تنطلق الاعلامية والكاتبة، ريما سعد في باكورتها الروائية “امرأتان”(دار هاشيت أنطوان نوفل) من مقولة أن المرأة “هي مخلوق عجائبيّ، لم تخُلق لحياة واحدة.. عصية على الفهم، خفية على الإدراك”… وفي النقد شاع استعمال مصطلح “عجائبي” و”فانتازي” لوصف الحكايات التي تحفل بالغرائبي والخيالي الشاطح في التوليف.
والمرأتان في الرواية هما فرونيكا فرانكو “حقيقية ودقيقة هنا من الناحية التاريخية”، وكارا “حكاية مُبتدعة”(مبتكرة، مستحدثة) و”متقدة متفلتة من قبضة الخوف”، وتجري أحداث هذه الرواية في حقبتين مختلفتين، أولاهما القرن السادس عشر وثانيتهما القرن الحادي والعشرين، من زمن جائحة كورونا تحديداً. وتقرّ الروائية بأن المرأة “خطت بين هاتين الحقبتين خطوات هائلة، مستعيدة لإنسانيتها آفاقاً رحبةً، وثائرة على بعض أشكال السطوة الذكورية”. وما يمكن قوله أن على وجه الدقة، أن لا اختلاف في القالب أو الإطار بين فرونيكا العاهرة والحقيقية في البندقية في القرن السادس عشر، وكارا المسلمة “المبتدعة” والمتدينة التي تبحث عن الحب في بيروت في القرن الواحد والعشرين. فالأولى مثقفة ومتحرّرة وتبيع جسدها، وعاشقة ماركو فينير الارستقراطي، الذي لم يستطع أن يتحرّر من تقاليد البندقية فاضطر الى الزواج بجوليا ابنة العائلة الراقية، وكان على فرونيكا أن تختار حياة من حياتين، إما الدير أو “المُجامِلة” (عاهرة تتقن فنّ السلوك الراقي وآداب اللياقة لاجتذاب عملاء أثرياء)، فبدت لها المجاملة خياراً أفضل من الفقر، وأهون من الزواج المدبّر.
أما كارا، الاستاذة الجامعية المتخصصة في العلوم الدينية، والمتصوّفة والمولعة بالماروائيات، فألفت نفسها في علاقات بـ”الحلال” لم تستطع ان تكون فيها لسبب تجهله سوى “المرأة الثانية”، مبقية على عذريتها في علاقاتها، وتشعر أنها “قديسة”، ومصطفاة، وغير مقروءة وعصيّة على الفهم، بين الرداء المحتشم والتنورة القصيرة. وتترنح بين حياة بالغة التقوى والتعفّف والانتظام، تصل “الجسد بالروح، والشهوة بالنقاء، والإيروتيك بالقداسة”. وكثر هم الرجال الذين تودّدوا إلى كارا وعشقوها وطلبوها للزواج، لكنها ظلّت مسكونة بيقين جامح بأنها لم تلتق بعد برجل حياتها، الى أن شارفت على الثلاثين. والتقت أخيراً عاصي الذي كان متزوجاً ويحبّ امرأة أخرى. ولم “يسبق لكارا أن التقت برجل يجمع الدونجوانية والشغف الحسّي من جهة، والتقوى والجنوح الى الله من جهة ثانية”.
المرأتان عاشرتا رجالاً من علية القوم، وسرقتا الأزواج من أسرّة زوجاتهم، الأولى منحت جسدها في سبيل المال والسطوة السياسية، والثانية منحت جسدها لا للمال بل للحب. لا نعرف أي رياح ألقت بالمرأتين في حلم خارج الزمان والمكان. فكارا استغرقت وقتاً كي تستوعب أن المرأة المذهلة التي رأتها في الحلم هي امرأة حقيقية. “لم تكن كارا تعرف أن حلماً كذاك الذي رأته في منامها سيغير مجرى حياتها”. إنه التقاء زمنين مختلفين قي حيز زماني ومكاني آخر. وصداقة لا يمكن تفسيرها…
لا ضرر في القول إن الكثير من الروايات الجديدة أو المعاصرة أو العابرة، يتشكّل بطلها أو أبطالها من ثقافات “سائلة” كما يسميها زيغمونت بومان، عالِم الاجتماع البولندي، وتأتي مبتورة عن سياق ما زمني ومكاني واجتماعي ما، وهي آتية نتيجة هويات “معولمة” وتخيلات وتشعبات ثقافية وميتولوجية واجتماعية ودينية وإثنية وجندرية عديدة، وكثيراً ما تجمع التناقضات “العجائبية” والحلمية والتضادات أو الثنائيات، بين الإيمان والإلحاد، بين المقدس والمدنس، بين الناسوت واللاهوت، بين الشرق والغرب، بين العذرية والإباحية، بين المكشوف والمستور…
في رواية “امرأتان” البطلة كارا، يمكن وصفها بأنها “امرأة بنساء كثيرات”، ولا تؤول الرواية، على ثنائيات فحسب، فهي ثلاثيات وربما رباعيات، وبين مدينتين أو أكثر، وزمنين أو أكثر.. وبين هوس وأهواء وتديّن وأحلام… والكاتبة، وإن كانت تنهي الرواية بأن كارا في يقظتها السابعة “استوت جالسة واستقرّ في شعورها توق غامضٌ إلى أن تعتزل السوشال ميديا والناس، وتختلي بنفسها لبضعة أيام، وربما أشهر، كي تتفرّغ لكتابة روايتها التي طالما حلمت بكتابتها، وما عرفت يوماً كيف تبدأها ولا كيف تنهيها، شعرت بأن ما لم تجرؤ على تحويله إلى فكرة على الورق صار اليوم متّسقاً وجاهزاً لأن يُكتب… وانبثق في أعماق أعماقها شيءً ما، شيء جميل لا تستطيع تحديده، كأنه شعور غامر بسعادة طفولية ملتبسة، وفكّرت في المرأة التي لا تصدق- المرأة الحُلم”…
وكانت سعد قد أسبقت السرد الذي يتشكل حول فرونيكا وكارا، بالقول إن “الجنس السياسي” الذي ساد في البندقية في القرن السادس عشر- والذي أباح التجارة بالجسد (المرأة تحديداً) وحللها وبجلها، لا يختلفُ عن “الجنس الديني” السائد منذ أن ظهرت الأديان حتى يومنا هذا في القرن الواحد والعشرين- والذي يبيح الجنس ويحلّله ويبجله تحت مظلة الزواج متعدّد التسميات ومتشعب الأطر. لكن لا أدري هنا أي النقاط التي ارتكزت إليها الروائية للوصول إلى هذا الاستنتاج، باعتبار أن الجنس من العناوين المطاطة التي يصعب حصرها.
في المحصلة، كارا التي تعيش في أجواء “الجنس الديني” الحلال والفقهي، متعطّشة لنزعة “التحرّر” في فرونيكا، وفرونيكا ابنة البندقية التي في أجواء “الجنس السياسي” تواقة لنزعة الطهر الروحانية في كارا، لكن هل فرونيكا متحرّرة فعلاً؟ وهل كارا طهرانية فعلاً؟
(*) توقّع ريما سعد “امرأتان” مع قراءة مُـمَـسْـرَحَة لمقتطفات من الرواية في 31 أيار، مسرح المونو، إخراج سولانج تراك.
*المدن