عندما كنت طالب جامعة في الأدب الفرنسي وبالمعهد العالي للفنون المسرحية بجامعة دمشق، كانت القراءة عالمي الأثير وكنت أنهي رواية من 500 صفحة في ظرف يوم واحد وعلى مدى جلسة واحدة من عشر ساعات، وبعد عام 2011 وعندما تسنى لي الجلوس في المنزل أكثر تجنباً للحواجز وخشية الاعتقال، كانت الكتب عالمي العميق الذي أنغمس فيه حتى والدتي تدعوني للطعام أو يحدثني إخوتي فلا أشعر بمن حولي لدرجة الصراخ بأذني حتى أنتبه لما قالوه لي، وبعد خروجي من دمشق وكلما تسنى لي زمن راحة واختلاء مع الذات ونوع من الاستقرار أركن لعالمي الخاص والمعزول، وبعد وصولي لاسطنبول أصبحت مشتتاً في قراءاتي لعدم الاستقرار المكاني فكل فترة أنتقل لمكان جديد ونوع من التشرد البوسفوري كما ذكرت ذلك ربما في روايتي مشرد البوسفور، ولكن خلال فترة الكورونا جمعت شتات نفسي واستقريت في منزل لعامين ونصف فكان أفضل الأمكنة التي استمتعت بها.
ماهي القراءة العميقة ؟
يتحدث معلمي غويدو فيتييلي وهو المتخصص في عالم البيبليوثولوجيا أو علم أمراض الكتب عن النوم العميق للإنسان ويقارنه بالقراءة العميقة، فالإنسان البدائي كان يتنبه في فجر التاريخ لعواء الذئاب ليشعر بالخطر فقام بتربية الكلاب لتنبيهه لذاك الخطر وليتسنى له الحصول على فرصة النوم العميق، والذي ينبهنا إليه ويوقظنا نباح الكلب. وكانت تلك الآلية هدية لنا للنوم العميق والراحة بعد الشعور بالأمان لوجود الكلاب الوفية المحيطة بنا، واليوم ورغم وجود الأبواب المصفحة وأجهزة الإنذار في منازلنا والجدارن والمباني والشقق الفارهة والتدفئة نستسلم بهدوء للنوم، وبالمقابل قابلنا خدمات الكلاب لنا بجحود كبير.
الانطفاء الذاتي :
رغم أن النوم العميق لم تعد تهدده الحيوانات المفترسة، إلا أننا نخسر اليوم قوة حيوية هامة أخرى لذكائنا البشري وعقولنا، وبالتالي نصل لمستوى الإنطفاء الذاتي وما يترتب عليه من أمراض العصر من ضغط وعصبية وأشكال متنوعة من الاكتئاب، بابتعادنا عن علاجنا الطبيعي وهو القراءة، وهو ما تعرفه عالمة الأعصاب ماريان وولف “القراءة العميقة”، والتي تعد برأيها هدية مجانية من الانغماس في حياة القراءة. وربما تكون أعظم هدية مجانية لصحة عقولنا.
ولكن هل يمكننا أن نعتبر أنفسنا بأننا انقرضنا كقراء، مع غوصنا في كون العالم الافتراضي والرقمي، وتغير العالم المعرفي علينا والذي أصبح سريعاً بشكل مذهل، وكنا كبشر نحصل على المعرفة من خلال ممارستنا للقراءة من الكتب، أي أنها مصدر معارفنا على الدوام، ولا ننسى اليوم العوامل الثلاث التي تبعدنا عن الأوراق وهي الحياة المتصلة وإرهاق اليوم والعمل وعلاقات الحب والصداقة ولكن كل هذه كانت موجودة في عصر الكتب أيضاً.
إذاً ما الحل؟ تحاول عالمة الأعصاب ماريان وولف علاج هذا المرض الحضاري وسحق جائحة اللاقراءة التي أصابت البشرية اليوم من خلال كتابها “القارئ الذي يأتي للمنزل” وكتاب “الدماغ الذي يقرأ في عالم رقمي” وهي تدعو الناس للإعتقاد بأن القراءة العميقة مثل النوم العميق، تحتاج إلى حارس كما في فجر التاريخ، فأنا على سبيل المثال أصبحت قارئ مشتت وغير راضٍ عن نفسي، وهناك من جرّب في الغرب تربية كلب في منزله، ونجحت معه، أما نحن فربما نجد نوع من الفرصة للانعزال والقراءة والاستمتاع بها بفصل الإنترنيت والتعمق بالقراءة سواء عبر كتب إلكترونية مثل حالتنا كلاجئين سوريين، أو كتب ورقية إن تمكنا من شرائها في ظل ظروفنا القاسية التي نعيشها فمن نكبة اللجوء لنكبة الكورونا والحرب الأوكرانية لنكبة التضخم العالمي، والبحث الحثيث عن أمان واستقرار وحافز للقراءة وتطوير الذات والحفاظ على صحتنا العقلية. وأزماتنا النفسية من اضطرابات ما بعد الصدمة والتروما والشدات النفسية المتفاوتة والخوف من التهديد اليومي لحياتنا من ترحيل وقضايا الأوراق والقرارات المتقلبة للجوار السوري خصوصاً في منطقة غير مستقرة بالأساس هي منطقة الشرق الأوسط.
*خاص بالموقع