محمد حجيري : بدر شاكر السياب ولعنة المال والسياسة

0

قبل مدة نشر الشاعر العراقي محمد مظلوم في صفحته الفايسبوكية، صورة نادرة لبدر شاكر لسياب، وإلى يساره ضابط المخابرات الأميركي جون هنت في مؤتمر روما عام 1961. (كان السياب هدفاً نموذجياً للأميركيين بوصفه شيوعياً متحولاً إلى القومية) كما يقول الناقد الأميركي روبن روكسويل في كتابه “مدينة البدايات… الحداثة الشعرية في بيروت” الصادر مؤخراً عن “جامعة برينستون” وكتب مظلوم مراجعة له في مجلة “الفيصل”.

والحق أن البحث عما وراء صورة السياب، يأخذنا الى متاهة “غير مستحبة”، إذ يصير الحديث عن الابداع “السيابي” بين فكيّ المال والسياسة، فصاحب “أنشودة المطر” كان موضع جدل دائم في سنواته الأخيرة، جدل لا ينجو من الالتباس والولع بالاتهام والأبلسة، حول فقر السياب وتشرّده وهويته وولائه وانتسابه، فالشاعر الذي يعتبر من رواد الحداثة العربية، سجن أكثر من مرة بسبب مشاركاته السياسية المتقلبة، ورمي بتهمة التعامل مع المخابرات الأميركية لمجرد أن ترجم أكثر من كتاب إلى العربية، وفاحت من رسائله حاجته الدائمة للمال بسبب أحوال حياته المترهلة، والحاجة بحسب تبريرات البعض، جعلته كثير التقلبات السياسية ومتذبذباً، وتفسير هذا المآل لا ينفصل على مرحلة دقيقة كانت تخيم على الثقافة، أو الثقافة كانت جزءاً من وقودها. إذا أعدنا قراءة كتاب “الحرب الثقافية الباردة”، للكاتبة الإنكليزية فرنسيس ستونر سوندرز(ترجمة طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة)، تبين أن “منظمة الحرية الثقافية” أسستها المخابرات المركزية الأميركية (C.I.A)، ورصدت لها ملايين الدولارات وللمشروعات المتصلة بها، مستخدمة جماعات مستقلة وشخصيات يسارية غير شيوعية أو مدنية وليبرالية، تتعاون مع المخابرات المركزية لتقديم الغطاء وقنوات التواصل لبرامجها السرية والأنشطة الداعمة للسياسة الخارجية الأميركية، وتغير اسم المنظمة سنة 1967 إلى “الاتحاد الدولي للحرية الثقافية”، وفي قمة ازدهارها، كان لـها مكاتب في 35 دولة (من بينها عدد من الدول العربية، خاصة لبنان والسعودية والأردن والمغرب وليبيا ومصر، حيث تم انشاء مكاتب فرعية لمؤسسات “روكفلر” و”كارنيغي” و”فرانكلين” و”نادي القلم” و”مجلة المختار”… إلخ)، ويعمل فيها عشرات الموظفين، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ، وتعقد مؤتمرات دولية تحضرها شخصيات بارزة، كل ذلك في إطار “الحرب الباردة”. 

أما عن علاقة السياب بمنظمة حرية الثقافة الأميركية، فلها وجوهها وتشعباتها وتأويلاتها وأدخلت الشاعر في “جدل بيزنطي” لم تنته فصوله حتى الآن، وهي تتعلق أولا وأخيراً بأوضاعه المالية والصحية أكثر منها بموقف سياسي لشاعر فذ طالما وصف موقفه السياسي بالمتذبذب… مع التذكير أن السياب كان يعي اي شيء تريده المنظمة ومجلة “شعر” ففي رسالة الى يوسف الخال في 4/ 4/ 1961 ذكر حول محاضرته التي كان يعدها لمؤتمر روما أنه انتهى من كتابتها وجاءت “مليئة بأفكار تتفق وأفكار منظمة الثقافة”…

عاش السياب فترة من التقلبات، سبب ذلك عزلته عن أصدقائه اليساريين بشكل خاص، وانتقاله بين التيارات القومية. ولعل رسالة الدكتور صفاء الحافظ صاحب امتياز مجلة “الثقافة الجديدة” وأحد مؤسسيها عام 1953، التي بعثها من برلين إلى هيئة تحرير المجلة في بداية سبعينيات القرن العشرين، تلقي ضوءاً على الأزمة التي شكلت إحدى الإشكاليات في حياة السياب. يقول فيها إنه ومجموعة من الشيوعيين التقوا بدرا في بيروت وحذروه من التعامل مع “حوار” و”شعر” لأنهما من المجلات المدعومة من أميركا، لكنه رفض تحذيراتهم، مما دفع الدكتور صفاء إلى القول بأن بدرا قد مات منذ ذلك التاريخ، ثم يسرد مجيء بدر إلى مقر جريدة “اتحاد الشعب” التي أصدرها الحزب الشيوعي العراقي في بداية ثورة 14 تموز 1958 ليهنئهم بالثورة وصدور الجريدة ولكنهم قابلوه ببرود وعدم اكتراث مما دفعه للخروج من بناية الجريدة حزينا. لكن صفاء الحافظ يعلق على هذا الموقف قائلاً كنا حزباً وكان فرداً مما يعني أن هذا الموقف كان قاسياً على شاعر مرهف كالسياب مما دفعه بعد ذلك إلى التشهير بالحزب عبر مقالاته الغاضبة التي نشرها بعنوان “كنت شيوعيا” (صدرت في كتاب عن منشورات الجمل) وتتضمن أبشع الصفات في “تصفية حساب” مع الخصوم. يقول الناقد صبري حافظ(الناقد- عدد 43- 1 يناير 1992) رفض السياب التوقيع على عريضة استنكار لثورة الشواف. وقد كلفه هذا الرفض وظيفته حيث فصل من عمله عام 1959 بعدما  كتب عنه كتبة التقارير “أنه شوهد وهو يبتسم يوم مؤامرة الشواف”. وقد شطّ السياب كعادته في الهجوم على الشيوعيين وبخاصة بعدما وقفوا ضده وطالبوه بنقد ذاتي صارم رفض كلية ان يقدمه لهم. ووصل به الشطط الى حد كتاب “إن مكارثي أشرف الف مرة من كثير من الذين يعتبرهم الشيوعيين قادة كبارا”. وفي أواخر عام 1959 تمكن من الحصول على عمل كمدرس في اعدادية الاعظمية، وبعد بضعة شهور، وفي عام 1960 نشر ديوانه العلامة “أنشودة المطر” عن دار “مجلة شعر”، لكن الغريب أنه سجن بعد شهور على نشر الديوان ذاك، ومع من؟ مع الشيوعيين الذين تنصل منهم، فكان عذاب السجن مزدوجاً، لا من السجان وحده، وانما من الرفاق الذين كانوا يوسمونه ألوان العذاب النفسي والتقريع السياسي.

في 7 يوليو 1961 رزق السياب بابنته آلاء في وقت ساءت فيه أحواله المالية، وحملته حالة العوز إلى ترجمة كتابين أميركيين لمؤسسة فرانكلين، ثم تسلم في العام نفسه دعوة للاشتراك في (مؤتمر للأدب المعاصر) ينعقد في روما برعاية منظمة حرية الثقافة. 

يعود بدر بعدها إلى بغداد ومن ثم إلى البصرة حيث الدار التي يقطنها منذ عُين في مصلحة الموانئ، يكابد أهوال “اضطراب عصبي في المنطقة القطنية من العمود الفقري”، وهو مرض نادر لم يكتشف الطب له علاجاً. وفي فترة المرض فاض بحر الشعر بعد أن غاضت ينابيعه في السنوات القليلة السابقة… والشهرة جعلت السياب يعرض جديده من دواوين وقصائد لدور النشر وللمجلات التي تدفع المكافأة، ولقد أعانه في ذلك جبرا ابراهيم جبرا في بغداد وتوفيق صايغ وسهيل ادريس ويوسف الخال وأدونيس في بيروت. يكتب توفيق صايغ في مذكراته: “مكتوب من بدر (شاكر السياب) يطلب فيه النقود التي اقترحت المنظمة إعطاءها له للتطبيب، كي يذهب للعراق أو يحضر عائلته لبيروت”، ومن يعود الى كتاب ماجد السامرائي الذي تضمن قسما كبيراً من رسائل السياب، يعبر فيها عن حالة فقر مدقع، يرجو من يوسف الخال ان يمده بالمساعدة، وان يدفع عنه ثمن الأدوية التي يتداوى بها. وفي احدى رسائله الى الخال يقول له إن الشاعر أدونيس وعده بأن يدبر له “وظيفة” في باريس، وإن من شأن هذه الوظيفة ان تساعده في الاقامة في العاصمة الفرنسية وكذلك في الاستشفاء فيها.  ثم فوزه بجائزة الشعر العالمي في مهرجان الشعر العالمي الذي اقامته “المنظمة العالمية لحرية الثقافة”، بدافع من الشاعر يوسف الخال والمستشرق لويس ماسينيون، ثم سفره الى لبنان وعلاجه في لندن على حساب المنظمة المذكورة. تلك المرحلة من الداء، جعلت السياب يعيش صراعاً نفسياً وداخلياً مع نفسه… 

كان الشاعر السوري محمد الماغوط يقول متهكماً على تهمة تبعية السياب للاستخبارات الاميركية “لا أستطيع تخيل السياب يجلس في المقهى بنظارة سوداء ويراقب المارة”… ويقول السياب  “المال شيطان المدينة”، وبات المال مأخذاً عليه في ترجماته وفي ثقافته وإن كان عاش حياة العوز، في رسالته إلى يوسف الخال في 16/3/1962 يقول: أنا الآن في دوامة النشاط الشعري لكن قاتل لله الشعر، إنه لا يُشبع من جوع ولا يكسو من عري. إن ترجمة كتاب واحد لمؤسسة فرانكلين مثلاً، تدر من المال ما يعادل ربح دواوين عدة”. وما نلمحه في هذه الرسالة هو ربط الترجمة ربطاً واضحاً بالربحية، وربط الشعر الذي هو روح الشاعر بالجوع والعوز، وهذا يظهر مأزق المردود المالي من الابداع. ويؤخذ على السياب انه في معظم رسائله لم يسأل عن جودة الترجمة، بقدر تركيزه على النواحي المادية، يقول في رسالته إلى جبرا إبراهيم جبرا في 22/1/ 1962: “أرجو أن تكون بخير، وبعد، فقد انتهيت من تبييض ما ترجمته من كتاب الأدب الأميركي إلى نهاية الصفحة (435) ويرد في رسالة بعث بها إلى جبرا قائلاً: “أما عرضك السخي علي بأن أشاركك في ترجمة كتاب من الأدب الأميركي فإني أقبله مع الشكر العظيم، وأنا في انتظار أصول الكتاب المقررة لي لأشرع بترجمتها ترجمة تليق بأن توضع في كتاب واحد مع ترجمتك. ولكن بالله (عليك) كثر… لتكثر معها “المصاري” (“رسائل السياب” تحقيق ماجد السامرائي، دار الطليعة ص 128) والمقصود هنا بالكتاب هو “ثلاثة قرون من الأدب الأميركي” الذي ترجم بناء على تكليف من مؤسسة فرانكلين.- يقول في رسالة اخرى إلى جبرا من لندن في 30/1/1963: “فوجئت عندما علمت أمس من السفارة العراقية ان رمضان قد حل. لكن هماً أصابني سيأتي العيد وليس هناك من يشتري ملابس جديدة لأطفالي، إن راتب أمهم لا يكفي لأكثر من إطعامهم. أفلا تستطيع إقناع الدكتور محمود الأمين بإرسال ما استحقه عن ترجمة جزء من كتاب الادب الاميركي إلى زوجتي”. 

وأظهر كتاب المستعرب جاك اماتاييس السالسي وعنوانه “يوسف الخال ومجلة شعر”(دار النهار)، جانبا من علاقة السياب مع المجلات الثقافية اللبنانية ومحنته مع العوز والمال. قال المؤلف عن علاقة السياب بمجلة “شعر”: “غادر السياب مجلة شعر عام 1962 بعد منحة مالية من مجلة الآداب مستغلة وضعه الصحي وشرط مقاطعة “شعر”. وقد استفزت هذه العبارة صاحب “الآداب” ورئيس تحريرها السابق الراحل سهيل ادريس، فأرسل الى “ملحق النهار الأدبي” المحتجب توضيحا قال فيه: “يهمني ان اؤكد ان هذا الخبر عارٍ عن الصحة تماما، فـ”الآداب” لم تقدم اطلاقاً منحة مالية للسياب ولم تستغل وضعه الصحي، ولم تشترط عليه مقاطعة “شعر”. والمعروف ان الرئيس عبدالكريم قاسم، اول حاكم عراقي بعد العهد الملكي، هو الذي بعث للسياب بمنحة مالية لمعالجته من المرض، ولكن السياب الذي مدحه انتظر حتى أطيح به ليهاجمه هجوماً عنيفاً. وأورد ادريس بعضا من ذكرياته حول تقلبات السياب السياسية والثقافية، منها علاقته بمجلة الآداب بالذات، فقال: “كانت علاقة بدر شاكر السياب بمجلة الآداب علاقة مضطربة، لم تستقر على حال من الصفاء أو من الاعتكار”، و”كان في مواقفه السياسية شديد التذبذب، كثير التقلب، حتى انه كان ينتقل من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، وفقا لمزاجه الخاص أو لحاجته المادية الصرف، ويكفي ان يطالع القارئ رسائله التي جمعها وحققها ماجد السامرائي ليظهر له هذا السلوك . ومن رسائل السياب الى يوسف الخال، يتضح ان انقلابه على “الآداب” مرتبط بما بذله له يوسف الخال وسيمون جارجي، مسؤول الفرع العربي لمنظمة حرية الثقافة، من دعوة بمساعدته ماليا والتوسط لتشغيله واشراكه في ترجمة الكتب.

عرف السياب الجوع والاذلال والسجن والتشرّد، حتى إنه سمى نفسه “أيوب” لشدة ما لاقى من الأهوال والمشقات، وبدأت رحلته مع الشقاء منذ الطفولة، وقاسى الأمرّين منذ تخرجه في دار المعلمين في بغداد حتى موته، أي أنه عاش الشقاء الأبدي برغم نجومية شعره. ما كان يُعين في وظيفة حتى يُفصل منها، وتظل في الخاطر صرخته المدوية القائلة: وكل عام حين يعشب الثرى نجوع ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع! وفي قصيدة “ليلة في العراق” يخاطب أمه: آه يا أمي عرفتُ الجوع والآلام والرعبا ولم أعرف من الدنيا سوى أيام أعياد فتحت العين فيها من رقادي لم أجد ثوباً جيداً أو نقوداً لامعاتٍ تملأ الجيبا لأن أبي فقيراً كان. وكتب السياب الى سيمون جارجي في 12 تشرين الاول 1963 يقول: “إنتاجي الشعري، هذه الأيام، قليل جداً ذلك لانعدام اية تجربة شعرية جديدة: انني نادرا ما أغادر الدار الى مقر عملي. كما انني سئمت من الضرب على وتر “أنا مريض” فيما اكتبه من شعر”.

يتبع حلقة ثانية

المصدر المدن

    

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here