عن “دار موزاييك للدراسات والنشر” في تركيا، صدرت الطبعة الجديدة لكتاب “بلاغة المكان” للشاعر السوري علي سفر، بعد أكثر من 25 سنة على صدور طبعته الأولى، وهو يتضمن نصوصاً كتبت عن دمشق ونواحيها في بداية التسعينات، وتنحاز إلى المكان من خلال الرهان على اللغة، كبعد جمالي من جهة، ومن جهة أخرى كطريقة للهروب من شبح الخوف والقمع الذي كانت تمارسه السلطة البعثية في زمن الاسد الأب، وفي ثنايا الكلمات كانت الاحلام بالتغيير… جاء في مقدمة الكتاب التي كتبها الروائي السوري ابراهيم الجبين “حين صدر هذا الكتاب أول مرة في العام 1994، بلون ترابي ناصع، وغلاف رهيف بكرسي وحيد نحيل رسمه يوسف عبدلكي، كان جيلنا الشعري في سوريا يواجه أقداره الجديدة بعد منعطف ثمانينات القرن العشرين، تلك العشرية الباردة اللاهبة في الوقت ذاته. سنوات ثقيلة لم يكن أمام أصحاب التجارب الشعرية السورية، آناءها، إلا أن يجعلوا منها أكثر من مختبر، ليس للمزيد من القراءة وحدها، ولكن أيضاً لمكابدة الصمت”…
هنا دردشة مع علي سفر.
-لماذا اخترت “بلاغة المكان” عنواناً للكتاب، وليس دمشق؟
– في البداية، وبعد أن نشرتُ جزءاً من نصوص الكتاب تحت هذا العنوان، فكرتُ بتغيير العنوان، والابتعاد عن المصطلح الذي يتحول إلى عنوان لكتاب أدبي، لكن أغلب العناوين التي جرى تداولها مع الأصدقاء من الشعراء والكتّاب وبما فيها عناوين مثل “دمشق” أو “دمشق لي” بدت سياحية، وهذا لم يكن مطروحاً بأي حال من الأحوال ضمن أغراض الكتاب، فأبقيت على العنوان الأول، كمقترح غير تقريري، رغم أن قصة الغرض السياحي، لم تختف من التداول حتى أن هناك من كتب متهماً إياه بغياب العفوية والصدق وبالسياحية!
– يشعر القارئ انه هناك ما يشبه المسرحة للمكان، فالغالب كأنك تكتب القصيدة وكانك تقرأ مونولوغاً على خشبة مسرح؟
– لقد كنت ومازلت مولعاً بالمونولوغ المسرحي، كأسلوب تقني يفتح صفحات المعنى المخفي للحكاية، وفي مرحلة كتابة هذه النصوص كنت مستغرقاً بالكامل في دراسة الفن المسرحي، وضمن هذا السياق يمكن اعتبار المسرح أحد المؤثرات في الكتاب، لكن، في الوقت نفسه، ثمة ملامح للمكان، تقود زائره، أو من يرتاده إلى الإحساس به كخشبة، فالأمكنة ومن خلال النصوص في هذا الكتاب، هي فضاء الصراع والجدل مع الآخر، ومع القامع، ومع التاريخ، ومع الأحداث الشخصية، بما فيها العيش في فضاء يسوده قمع السوريين، واعتقالهم، والبحث عن طريقة للكلام، دون الوقوع في شرك أن تقدم للأمن وثيقة تقود إلى محاسبتك.
– جاء في المقدمة أن الكتابة في مرحلة كتابة الديوان كانت تبحث عن طرق لتتهرب من الرقابة. هل كنت تكتب تحت وقع الخوف؟
– نعم، صحيح، في ذلك الوقت، كنت لم أزل طالباً في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكان كل شيء في دمشق يقودك إلى الخوف من الاعتقال، بعد أن أنجز النظام تصفية أغلب القوى السياسية المعارضة في مرحلة الثمانينيات، وصار مرتاحاً لتقصي أفكار المثقفين المعارضين في رؤوسهم، وفي كتاباتهم، وفي تلك الفترة وعلى سبيل المثال قام النظام باعتقال كل من بقي من قيادة حزب العمل الشيوعي، ومنهم بعض الأشخاص المقربين لي. وطبعاً وقبل كل هذا يجب أن نرى كيف منع النظام تداول مجلة “ألف”، التي بزغت فجأة، فنشرنا فيها بعض تجاربنا، وحملتنا إلى قراء آخرين في بلدان أخرى، لكنها لم تكن مقبولة من قبل النظام ومن قبل مثقفيه في اتحاد الكتّاب العرب، الذين منعوا كرقباء اصدار العديد من الكتب الشعرية، بعد أن حجبوا عنها موافقة الطباعة، وأتذكر أنني خشيت ألا يحصل الكتاب على الموافقة، لكن الصديق الشاعر صقر عليشي صاحب دار الينابيع التي طبعته تكفّل بالأمر.
– ما تأثير المسرح. والسينما على كتابتك النصية أو الشعرية؟
– هناك تأثير المعرفة بحكم الدراسة والاهتمام، وفي نفس الوقت، لم يعد بإمكانك أن تكتب الشعر أو النص، وحتى القصص والروايات، معتمداً على قدرة اللغة على إنشاء الفضاء، إذ بات القارئ يتلقى كماً مشهدياً وصورياً هائلاً، ولهذا بات على الكتابة أن تخط مسارًا مختلفاً في صناعة الصورة البلاغية، وأيضاً السؤال؛ أي صورة يحتاجها القارئ؟! هذه أسئلة كانت حاضرة في سياق مشروع الكتابة لجيل بأكمله، وقد تكرست في أوقاتنا الحالية، بعد هذا الانفجار الكبير للميديا.
– ولماذا الكتابة عن دمشق بالذات؟
– دمشق كانت هي الفضاء الذي تكون فيه الوعي الشخصي، والتجارب، والمعاناة، كما الأفراح والمسرات. ولهذا بالتأكيد ستكون الكتابة عن أماكنها، وليس عن أمكنة متخيلة في مدن أخرى. ولكن واستكمالاً لجوابي عن السؤال السابق، أريد القول: إن صورة دمشق المغرية والجاذبة دائماً للكاميرات، ترتبط دائماً بكونها مكاناً منكسراً، مدمراً، تم تحطيم شخصيته، وتشظية ما بقي منها، لقد تعرضت المدينة للتدمير شبه الممنهج، ولاسيما في مرحلة ما بعد الاستقلال، وصولاً إلى الفوضى التي جاء بها البعثيون ولاسيما في مرحلة الأسد الأب، حيث جرت محاولة لإحالة الكارثة على المخطط العمراني الذي وضعه المهندس الفرنسي إيكوشار! لكن مسؤولية خراب المدينة وترييفها وإغراقها بالعشوائيات، هي مسؤولية النظام السياسي حكماً. وضمن هذا السياق، تصبح المدينة وأثر خرابها الحياتي والثقافي هي الموضوع، وهي عدسة الرؤية أيضاً.
-كتبت الكتاب في مرحلة كانت شديدة الرقابة، وعدت ونشرته بعد ذهابك إلى المنفى، اليوم إذ تعيد قراءته، ما الجوانب التي تجد أنك تخوفت من التطرق إليها في ذلك الوقت؟
-فعلياً، لا تستطيع أن تعالج مأساة كبرى، ضمن حيز النص الذي ينطلق أولاً من التجربة الشخصية. ولكن كنت ولم أزل أقول إن كتابتنا أنا والعديد من جيل تسعينيات القرن الماضي، كانت مثل كلام العرافين في المآسي التراجيدية، لقد ذهبت الكتابة إلى حيز الحديث عن الخراب والكارثة ضمن القول الشعري، ولم تكن فقط كتابة الإنسان الصغير (وفق تعبير محمد جمال باروت) الذي يجد حياته في القصيدة اليومية أو الشفوية. لقد كتبت في المجموعات اللاحقة بعضاً مما سكتت عنه نصوص بلاغة المكان، ولم أمنح موافقة الطباعة لمجموعتين، وجرت التعمية على التجربة بحجة التعقيد اللغوي، وصولاً إلى مرحلة الربيع العربي، الذي فرض على كتابتي مساراً مختلفاً، يتعلق باليوميات الحارة لحياة السوريين، وهذا أمر آخر، يمكن تلمسه في آخر ما صدر لي “يوميات ميكانيكية” و”الفهرس السوري”.
___
من الكتاب:
باب توما
.. وأيضاً، نترك لك هذا المجد الكهنوتي بترهاتٍ وأجسادٍ تطمح لأن تكون الحلم الطيف!
نعلّق أسرى حروبنا على الباب، لنمنعَ الظل من الزيارة المرتقبة وصورة الرب!
وحين يأتي الوقت الآخر، نعتذر عن كل ما جرى من سيرةٍ عدميةٍ للكلِ،
نقولُ: لوثنا المجد بعقيقِ جوارينا، مسحنا الدعاء بخرق الخادمات!
كان الزمان انتحار الثلج، وكان المكان شارع النهاية الوقح الخجول!
وثمة بعض الأغراضِ مما ينقص هذا المشهد التراجيدي،
ما الذي يصنعه الانتحار بنا؟ وخجل العابرين ممن يبقى وحيداً؟
أصبحنا أغراضاً وليس ثمة ممثلين!
أنتَ جمهور الأمسيةِ، حين لا يريد التطهر ولا الضجيج!
أصبحنا لكَ بضعاً من لوحات، بضعاً من ترهاتٍ وأجسادٍ كانت تحلم بالطيف!
المهاجرين
وإذ وحدك ترى عينين في وميض الجمر،
تلمسُ التعب في الانقياد للظل، والارتهان للمكان!
تركضُ في طيف النفق، لتحدّث الوردة في هذا المساء!
يخفُ الدم عن وصال القلب، تعجز الكريات،
يسكر التراب، يفور النبيذ،
يخرم القلب، يفرغُ الشريانُ، كما لو كان أفق الرؤية والمكان!
وها هي الكائنات المضارعة والمقضية، انتظرت أصابعكَ فخلعتْ بردة روحها، اقتنصت كل ما كان حلواً، وقادت قرص الشمس في لعبة الأرقام، هاتفتْ شبحاً يلقي الرثاء كالسلام، وكالقيم في كسوف السماء!
(المدن)