يقول الصحفي والكاتب الفرنسي لويس باولز وهو من ألف مع جاك بيرجييه أحد أهم الكتب في القرن العشرين عام 1960 والمعروف بعنوان “صباح السحرة” لم لا وهو أحد عمودي الواقعية الرائعة والساحر العظيم وفي كتاب له صدر عام 1978 عن مقولات الحياة تعلم الصفاء بأن هناك أربعة أنواع من القراءة وهي :
قراءة الإلهاء (الهروب بكافة أنواعه)
وقراءة الاكتساب (المعرفة)
وقراءة النقل (الروايات العظيمة)
والقراءة العلوية (الفكر والفلسفة والحكمة والروحانيات)
وفعلياً البشر بحاجة لجميع هذه الأغذية السحرية، ربما نكرس من وقتنا لقراءة رواية فتشدنا إلى عوالمها ونعيش فيها وبنهم ولكن سنشعر بالفقدان مع آخر سطر، رغم الشعور الغامر بأن ما قرأته غمرك وأخذك بعيداً وأنعشك روحياً، وكأن الكتاب اختارك وعلمك كيف تتعامل مع الحياة، وعندما تنتهي منه تشعر بالخسارة إلى حد الحداد، وهذا الأمر ينسحب أحياناً على الأفلام العظيمة والدراما العظيمة وحتى المولعين بكرة القدم لدى نهاية المونديال يشعرون بنوع من الفقد مثلي، والتفكير بأنه كيف علينا أن نكرر هذا الشعور العظيم وأن نكرر ذات التجربة بتجربة أخرى.
أعود هنا للعبقري الساحر لويس باولز بأنه لا يمكن للجسد تلقي نوع واحد من الغذاء والغذاء في الأصل متنوع فهناك لدى صيامنا كل عام من رمضان، والصيام صحة لا مثيل لها بالمناسبة لقتل خلايا الزومبي التي تسبب هرم الجسد ووقاية عظيمة، فعندما نصوم ونصل لفترة الإفطار علينا توخي الحذر بأن نأكل ونشرب بتروي وأن نبقي لمعدتنا بقية أنفاس بين الطعام ربما سأصفه هنا الصلب والسائل والنفس، فلا يمكننا التخلي عن أي عنصر من الثلاثة، وهكذا علينا في القراءة لنتغذى روحياً أن يكون في جعبتنا كتب تعبر عن قراءة الإلهاء، هكذا خبط عشواء حتى لو كان في الطبخ، ذات مرة علقت في وصفات المطبخ الياباني وقررت أنا وأصدقائي تجربة ذلك ورغم عدم توفر الطعام الياباني بدمشق مثل أعشاب البحر وأنواع من الأسماك قررنا التقليد والبحث عن بدائل، وكانت تجربة غريبة وممتعة بذات الوقت، وعلينا أيضاً بقراءة الاكتساب ربما علينا الصبر عليها أو مجبرين على قراءتها لإتمام بنائنا المعرفي مثل الكتب الجامعية والمقررات في عالم اللسانيات بالنسبة لي على الأقل وقواعد اللغة الجافة والكثيفة والدقيقة لابتلاع لغة غريبة علينا وتطبيقها، وهناك قراءة الروايات أو ما تسمى النقل حيث تنتقل ثقافة الآخر وخاصة الأعمال العظيمة إلينا وتتلبسنا حتى في اللاوعي الخاص بنا ويصبح لها حيز في ذاكرتنا، مثل قراءاتي لعزيز نيسن وتخيلي للأماكن التي وصفها في اسطنبول وشوارع اسطنبول لدى إليف شفق، وقصر فيرساي ونوتردام هوغو ومشرد في باريس ولندن لأورويل ومزرعة الخنازير و1984، أيضاً في القراءة العلوية ستجد الفلسفة والفكر عبر العصور وهل هناك من هو أجمل من قراءة هشام الجعيط أو أمين معلوف في متبه الفكرية وقضايا أوروبا الحداثية ومابعد الاستقلال والوطنية واليمين المتطرف الصاعد والفكر الليبرالي واليسار المناهض للإمبريالية وغيرها الكثير الكثير عدا الروحانيات والأديان والحكمة.
بكل بساطة يوصي عالم البيبليوثولوجيا غويدو فيتييلو بأنه علينا أن نحمل معنا هذه الأنواع الأربعة من الكتب فكما نغير الطعام خلال تناول وجباتنا فعلينا تغيير قراءاتنا والتحول من جنس إلى آخر حسب الحالة النفسية أو الغريزية أو الشهية دون حمية غذائية أو نظام غذائي معقد.
بكل بساطة هذه تعويذتي السحرية أيضاً في القراءة فمنذ أيام تنقلت بين مجموعة شعرية لغياث المدهون الذي يعتبر نفسه كاتب أحادي الثقافة رغم ترجمة أعماله الجميلة لعدة لغات وهو كاتب يمتهن الهوية والثقافة العربية على عكسي متعدد الثقافات والهويات، ورحلة لطبيب ومستكشف فرنسي لجبال العلويين في سوريا بالقرن التاسع عشر وألهمني لكتابة مقالة عن عادة رمي الجريد بمعلومات كنت أمني النفس بالحصول عليها ثم لأنتقل إلى عبد الرحمن منيف والبدء بغزو مدن الملح ومن ثم روايات أجاثا كريستي وأحجياتها البوليسية ولكن من خلال مسلسل عن محققها الأشهر في رواياتها بوارو وفي علم الفلك غصت بعالم العواصف الشمسية وحكاية أقوى عاصفة شمسية مرت على الأرض ووصفها وعن حياة أينشتاين ومقياس ذكائه ونظرياته النسبية الخاصة والعامة والأوتار الكونية واكتشافاته للضوء والجسيمات والفوتونات والترانزستور، هذا ببساطة نسميه شغف القراءة فلا نقف عند قراءة النقل ولا الاكتساب ولا الإلهاء ولا القراءة العلوية بل نحمل قراءاتنا الأربع مع بعضها سوية.