وُلد الكاتب إميل ميهاي سيوران في رومانيا في 8 ابريل نيسان عام 1911 وهاجر إلى باريس عام 1937 واستقر فيها نهائياً حتى وفاته عام 1995، كتب أول أعماله بالرومانية لكنه هجرها للأبد بعد الحرب العالمية الثانية ليتحفنا بالفرنسية. قال عام 1990 في كتاب حوارات لصديقته سلفي غودو : “أن أكون رومانياً لعنة أتحملها اليوم”. ربما مقاس سيوران يأتي على المقاس السوري أيضاً.
السوري اللاجئ اليوم عبر بقوة عن روح سيوران خاصة في كتبه مثل “ملخص التعفن” عام 1947، و”أقيسة المرارة” عام 1952، و”إغواء العيش” عام 1956. وكأنه يعبر عن نبض مراحل تحولات السوري عندما كان في سوريا “ملخص التعفن” وعندما لجأ في دول الجوار “أقيسة المرارة” وعندما وصل لبر الأمان والاستقرار وإن كان غير متأكد بعد في أوروبا والأبعد فالأبعد في “إغواء العيش”. وكأن بهذا السوري يتنقل في جحيم دانتي ومرحلة المطهر والأعراف من جحيم لأعراف فجنة ربما.
ربما سيوران هو متشائم أصولي عكس إميل حبيبي وروايته “سعيد أبي النحس المتشائل” و”كانديد” فولتير، لكن السوري يبدو سيوراني أصيل، وكما سيوران المتسكع في هاينه (ضغينته) ليستعين على الحياة وهو المفكر في الموت ليقول في أقيسة المرارة : “لست أحيا لولا القدرة على أن أموت متى بدا لي ذلك مناسباً : كنت سأقتل نفسي لا محالة، منذ أمدٍ طويل، لولا فكرة “الانتحار”.”
الشخصية السورية في شذرات سيوران التشاؤمية :
شدتني مقولات سيوران وكأنها تتحدث إلي ولكل سوري، كأنها تجيب على الكثير من أسئلتنا وعقلية الإنسان الجثة أو الزومبي حيث يتحول السوري لمجرد جثة متحركة، لنتطابق مع سيوران المسترشد بمنارة شوبنهاور السوداء الذي أورثه عياء ساخراً من الحياة وخلاصاً ممكناً في موت خاص، كما كتب يوسف خديم الله، ليقول : “عاش سيوران طويلاً شاهداً وشهيداً متفرجاً ملتزماً (بماذا؟) على بريق انحطاط معمّم يراوح بين اعتقال الفرد وعقلنة المؤسسة”.
وهنا سأحاول عرض تلك الشذرات مع ما ينفثه في قلبي كمرجعية سورية :
ماذا تفعل؟
انتظرني.
ربما بهذه العبارة عبر سيوران عن انتظار غودو والعدمية العبثية التي نعيشها.
أشعر أنني خارج كل شيء، خارج ما نسميه “كلّ”
لابدّ أنّ قدراً تلبّس بي.
إنني مفتون وحبيس.
لكن من الذي يحبسني؟
فالسوري عالق مثل سيوران في اللا مكان واللا زمان، الغريبين عليه، يشعر ولازال يحلم بحواجز سوريا، ولازال جيل الصدمة بلا منازع، تماماً مثل جيل الحرب العالمية، تفتنه الدنيا والتحولات خارج مكانه لكنه لازال حبيس الهم السوري.
لا تخسر شيئاً، طالما أننا مستاؤون من أنفسنا.
مفهوم الخسارة لدى السوري مطاطي فهو لا يعلم بالضبط ما خسر، هل وطنه أم نفسه أم ذلك الاستياء البحي من كل شيء وفي أي شيء.
متعتي أن أرى الشمس تنفجر، تتشظى وتغيب إلى الأبد.
بأية لهفة وأيّ ارتياح أنتظر وأتأمل المغارب؟
عبر السوريون نهاية يناير 2022 عن فرحتهم لاستقبال نيزك في سماء اسطنبول وهم يدعون اللهم نيزك للأرض؟ وهذا الخلاص البشري الجماعي، هذه اللهفة السوداوية تعبر ليس عن العزلة فحسب بل عن أزمة الانسانية ذاتها في عصرنا الحالي.
إنني مندهش من الوقت الذي خصّصته للنحيب على كل شيء، وعلى نفسي بالخصوص.
غير أني عديم القيمة بدون هذا الوقت المبدّد.
النحيب السوري يبدو قدر مزمن لا يتوقف ولن يتوقف، يومياً نشهد على وسائل التواصل تلك الهلوسة الجماعية للنحيب، في الوقت الذي نشعر فيه بالعجز عن إيقافه، فنعيش الغضب لمجرد الغضب والسخرية المريرة لنشعر بأننا لا زلنا بشر.
من أنت؟
إنني الرجل الذي يزعجه كلّ شيء. أريد أن أترك لحالي وأن لا يُهتَمّ بي.
اجتهد أن لا أثير انتباه أحد
مع ذلك..
هذه الحالة عشناها في مرحلة ملخص التعفن السورية وعشناها كذلك في مرحلة أقيسة المرارة، بل ونعيشها في مرحلة إغواء العيش.
أعيش في الفنادق منذ خمس وعشرين سنة.
ذلك يتضمّن امتيازاً : لسنا مشدودين إلى أي مكان،
ولا نتسبّث بشيء.
عابرون.
احساس أن تكون في وضع تأهّب دائم وإدراك لحقيقة، كم هي مؤقتة!
فقد السوريون الانتماء للمكان، كما يغلب عليهم شعور عارم بالغربة في أي مكان سواء في وطنهم أو بالمنفى فالأمر بالنسبة لهم سيّان.
أمس،
في القطار العائد من “كومبانيا”
قبالتي، شابة (19 سنة؟) مع شاب.
أحاول مقاومة الاهتمام الذي يشدّني إلى الفتاة، إلى
فتنتها
لكي أتوصّل إلى ذلك، أتخيّلها ميتة، جثة قديمة.
عيناها، خداها، أنفاسها، شفتاها، كل ذلك في حالة
انحلال تامّ.
لا شيء كان كذلك فعلاً.
إنّ فتنتها المنبعثة منها تضغط عليّ دائماً.
هكذا هي معجزة الحياة!
هكذا يرى سيوران الموت في الحياة ذاتها، عندما تفقد تذوق الحياة في الحياة.
إن عجزي عن ممارسة الحياة لا يعادله سوى عجزي
عن تأمين القوت.
النقود لا تلائمني.
بلغت السابعة والأربعين دون أن تكون لي موارد
لا أستطيع التفكير في أيّ شيء بلغة المال.
أجوبة سيوران كثيرة على الهايينية السورية تجاه ذواتنا وتجاه العالم، فهي أسئلة لاهثة، ربما تجد أجوبة أحياناً وربما نشعر غالباً بحياتنا البوهيمية القلقة فإلى أين المستقر في عالم اللا جدوى المحيق بنا؟