أعيش خارج سوريا منذ صيف عام 2014، أيّ منذ سبع سنوات، قضيت منها عامين في بيروت والباقي في برلين. الغريب في الأمر، أنّني، وخلال هذه المدة، لم أشعر ولا للحظة واحدة بأنّني منفي، ولم تخطر على بالي عبارة المنفى إطلاقًا، إلا حين سُئلت عنها في أحد الحوارات.
لكن، ومع تكاثر الأسئلة وطول الإقامة في هذا الخارج الذي يسمّونه منفى، بدأت المفردة تتسلل إلى تفكيري، ليس من خلال السياق الذي طالما قدّمه وطرحه السائلون، أو بفعل وطأة المنفى الدائمة أو الشعور به بطبيعة الحال، إنّما من خلال سياق آخر مختلف تمامًا؛ سياق تفرضه أسئلة مضادة للأرضيّة الصلبة التي تنطلق منها فكرة المنفى عند السائلين، أو تلك التي يشعر بوطأتها المنفيون، أو من يشعرون بأنفسهم منفيين، وهي أسئلة تعيد النظر جذريًا في مبنى ومعنى المنفى في عالم اليوم، عالم العولمة والعوالم المفتوحة والمتدفقة عبر الفضاءات الإلكترونيّة والشاشات الصغيرة والتكنولوجيا المتقدمة التي تفعل فعلها وتغيّر شكل وطبيعة حياتنا يومًا بعد يوم، بحيث تغدو حتى مشكلة التباعد اللغوي بين البشر (إن صح التعبير) مسألة قابلة للحل من خلال توفير خاصيّات الترجمة المباشرة في بعض المنصات، وهو أمر يجري التطور به بأسرع ممّا اعتقدنا، ممّا سيكون له آثار كبيرة في عالم الغد (تخيّلوا عالمًا لا يضطر فيه البشر لتعلّم اللغات، لأنّ الآلة ستكون قادرة على توفير ذلك، وانعكاس ذلك على مسائل اللغة التي طالما لعبت دورًا محوريًا في تأسيس القوميّات والهويّات والأوطان، ناهيكم عن مسائل أخرى مثل الحدود والرقابة والدولة)
أسئلة المنفى
إذن، عاد المنفى لي، من بوابة فكريّة/ فلسفيّة لم يغب عنها الحدث السوري المفتوح يوميًا، ليطرح على ذهني الكثير من الأسئلة، منها: من المنفيّ حقًا: أنا الموجود في برلين اليوم أم ذاك المحاصر داخل حدود “الوطن” في سوريا (أو في أيّ من بلدان/ أوطان الدكتاتوريّة السعيدة)، بلا ماء أو كهرباء، وفي ظل الخوف والتهديد اليومي وغياب أبسط مقومات الحياة البشريّة من حق الانتخاب والمواطنة والسفر والوصول للمعلومة والتعلّيم والصحة؟ من يعيش المنفى حقًا، ذلك المواطن الذي يعيش اليوم في دكتاتوريّة الأسد أو دكتاتوريّة كوريا الشماليّة أم نحن الذين نعيش في “المنافي”؟ وما هو المنفى أساسًا؟ بل ما هو الوطن؟ ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ هل الوطن هو البلاد التي نولد فيها ونتعلم لغتها ثم تأخذ منّا كلّ شيء أم هو البلاد التي تقدم لنا كلّ شيء بعيدًا عن مكان ولادتنا، بما في ذلك جنسيتها وجواز سفرها؟
إذا كان الأمر كذلك، ما علاقتنا مع المكان الذي نولد فيه؟ لم نرتبط به ويكاد الشوق يقتلنا حنينًا إليه أحيانًا؟ ما الذي تبقى أساسًا من فكرة المنفى في ظلّ العولمة وقدرة الاتصالات والتكنولوجيا على جعلنا في تواصل دائم ومباشر مع كلّ من نحب، وفي أيّ مكان، خلال دقيقة واحدة؟
تحولات المنفى/ الوطن
فكرتي عن المنفى وعلاقتي به، لا يمكن فصلها عن فكرتي عن الوطن وعلاقتي به، فكلاهما تطوّر وتغيّر مع مرور الزمن، فهما على علاقة عكسيّة (ليس دائمًا وعلى طول الخط)، فكل تطوّر أو تغيّر في فكرتي عن أحدهما، تكون بالضرورة على حساب التطوّر والتغير في فكرتي عن الأخرى، وهذا لا يمكن فهمه إلا من خلال مسار زمني، هو سيرة حياة المفاهيم والأفكار في أذهاننا، والتي تتصادم وتتقاطع وتتشكل وتتغير على ضوء سيرة حياة المفاهيم والأفكار في العالم الأوسع الذي نعيش به، فكما أنّ معنى المنفى في وعيي اليوم ليس هو نفسه حين كنت شابًا في العشرين من العمر، فإنّ معنى المنفى (كفكرة ومفهوم) على الصعيد العالمي، ليس هو نفسه الذي كان عليه قبل خمسين عامًا، في أو اللحظة التي وُلدت فيه مفردة المنفى في هذا العالم المعجون بالأسى والآلام.
ثمّة حياة طويلة عاشها هذا المفهوم ولايزال، ويبدو أنه سيكون من المفاهيم المعمّرة في تاريخ الفكر البشري، طالما أنّ هذا الكائن المسمّى بالإنسان، لم يجد طريقة غير الحروب والاستغلال لحل مشاكله مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر إنسانًا أو حيوانًا أو طبيعةً أو كونًا شاسعًا، نعمل ما بوسعنا لتطويعه وإخضاعه.
“أوراق المنفى” كان أول كتاب قرأته عن المنفى، وهو للكاتب السوري والروائي المعروف، حيدر حيدر، يحكي فيه تجربته في المنفى والكتابة والحياة. اليوم وبعد أكثر من عشرين عامًا على قراءتي لهذا الكتاب، يعيش حيدر حيدر في البلاد بعد أن عاد إليها قبل عقود طويلة، في حين غادرت أنا البلاد إلى ما يطلق عليه الآخرون اسم المنفى.
المفارقة أنّ حيدر حيدر عاد إلى بلاده قبل أن تسقط الدكتاتوريّة وها هو يعيش في ظلّها في قرية نائية ومنفيّة هي الأخرى على الساحل السوري، والغريب أيضًا أنّنا لم نسمع كلمة واحدة للروائي الشهير حول ما يحصل في بلاده/نا. هل هذا ثمن العودة إلى ما يسمّى “البلاد”؟
لا تهدف هذه الكلمات أبدًا إلى محاكمة الروائي أو مواقفه، بقدر ما تحاول تسليط الضوء على سؤال: ما الذي يحكم خياراتنا بالعودة؟ لم يجب أن نعود أساسًا؟ خاصة أنّ حيدر لم يكن الوحيد الذي عاد من منفيي الثمانينات، فهناك من عاد وما زال ينخرط في السياسة بكل ما للكلمة من معنى.
ثمّة سؤال آخر يراودني: بما يختلف منفانا اليوم عن المنفى الذي عاشه ذلك الجيل من المنفيين؟ وهل قدرنا محكوم بالعودة مثلهم أم أنّنا سنسلك خيار آخرين، قرّروا عدم العودة نهائيًا؟
حين قرأتُ كتاب حيدر حيدر في ذلك الزمن، كانت فكرتي عن المنفى رومانسيّة وكذلك فكرتي عن الوطن. فأنا حتى قبل شهر من مغادرتي البلاد، لم أكن أفكر بالخروج والمغادرة نهائيًا، ولم تغرني يومًا فكرة الهجرة أو العيش خارج دمشق التي أحب وأعشق، وإن كنت قد أحببتُ السفر دائمًا. كانت هندسة حياتي تقوم على الاستقرار في دمشق والسفر كلّ عام مرتين أو ثلاث إلى بلدان أحبها، ثم العودة إلى دمشق للعمل والعيش والكتابة والاستقرار الأبدي. لكن وخلال مسار ما، وبدءًا من نقطة محدّدة يصعب تحديدها، بدأت معرفتي، ربما بفعل القراءة والملاحظة والمعايشة، تتوسع وتتنامى حول تلك البلاد التي نعيش فيها، حيث بدأتُ أدرك تدريجيًا أنّ هذا الذي يسمّى وطنًا، ليس أكثر من سجن كبير يبتلع الناس لسنوات طويلة في زنازين تمسك بمفاتيحها طغمة حاكمة تسرق كلّ شيء، بدءًا من الثروة وليس انتهاء بحريّة الكلام والنقد والكتابة.
كوني اخترت الكتابة والصحافة مهنة لي، كان احتكاكي اليومي مع الممنوعات التي لا يمكن الكتابة عنها في الوطن يوميّة، بما كان يعرّي يومًا بعد يوم فكرة الوطن في مخيلتي. هكذا انتقل الوطن من المكان المشتهى والمرغوب والجميل إلى المكان الصعب والضيق والموحش، لكن مع إصرار على البقاء فيه والعمل من داخله لتوسيع مساحات الحريّة وزراعة الأمل في تربته القاحلة.
مقابل ذلك، كان المنفى في وعيي وذاكرتي ذلك المكان الموحش والبعيد والغريب الذي يضطر الملاحقون والمنفيون والمعارضون لسلوكه هربًا من بطش أو اعتقال أو تصفية، يقتلهم حنين يومي لوطن مفتقد وأسرة وفضاء يألفونه ويألفهم، حنين نقرؤه في كتاباتهم ومقالاتهم المهرّبة إلى الوطن، ما جعل فكرة المنفى تبدو منذ البداية بالنسبة لي مغرية مُنفرة في آن، مغرية لتجربةِ ورؤية الحرية التي يتحدث عنها هؤلاء المنفيون، ومنفرة لأنّها حنين وابتعاد عن الوطن وتجربة فقد موجعة.
تحولات المنفى والوطن على ضوء الثورة
مع اندلاع الثورة السوريّة، بدأ العالم كلّه يتغيّر من حولنا، إذ بدا لنا في الأشهر الأولى من الثورة أنّ سوريا هي العالم كلّه، من في المنفى استعدوا للعودة ومن في الداخل تشبّثوا بالبقاء، آملين في أن يروا لحظة سطوع الحريّة على بلاد الاستبداد. ولكن رويدًا رويدًا، ومع تعثّر مسارات الثورة وهربًا من عنف وحشيّ واعتقالات مُوجعة، بدأ يحدث نزوح في الاتجاه المعاكس، بحثًا عن أمان مؤقت في دول الجوار، ريثما تسقط الدكتاتوريّة.
لم يخطر في بال أيّ ممن غادروا بين عامي 2011 و2013 على الأقل، أنّ المقام سيطول بهم في المنفى الذي تحّول اليوم من مكان مؤقت إلى مكان دائم، بل بات البحث الشاغل للجميع اليوم هو البحث عن منفى دائم للاستقرار؟ هل قلت منفى للاستقرار؟ هل تتطابق هاتان الكلمتان، أليس المنفى مؤقتًا بطبعه، مهما طال بنا زمن المكوث به؟
بدوري، اضطررت للخروج من سوريا في صيف العام 2014، بعد طول عناد وتشبث بالبقاء، إلى درجة أنّه في ذلك الوقت، حين كان يسألني الأصدقاء الذين ولجوا رحلة المنفى: متى تغادر؟ كنت أجيبهم: إلى أين؟
فعلًا لم تكن حينها، فكرة مغادرة دمشق رغم كلّ مخاطر البقاء وصعوبة العيش تخطر على بالي. الآن إذ أستعيد تلك اللحظات، أتذكر أنّه حتى بداية شهر حزيران من العام 2014 لم أكن أفكر بالمغادرة، وفجأة خلال شهر واحد، تغيّر قراري وقررت الرحيل؟ لم فعلت هذا وكيف؟
على المستوى الأول، اعتقدتُ حينها، أنّ رؤيتي للشبيحة وعناصر النظام في شوارع دمشق بعد “انتخابات” عام 2014 وهم يتصرفون بثقة وعنجهيّة المنتصر، قد لعبت دورًا حاسمًا في تغيير قراري. ابتساماتهم الهازئة والمتحديّة، سحبت مني ما تبقى من أمل وقدرة على الصمود وإمكانيّة للتغيير من الداخل. الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، أتذكرُ لقائي بطبيب سوري فلسطيني يعيش في ألمانيا منذ ثلاثة عقود على الأقل. أخبرني أنه قرّر مغادرة سوريا في ثمانينيات القرن الماضي بعد احتكاكه مع عناصر أمن، أسمعوه كلامًا مهينًا. شعر الرجل حينها أنّ كرامته مهانة وأنّه محاصر بسؤال: هل سأقضي بقيّة حياتي أنحني لمثل هؤلاء؟ وحين أجاب على هذا السؤال قرّر المغادرة دون ندم، ولم يندم حتى اليوم.
الآن، وأنا أتأمل سبب مغادرتي البلاد وحكاية هذا الطبيب، أتساءل: متى يتخذ أحدنا قرار مغادرة البلد؟ أحين تمس كرامته ويصبح غير قادر على الاحتمال؟ ولكن ما هو حدّ الكرامة هذا؟ من يحدّده؟ هل هو واحد أم مُختَلف عليه بين شخص وأخر؟ وهل حقًا غادرت البلد بسبب استنفاد مقاومتي؟ هل كانت رؤيتي لجنود النظام مزهوين “بانتصارهم” هي السبب في اتخاذ قراري؟
حين أعيد ترتيب الأمور، وأنظر إلى الخلف بهدوء أكثر، أشعر أنّ رؤيتي للجنود المدججين بعجرفتهم لم تكن إلّا “القشّة التي قصمت ظهر البعير”، لأنّه، وعلى الرغم من عنادي الظاهري، فقد نما القرار في نقطة ما من تربة روحي بالتدريج، تحت ضغط الخوف من الاعتقال للمرة الثانية وترغيب الأصدقاء وصعوبات العيش اليوميّة. قد يكون القرار قد نما بشكل غير مرئي كعشبة تنمو في الظلّ وعلى مهل، تحت فيء ادعاء الشجاعة والصمود والرغبة في البقاء في وطن لم يعد من الممكن العيش فيه. ربما يكون هذا، وربما لا، إذ ربما أكون فعلًا قد اتخذت قراري في غضون شهر واحد وقرّرت الخروج، وإن كنت أشك في ذلك الآن.
اكتشاف المنفى
حين وصلت بيروت صيف العام 2014، لم أشعر بأيّ عارضٍ من أعراض المنفى: لا حنين، ولا شوق، ولا رغبة بالعودة أساسًا. لم يكن هناك منغصات في حياتي، سوى عبارة واحدة قالتها أمي على الهاتف “رحت وتركتنا لحالنا”، ثم بعض الشوق والحنين إلى أماكني في دمشق: مقهى الروضة، الصالحية، باب توما، أزقة جرمانا وضوضائها… ما عدا ذلك، انغماس لذيذ وسريع في المكان الجديد واكتشاف تدريجي لفكرة أنّ المنفى في الحقيقة أفضل من الوطن، وأنّ الوطن هو المنفى لا العكس، في تبادل أدوار مرعب ومخيف. لكن: كيف حصل هذا؟
في بيروت، بدأتُ أقرأ وأعثر على كلّ الكتب الممنوعة، أقرأ أيّة صحيفة أشاء، في الوقت الذي أشاء، أكتب ما أشاء، أتناقش في المقهى مع الأصدقاء حول كلّ شيء، أشتم النظام وحلفاءه دون خوف، الخ. غاب الرقيب الذي كان يسكن داخلي، ومع غيابه بدأ وعيي ونظرتي للأمور نفسها تتغير، بدأتُ أرى أمورًا كثيرة من زوايا متعدّدة، تراجعتُ عن بعض الأمور التي كنتُ أتمسك بها حين كنت في الداخل، راجعت مواقفي ورؤاي على ضوء تحولاتي ومعارفي الجديدة، لأتوصل إلى اكتشاف أنّ المنفى في حقيقة الأمر ساهم في توسيع رؤاي وأفقي وتفكيري، وأنّني بالتأكيد لو بقيت في الداخل لبقيت فقيرًا معرفيًا وفكريًا.
اكتشفتُ أيضًا مدى قدرة الاستبداد على الضغط على التفكير وحدّ القدرة على التطور حتى بالنسبة إلى خصومه ومعارضيه، فأن تعيش في ظلّ الخوف والقلق اليومي، يعني أن تستنزف طاقتك في شؤون الحياة اليوميّة والخوف ومراقبة ذاتك وكلماتك حتى حين تدّعي عكس ذلك، وأن تكون قدرتك للوصول إلى منابع المعرفة وما يحدث في العالم محدودة بقدر ما، مهما حاولت أو امتلكت من القدرات، بما يعني في النهاية أنّ الاستبداد قادر على وضع حدود للإطار الفكري الذي يمكن لعقولنا التحرك ضمنه مهما ادعينا انعتاقنا منه.
اكتشافي هذا، قادني إلى النظر أيضًا بعين نقديّة إلى بيروت التي نزلت من سماء أسطورتها إلى وحل الواقع، بتناقضاتها وهشاشتها، قبحها وجمالها، عريها وحجابها، مدنيتها وطائفيتها، تعدديتها وضيقها… كانت بيروت في خيالنا هي المدينة الحلم، الأسطورة، الحريّة، الشهيّة، المرغوبة. ومع العيش فيها، رأيت وجهها الآخر، السلبي، المُوحش والضيق،… والغريب أنّ هذا لم يُنقص من حبي لهذه المدينة، إذ بقيت بالنسبة لي بيروت الجميلة والدافئة، المدينة التي لا تشبه شيئًا سوى نفسها. أليس الجمال في نقصانه لا اكتماله وكماله؟
التحوّل الأكبر في علاقتي مع المنفى كان في برلين، فإذا كانت بيروت مدينة عالميّة على مستوى إقليمي، فإنّ مدن مثل برلين حيث أعيش الآن وباريس التي أحب، هي مدن عالميّة بامتياز، مدن تجعلك تنظر إلى دمشق وبيروت من موقع عالمي آخر، فتبدأ على ضوء ذلك امتحان أسئلتك ومعرفتك على ضوء وعيك الجديد وتجربتك الجديدة، تعيد اكتشاف المنفى والوطن من جديد، لتصل إلى اكتشاف مدهش آخر، هو أنّ المدن لم تعد أكثر من قرى كبيرة في هذا العالم الواسع والممتد من شمال الكرة الأرضيّة إلى جنوبها. يتعزز لديك هذا الشعور مع إطلالتك على مشاكل عالميّة كبرى، ورؤيتها من مواقع أخرى، مشاكل مثل الاحتباس الحراري، تدفق المهاجرين، البيئة، صعود اليمين الغربي، التطرف الإسلامي، كورونا… كلّها مسائل عالميّة تُرخي بثقلها على قضايا الكوكب بأسره، تقرأ قضايا منطقتك وصراعك مع الدكتاتوريّة في بلدك وبلدان الشرق الأوسط في توازي مع هذه القضايا وعلى ضوئها، وذلك بعد أن كانت مقارعة الاستبداد هي قضيتك الوحيدة في “الوطن”، القضيّة التي تنظر للعالم كلّه من خلالها، في حين أنّك اليوم ترى قضيتك ضمن قضايا العالم ككلّ، وتعيد التفكير بها ضمن هذا الإطار. ومن هذا المعيار بالذات تعيد اكتشاف المنفى والوطن من جديد، وتصطدم بالأسئلة إياها مجددًا، إنّما من موقع آخر: أيهما حقًا المنفيّ، أنا الذي يسافر إلى كلّ مكان ويقرأ كلّ شيء أم صديقي المسجون داخل حدود وطنه؟ أيهما المنفيّ، أنا القادر على توسيع مدارك وعيي باستمرار أم ذلك الذي تحاصر السلطات المستبدة وعيه وتقيّد قدرته على الوصول إلى المعلومة والتفاعل مع الآخرين، بالتالي تتحكم في صناعة وعيه وعقله؟ ما الذي تبقى من فكرة المنفى في الوقت الذي يتدفق فيه أهل الجنوب بأكمله نحو الشمال، هربًا من أوطان لا تقدم إلّا السجون؟ وأيّ منفى أو حنين يداعبنا اليوم في الوقت الذي نقدر أن نتواصل به مع من نحب، لحظة نشاء؟
ضمن هذا السياق، لا أشعر اليوم بوطأة المنفى إطلاقًا، أشعر بنفسي مواطنًا عالميًا، يستطيع العيش في كلّ مكان وأيّ مكان. هذه الكرة الأرضيّة هي وطني الآن، وأنا معنيّ بكلّ مشاكلها وهمومها العالميّة، أعيش اليوم في برلين، وقد أعيش غدًا في باريس أو الخرطوم أو كيب تاون أو حتى دمشق، ولكن ليس لأنّها مدينة من المكان الذي ولدتُ فيه، بقدر ما أني اخترت العيش فيها بإرادتي ولأنّني أحبُّ العيش فيها، ليس إلّا.
أساسًا، ألم يكن العالم هكذا قبل ولادة مفهوم الدولة بحدودها الغبيّة؟ ألم يكن بإمكان الرحّالة قبل مئتي سنة أن يركبوا جمالهم أو سفنهم وينطلقوا لاكتشاف أماكن جديدة، دون أن تعيقهم أيّة حدود؟ هل يمكن أن يعود العالم كما كان؟ هل نتخيل عالمًا بلا حدود؟ عالم يكون بأكمله وطنًا لنا؟ عالمٌ تصبح فيه مفردات مثل سوري وألماني وفرنسي وجنوب إفريقي وأوروبي مجرد إحالات لأماكن معينة على هذا المركب البشري الواسع؟ ماذا يبقى من فكرة المنفى حينها؟ هل نحن اليوم في منتصف الطريق نحو عالم كهذا؟ أم أنّنا نرتد رجوعًا؟
العالم وطنًا… وداعًا للمنفى
(حكاية ما انحكت)