس كأن نقول إنه طقس العبور أو
طقس استرضائي للذات، وربما تكفير للذنوب؟! أو حتى طقس جنائزي كما حصل مع كتبي.
من يتذكر لوحة غيسيبي أرسيمبولدو الفنان الإيطالي الشهير عام 1562، وهو أول من رسم البورتريه
بالمواد والكائنات الحية، ولوحته الشهيرة “أمين المكتبة” حيث حوله لكائن من كتب كشخصية بشرية
بمختلف الألوان والأشكال، ولوحة الرسام اللندني جوناثان ولستنهولمي عام 2003 باسم “المدرسة
الشكسبيرية” حيث يجعل الكتاب كإنسان له ذراعين يكتب بالريشة في يد على ورقة ويحمل جمجمة باليد
الأخرى، ربما لوحة أرسيمبولدو تجسد مكتبة القارئ في هذه الحالة أما لوحة جوناثان فهي التجسيد للإنسان
ذاته. ومن ينسى المعتزلة في الفلسفة الإسلامية الذين اعتبروا القرآن الكريم مخلوق.
يقول جوزيف كونراد إن الكتب تشبه البشر أكثر من بقية الجمادات، لأنها تحتوي على تفكيرنا وطموحاتنا
وسخطنا وأوهامنا وإخلاصنا للحقيقة وميلنا المستمر للخطأ، ويضيف كونراد : “إنهم يشبهوننا قبل كل شيء
في علاقتهم غير المستقرة بالحياة، فهم مثلنا يخافون من الموت”.
وكذلك البشر، من ناحية أخرى، فالبشر يشبهون الكتب تماماً كما تم وصفهم على ضريح الرئيس الأمريكي
بينيامين فرانكلين : “جثمان بنيامين فرانكلين، مطبوع مثل غلاف كتابٍ قديم تمزقت صفحاته، وجُرّدَ من
التذهيب. هنا، طعامٌ للديدان، لكن العمل لن يضيع، لأنه في اعتقادنا سيظهر مرةً أخرى بإصدارٍ جديد،
مُصحّحاً وأكثر أناقة، وأكثر اعتماداً من قبل المؤلف”. وحتى في المعتقد الإسلامي يوم القيامة فهناك من
سيتلقى كتابه عن يمينه وهناك من سيتلقاه عن شماله، فالإنسان كتاب بحد ذاته ربما ينبعث من جديد.
المكتبة هي كائن حي، وورقة مزدوجة من شخصين هما الكتاب وصاحبه الذي رعاه بمحبة ليستمر مدى
الحياة، ويبدو أن ما فعلته الحماة والأرملة بكتب المعلم كمن يدفن زوجته في حديقة المنزل، فلم تدع كتبه
تتحلل بأمان في “تربة” مكتبته بل قامت وبسرعة بالتخلص منه ورميه بعيداً.
ربما خلال تحلل تلك الكتب بأمان في مكانها الطبيعي مثل موسى الطفل عليه السلام عندما تركته أمه للنهر،
لتلتقطه امرأة فرعون، لنجد عزاءاً لذواتنا في طقوسنا الجنائزية حينما نودع كتبنا ونوع من استرضاء أنفسنا
كما ذكرنا.