عندما كتبت ديوان النبش والهذيان عام 2007، والذي منع نشره اتحاد الكتاب العرب عام 2010، ولا أعلم ما الغباء الذي حدى بي أن أتقدم لاتحاد الكتاب العرب بدمشق للحصول على إذنه وترخيصه، وكان أهم ما في تلك المجموعة قصيدتي الأولى والتي أتت على ذات عنوان الديوان “النبش والهذيان” وكيف لي تخيل عالم موحش يدمر البشر والحجر، هذا الحلم-النبوءة الذي كتبته عشته بحذافيره، وبذات الوقت أسأل نفسي كل يوم كيف لي تخيل “حفار القبور” في وطني، وكيف لي تخيل المصور “قيصر” قبل سنوات على ثورة 2011، وقد رأيت الجثث المرمية بداية الثورة في الطريق إلى دمشق واستعراض الجثث في متحف الموتى المسمى سورية وأن تحيا رواية 1984 الديستوبية التي عشتها من قبل خلال طفولتي حيث الخوف في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وكأننا عبارة عن “حيوانات زجاجية” تنظر بشكل حيادي للموت وكأنه لا ينتمي لنا ولا ننتمي له.
كنت أعيش أرض الألم بحذافيرها، أعيش مقتلة قوم موسى بحذافيرها على يد فرعون زمنهم، وتلك الإبادة القائمة على العرق أو الدين أو الطائفة، وبذات الوقت عشت إبادة العراق المجاور و”حفل شواء شعبه” عام 2003 وقبلها مقتلة الشعب اللبناني وصبرا وشاتيلا التي عشعشت بذاكرتي الطفولية، وحكايات تل الزعتر حتى قبل أن أولد. كنت أستغرب كيف عشنا على أرض الخوف نخدع أنفسنا بأننا بمنأى عن كل ذلك وأحاديث كبار السن عن جمهورية الصمت أمام هول حماة ومجزرة سجن تدمر وتجاوزات جيش النظام في لبنان وسرايا الصراع الطائفية في دمشق، كان غول الخوف يأكل صدورنا.
لتنتقل أهوال الموت إلينا بعد 2011، وكيف لنا تحمل رؤية طفل أمام أعيننا وقد تقطعت أوصاله في تفجير بجديدة عرطوز تجمع النازحين ومجزرة عيد الجيش 2012 ومجزرة عيد الاستقلال عام 2013 والتي سميت مجزرة جديدة الفضل، لا أعلم ربما نجوت بسبب خطأ قذيفة قصفت منزلي وأنا فيه فخرجت حياً وربما لأنني وأنا أتجول في أرض الألم لأشهد بأم عيني دمار المعضمية وداريا خلال خروجاتي على قلتها للمزة حيث وظيفتي ومسرح الألم يرافقني ويمنحني المزيد من مشاعر العجز وجثث تنتفخ مع الأيام ربما يغطيها أحدهم أو امرأة تنزف حتى الموت ولا يمكنك النزول عن عربتك حتى لتصبح هدف قناص الفرقة الرابعة على أتستراد الموت المعضمية أو جثامين شبان تمت تصفيتهم بدم بارد، تراهم خلف الباب عند قطاعة حديد جانب حاجز أول السومرية، أو الدمار المهول وكأنك تشهد هيروشيما أمام عينيك عندما تمر بدوار البطيخة في الميدان وترى مخيم اليرموك عبارة عن تلال من الركام ولك أن تتخيل الناس المحاصرة جوعاً داخله. في عالم طريق الجلجلة هذا عشنا لأعوام طويلة، رغم مقاومتنا له بشكل أو بآخر.
ومؤخراً صدر الفيلم الوثائقي الفرنسي “الأرواح الضائعة” للصحفية الفرنسية غارانس لاكيسن وزميلها ستيفان مالتير، وقد تحدث الفيلم عن الشاهد الملك المصور الشهير “القيصر” الذي تحدث عن قصته من البداية وكيف كان عمله كمصور للقضايا الجنائية العسكرية من قتل وانتحار وغيرها ثم تحول لذلك الشاهد على جرائم الأسد بعد الثورة، وعن دعاوى سوريين ضد نظام الأسد في المحاكم الأوروبية لمحاسبة المتورطين في قضايا التعذيب في ظل نظام مافيوي يهرول عليه العرب للتطبيع معه مؤخراً وخاصة الأنظمة المعادية للربيع العربي، ويشكل هذا الفيلم نقلة في وقتها الحالي، والتي تزامنت مع مسلسل ابتسم أيها الجنرال لسامر رضوان.
في النهاية كل هذه الأهوال تعيدني لقصيدتي الكابوس التي وصفت فيها حالنا الفعلية حتى قبل أن نقول كلمة حرية :
النبش والهذيان
نبش الذئاب تراب مقبرتي
وأخرجوني الى مسلخ الوحوش
طوقوني…
صلبوني…
مددوني…
كمجرفة سحقت فؤادي
في مشهدية الهذيان
رقص العفاريت على جثتي
ودقوا الطبول طربا لآهتي
وحلقوا كالرياح حولي
وكأنني قبلة الجنون
في مشهدية الهذيان
اجتمع الهواة والمحترفين عندي
وعقدوا طاولتهم المستديرة على قلبي
وتطرقوا لقضيتي ولمحوا
وتصارعوا كالثيران
ليعزفوا بساحة شمسي
وزقاق البحر حولي
في مشهدية الهذيان
تحاجر الغلمان
وأطلقوا جماح خوفهم
في بلاد روحها الفزع والاغراء
وبضربة مباغتة نفرت دمائي
أمام شاشة الغيلان
في مشهدية الهذيان
لم أثر
لم أنعدم
لم أقل أن فروع الحياة عندي
والخيال المتناقض يحذفني
وكأنني افتراضي الوجود
أزول لخطيئة في كسرة أو همزة
في مشهدية الهذيان
أنتمي ؟!
نعم أنتمي
ونون التوكيد مني
وحرف الياء
لم تتبعثر نبرات حبري
ولم تتعثر لغة براءتي
ولم تتقيأ على صفحة الأيام
في مشهدية الهذيان
أتنفس..؟!
نعم أتنفس…
وأقلب كلماتي وأحرق بعضها
على ناري الهادئة
ضاحكا من أركيلة مسرورة
قابعة بين كؤوس الشاي
والكمون والزهورات
تتأمل بقايا ربيعنا المرتبك
وكأننا قطع أثرية
خلف الجامع الأموي
وفي تلك القهوة…
وفي مشهدية الغثيان
أرتجف…!؟
نعم أرتجف من محيطي الحيوي
وغابات العالم القطبية
تستنزف طبقة الأوزون
الجالسة في أعلى جمجمتي
لترميني كضربة شمس
ممزوجة بالسحايا
في مشهدية الغثيان
مرارة…؟!
نعم هي المرارة نتذوقها
ونتسلى بها
ونطير معها على أجنحة الأيام
بحجة غياب اللوعة
وتفاصيل الدموع الموجعة
وهواجس ابريق الشاي
في مشهدية الغثيان
سودوكو…؟!
نعم نحن أرقام بخانات
قد نخطئ حسابها…
قد نصحح مسارها
مع أنها جنسية أخرى
تضاف الى فداحة الأوطان
وتقنية رفيعة
كرفاعة أرض عشتار المهشمة
في بصيرة وأخلاق الطغاة
في مشهدية الهذيان
أجوف…؟!
نعم أجوف…
شعاراتي وأشعاري
وحتى قصيدتي الوطنية
وقضية فلسطين
وضوء دعوتي يخبو
أمام حركة الأضداد
ورائحة العنفوان العفنة
تتسلق جدران البكاء
في مشهدية الهذيان
أحوم…؟!
نعم أحوم…
لا أعرف متى أهبط بسلام
ولا متى أعود إلى التحليق
وأنا معلق لا أعرف مصيري
فاقد البصر الانفصامي
والسكان لايزالون كالعطور المهددة بالانقراض
فان زاد عددهم أو نقص
فلا أدوية الانهيار تكفينا بكاءا
ولا شظايا أجسادنا سيتاح لها
أن تشهد على…
مشهدية الهذيان
وروع الغثيان
*خاص بالموقع