في مشهد مبكر من “الحزمة البرية”، تتجول عصابة تتخفى بزي الحرس الوطني الأمريكي على خيولها، في البلدة أمام حشد من الأطفال الذين اجتمعوا على جو من الإثارة حول لعبتهم الغريبة. فقد حاصروا بعض العقارب وهم يراقبونها فيما النمل يعذب تلك العقارب، لتلتقي عيون بايك (ويليام هولدن)، زعيم العصابة، خلال لحظة عابرة بعيون أحد الأطفال. لاحقاً في الفيلم، يتم القبض على عضو من العصابة ذاتها يُدعى انخل التابع لحركة المتمردين المكسيكيين ضد الجنرال الدكتاتور، ويتم جره حول ساحة البلدة خلف إحدى السيارات الأولى التي شاهدها أي شخص هناك. يركض الأطفال خلف السيارة ضاحكين. وفيما يقترب الفيلم من نهايته، يطلق صبي صغير النار على بايك الذي وضع يديه على مدفع رشاش ثم سحب مسدسه بدفاع مستميت عن نفسه، لكن الطفل يقضي عليه.
الرسالة هنا ليست خفية، لكن سام بيكينباه لم يكن مخرجاً دقيق التفاصيل، إنما يفضل الصور الجريئة على التفاصيل الصغيرة. بمعنى أن عباءة العنف تنتقل من المحترفين القدامى مثل بايك وحاشيته من أفراد عصابته، والذين يعملون وفقاً لقانونهم الخاص، إلى أيدي جيل جديد يتعلم القتل بشكل غير شخصي، كلعبة، أو بالآلات. إذ يتحول العنف ليس لمجرد أدوات الكبار الحصرية وإنما لعبة أطفال بالمقابل.
تدور أحداث الفيلم في عام 1913، عشية الحرب العالمية الأولى. “علينا أن نبدأ في التفكير فيما وراء بنادقنا”، كما يلاحظ أحد أفراد عصابة بايك. “تلك الأيام تمر بسرعة”. وآخر، وهو ينظر إلى السيارة الجديدة، يقول : “سيستخدمونها في الحرب، كما يقولون.” إنها ليست حرباً سيكون لها معنى في إطار مرجعيته الفردية المكثفة، فهو يعرف حجم الولاء ضمن عصابته، ولكنه يشعر أنها نهاية عصره.
تمت استعادة وقت تشغيل مقاطع الفيديو من العمل الأصلي وهو 144 دقيقة، وتتضمن العديد من المشاهد التي لم تتم مشاهدتها على نطاق واسع منذ عرض الفيلم لأول مرة في العالم عام 1969. معظمها يملأ تفاصيل من حياة بايك السابقة، بما في ذلك ذنبه بسبب خيانة صديقه ثورنتون (روبرت رايان)، الذي كان يوماً ما عضواً في العصابة ولكنه يقود الآن مجموعة صائدي الجوائز الذين يطاردونهم ويتبعون أثرهم خلفهم. بدون هذه المشاهد يبدو الفيلم فارغاً ووجودياً، وكأن بايك ورجاله يسعون للموت بعد وصولهم إلى نهاية الدرب. ومعهم تكون تصرفات بايك أكثر تحفيزاً، إنه يشعر بعدم اليقين من نفسه والدور الذي يلعبه. عُرضت النسخة الأصلية في العرض العالمي الأول في عام 1969، خلال العصر الذهبي لانتاج جنكيت، عندما كانت شركة وارنر براذرز في أوجها. فقامت بعرض خمسة من أفلامها الجديدة في جزر البهاما أمام 450 ناقداً سينمائياً ومراسل. لقد كان وقت الاحتفال، ولم يكن المكان المناسب لما أصبح واحداً من أكثر الأفلام إثارة للجدل في عصره – تم الإشادة به وإدانته بقوة مماثلة، مثل بولب فيكشن “لب الخيال” للمخرج كوانتين تارانتينو المثير للجدل أيضاً. وفي المؤتمر الصحفي من صباح اليوم التالي للعرض الأول، اختبأ هولدن وبيكنباه خلف نظارات داكنة وعبوس عميق، ترددت شائعات بأن هولدن أصيب بالفزع عندما شاهد الفيلم. بعد أن نهض مراسل من مجلة ريدرز دايجست ليسأل “لماذا صُنع هذا الفيلم؟” ليقف أحد أشهر النقاد ويصفه بأنه تحفة فنية. وليقول : شعرت، آنذاك ولليوم، أن “الحزمة البرية” هي واحدة من أعظم اللحظات الحاسمة في الأفلام الحديثة.
لكن لم يرَ أحد نسخة الـ 144 دقيقة لسنوات عديدة. فقد تم قطعها، ليس بسبب العنف (إنما تمت إزالة المشاهد الهادئة فقط للمفارقة)، ولكن لأنها كانت طويلة جداً بحيث لا يمكن عرضها ثلاث مرات في المساء. لقد كان ناجحاً، لكن تمت قراءته على أنه احتفال بالعنف القهري الطائش، ومجرد مشاهدتك النسخة غير المصقولة، فستحصل على فكرة أفضل عما كان بيكينباه ينوي أن يوصله للمشاهد وكيف سار بفيلمه.
يدور الفيلم، أولاً وقبل كل شيء، حول الرجال القدامى والبائسين. يبدو هولدن وزملاؤه الممثلون (إرنست بورغنين، وارين أوتس، وإدموند أوبراين، وبن جونسون، وروبرت رايان) متحفظين ومرهقين بذات الوقت. لقد كانوا يكسبون عيشهم من خلال الجريمة لسنوات عديدة، وعلى الرغم من تعيين رايان الآن بموجب القانون لملاحقتهم، إلا أنه في الحقيقة قد تعرض للتهديد بالعودة إلى السجن إذا لم يأسر العصابة ويسلمها للشريف. كما أن الرجال الذين قدمهم له مسؤول السكك الحديدية ماكرين وغير موثوقين، إنهم لا يفهمون طريقة تلك العصابة أو الحزمة البرية بالأحرى ولا كلمة سرها.
وما هو هذا السر؟ إنه ليس ممتعاً للغاية. كأن تقول أنك تقف إلى جانب أصدقائك وضد العالم، وأنك تنتزع مجرماً يعيش من سرقة البنوك والسكك الحديدية والأماكن الأخرى التي يوجد بها المال، وأنه بينما لا تطلق النار على المدنيين دون داع، فمن الأفضل ألا يعترضوا طريقك.
المشهدان العنيفان في الفيلم يتضمنان الكثير من المدنيين. يأتي أحدهما من خلال عملية سطو فاشلة على بنك في بداية الفيلم، والآخر يأتي في النهاية، حيث ينظر بايك إلى جسد صديقه في العصابة انخل وهو يُجَر عبر الساحة بسيارة الجنرال، ويقول “يا إلهي، أكره أن أرى ذلك”، ثم يمشي لاحقاً إلى بورديلو ويقول “لنذهب” والجميع يعرف ما يعنيه، ويخرجون ويبدأون المواجهة الانتحارية مع المتمردين المدججين بالسلاح. يُقتل الكثير من المارة في كلا المشهدين (أحدهم يختار قطعة من ثوب امرأة لتلميع حذائه)، ولكن هناك أيضاً مشاعر رخيصة، كما هو الحال عندما يعطي بايك الذهب لعاهرة وأم لطفل، قبل الخروج ليموت.
بين متواليات الأكشن (التي تشمل أيضاً المشهد الشهير حيث تم قصف جسر من تحت جنود راكبين للقطار)، هناك وقت للترابط الذكوري الذي احتفل به بيكينباه في معظم أفلامه. رجاله يصطادون الخيول ويطعموها ويسقوها ويركبوها. اللحظات الهادئة، مع الضوء الناري الساطع لشمس الغرب الأمريكي الحارقة والأغاني الحزينة على الجيتار والبغايا اللطيفات، تشبه تلك المشاهد أحلام اليقظة، وكل اولئك بلا مكانة في عالم العصابة الحقيقي. ليس هذا هو نوع الفيلم الذي من المحتمل أن يتم إنتاجه اليوم، لكنه يمثل مجموعة القيم الحزينة الفارغة مع الشعر الحقيقي.
إن التيار الخفي للعمل في “الحزمة البرية” هو محض اللامعنى لكل شيء. أول عملية سطو على بنك لا تحمل سوى كيس من قطع الحديد – “ثقوب فولاذية بقيمة دولار.” تم التخطيط لعملية سطو القطار بشكل جيد، لكن العصابة لا تستطيع التمسك بها للنهاية. وفي النهاية أيضاً، بعد إراقة الدماء وموت جميع أفراد العصابة، لتظهر شخصية روبرت رايان الذي كان يلاحقهم ليصل متأخراً ويجلس لساعات خارج بوابة المجمع، يفكر فقط، وكأنه يتساءل ما المردود من كل هذا، لتجتمع عصابة جديدة معاً، لترى ما الذي ستجمعه من وراء القتلى وما الذي يمكن القيام به فيما بعد. وبابتسامة ساخرة ينهض لينضم إليهم. لا يوجد شيء آخر نفعله، فقد انتهى الرجل الذي لاحقوه وماتت معه خلفيته.
إن مشاهدة هذه النسخة المستعادة تؤدي لفهم الفيلم أخيراً. القطع المفقودة تجسد الشخصيات. كل شيء موجود : لماذا يعرج بايك، وما مر بين بايك وثورنتون في الأيام الخوالي، ولماذا يبدو بايك معذباً بأفكاره وذكرياته. الآن، عندما نشاهد رايان، مثل ثورنتون جالساً خارج البوابة ويفكر، نعرف ما يتذكره. وهو ما يصنع كل الاختلاف في العالم.
تم تصوير الفيلم من قبل لوسيان بالارد، باللون الأحمر والذهبي والبني والظلال. وتم التحرير بواسطة لو لومباردو، إذ يستخدم الحركة البطيئة لجذب المشاهد العنيفة لتؤدي دور التأملات على نفسها. تم اختيار كل ممثل بشكل مثالي ليؤدي بالضبط ما يمكنه أن يلعبه، حتى الأدوار الصغيرة لا تحتاج إلى تفسير. ربما تم دمج روح بيكنباه في فيلمه الحزمة البرية. فهو مثلهم، كان شخصاً عفا عليه الزمن وعنيفاً ومتعثراً ومدمناً على الشرب مع الميزة التي يتفرد بها مع ذاته، فهو لم يتناسب بسهولة مع عالم السيارات الجديد واستوديوهات هوليوود.
كان سام بيكينباه (1925-1984) أحد أفراد مشاة البحرية الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، وتدرب في هوليوود تحت إشراف مدير الحركة دون سيجل، وفعل أكثر من أي شخص آخر لإدخال الغرب التقليدي في كآبة العصر الحديث الساخر والعبثي. لقد كان محارباً للأيقونات السينمائية لأفلام الويسترن، وعلى خلاف محتدم مع الاستوديوهات، وكان غالباً في حالة سكر، واختلف حتى مع ممثليه، لكنه حقق في “الحزمة البرية” و “أحضر لي رأس ألفريدو جارسيا” (1974) مزيجاً من الأسطورة الغربية والوجودية للبطل. يقول الناقد الأمريكي الشهير روجيه ايبرت عن بيكنباه (التقيت به مرتين، مرة في موقع تصوير “بات جاريت وبيلي ذا كيد” (1973)، ومرة في غرفة فندق عندما كان يقوم بجولة للترويج لفيلم “ألفريدو جارسيا”، والذي لم يكن يُنظر إليه على أنه الفيلم الرائع، وكان في المرتين قد بدا مرتعشاً، وكان لدي انطباع بعدم الراحة الذي لا يمكن السيطرة عليه تقريباً. من الواضح أنه كان مخموراً (في موقع التصوير في المكسيك، جلس على كرسي في الشمس، محمياً بمظلات وقبعة ونظارات داكنة، ونقل التعليمات إلى مساعده في الإخراج). لا يمكنني التظاهر بمعرفة ما كان يفكر فيه، لكني ألقي نظرة على الأفلام وأعتقد أنها تمثل حكاية مستمرة عن محترف يقوم بما يفعله بشكل جيد في مواجهة معاناته الشخصية والمهنية. بالتأكيد هذا هو موضوع “الحزمة البرية”).
*خاص بالموقع