قبل نحو ربع قرن، في 21 حزيران/يونيو 1997 ألقت سيدة، في العقد الرابع من العمر، بنفسها من الطابق العاشر لمبنى سكني في حي الدقي بالقاهرة… وذكرتْ الصحف أنها انتحرت نتيجة “العنف الذكوري”، وألمحت إلى الإحباط الذي كان يكتنفها في كتابها الأخير، وكأنها فيه تكشف “زيف الماركسية اللينينية” التي كانت تؤمن بها، ولم تحتمل ما سمّته “الخيانة من رفاقها، الذين تبرأوا من معتقدهم بعد انهيار الشيوعية العالمية”. كانت هذه السيدة هي الناشطة والكاتبة والشاعرة اليسارية المصرية، أروى صالح (1951_1997)، عضوة اللجنة المركزية في حزب العمال الشيوعي المصري الماركسي اللينيني، أكبر جماعة ماركسية في ذلك العقد، وسرعان ما ذاع صيتها بين مشرفيها، ورفقائها، ككادر شاب متقد وموهوب. وأروى كانت “تعيش في كنف أبٍ كان وكيلاً للوزارة في زمن كان مثل ذلك المنصب يضع صاحبه في ساحة علية القوم” بحسب امينة النقاش، ووفقاً لشهادة أحد أصدقائها المقربين الفنان التشكيلي عدلي رزق الله. بدأ وعيها السياسي والاجتماعي ينضج عندما كانت في سن الـ15 أو 16، أي قبل فترة قصيرة من حرب حزيران 1967 أو بعدها بفترة وجيزة. وكما تقول الكاتبة سماح سليم، “بلغت أوّل وعيها السياسي في بداية السبعينيات، أعقاب حرب 1967، ونهاية عهد ناصر وبداية نظام أنور السادات الانتقالي”… “انجذبتْ إلى حلم الخلاص الشخصي والعام في العشرينات من عمرها وتحطم الحلم وتسبب لها بعد 25 سنة في فقدان الأمل والضياع”. وفي محاولة لتحليل ما جرى، تقول صالح بأن “الهزيمة رشقت الأسئلة بلا رحمة في قلب هذا الحلم، حينها بدَونا كشعب يُحاول بعد طول نسيان أن يستعيد قدرته على التفكير، وتركه النظام الذي انكسرت هيبته الغشوم بالهزيمة، يلهو بهذه اللعبة الخطرة إلى حين، واندفع المثقفون، كل الفئات المتعلمة، يُعيدون فتح كل الملفات المحرّمة، وتجرّأ المبدعون على مناورة الرقيب، يقولون كلاماً خطيراً تماماً بقدر ما كانت تستقبله تربة متعطشة تبحث عن طرق جديدة تسلكها، عن إلهام لشعب لم يكن قد استولى عليه اليأس بعد”.
وكانت النظرة إلى الهزيمة وتداعياتها فيها شيء من “التأمل الصوفي الذي نخرج معه من العالم إلى الحلم”. وللهزيمة أثر واضح في حياة صالح، وحياة كلّ جيلها، وربما ما زالت آثار الهزيمة ماثلة في العقل الثقافي الجمعي المصري والعربي حتى الآن. ويظل العنصر المشترك، وجه الاستمرارية الأكثر صدقاً بين جيلين (الستينيات والسبعينيات)، والأكثر غرابة ومأسوية، هو تلك الخلطة المميزة من المواقف الفكرية الراديكالية، والمواقف الوجدانية العدمية! “لكن الغرابة هي طبيعة كل حقيقة. فالجوهر المشترك في هذه الخلطة (…) هو الهزيمة” (“المبتسرون” دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية”-1996، ص25، 26). كان السياسي والكاتب السوري الراحل، ياسين الحافظ، سباقًا في بلورة تصوّر عن الأيديولوجيا المهزومة في كتابه “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”، منطلقًا من تجربة ذاتية وتاريخية في توصيف تلك الأيديولوجيا، في فواتها التاريخي، بكل ما يعنيه ذلك الفوات من انفصال عن العقلانية التي تبلورت في سياق الحداثة والتنوير الأوروبيين، وانتقد الحافظ الرومانسية الثورية التي تحلى بها النظام الناصري، وكانت أحد الأسباب الرئيسة لهزيمة حزيران 1967.
وفي العام 1972، أي قبل انتحارها بـ25 سنة، كانتْ أروى عضواً في الجماعة التي قادت الحركة الطالبية، عندما خرج الطلاب في أنحاء مصر، من داخل الحرم الجامعي إلى الشوارع في تظاهرات عنيفة مطالبين بإعلان الحرب على الفور، من أجل تحرير الأراضي المصرية التي احتلتها اسرائيل… كانت تظاهرات ميدان التحرير ذروة الحركة الطالبية الوطنية – كما يقول الباحث شريف يونس – حيث ترسختْ “قناعة الحركة الطالبية واقعيًّا وعمليًّا بأنها تمثّل الشعب حقًّا وصدقًا. باعتراف جميع الأطراف التي تمتلك الحق في التمثيل الكلامي والقدرة عليه …”. في هذا السياق الفكري المصطخب بـ”الأفكار الثوريّة” والأحلام، نشأت أروى صالح، وكانت “فتاة دقيقة الحجم، رقيقة الملامح وسيمة الروح، ذات وجه طفولي وصوت خفيض، لكنه مفعم بالحماس الذي يبدو وكأنه ثقة في النفس، تمتلك حيوية عقلية ساهمتْ ثقافتها المتنوعة وذكاؤها اللماح في شحذها وتجددها، وأمدّتها بحضور أخاذ، مما جعلها دوماً نجمة تلك السهرات بلا منازع”(أمينة النقاش).
لكن أروى التي عاشتْ حلم التغيير، عاشت أيضاً تقلبات نفسية كثيرة وعنيفة في حياتها وبين رفاقها، وقد كتبتْ بنفسها: “أقدر أموت عشان قضية، ساعتها الموت يبقى جزءاً لا يتجزأ من الحياة”… ووصفتْ جيلها بأنه الجيل الذي “قبض ثمن وطنيته قبل أن يدفع ثمنها” كما قال لها بمرارة شيوعي قديم ممن شهدوا مجزرة عبد الناصر العام 1959. ومنذ انتحارها أو موتها الطوعي، اجتهد كثيرون لتفسير، أو تبرير أسباب هذا الموت، فقيل إن أصدق ما كتب في هذا المجال ما قالتْه هي نفسها: “رابطتي الأكثر حقيقية بالواقع، تبقى الإيمان الصلب بأجمل ما أنتجه البشر وهم يحاولون اكتشاف حلمهم وصنعه نقياً، ناصعاً، ومبرّأ من وساخة هؤلاء البشر أنفسهم. والذين كنت عاجزة في العلاقة المباشرة معهم عن تفسير لغزهم، فضلاً عن التعامل معهم، فاقدة أبسط روابط الثقة فيهم، وكأن الواقع مُصرّ على السخرية من إيماني الحصين في قلاعه الخاصة، الحقيقية جداً رغم كل شيء، والتي كنت أجري لأحتمي بأحضانها من قساوته كلما تعضني”.
وفي إحدى الوثائق التي أرفقتها أروى صالح في كتابها “المبتسرون”، كتبت في 1985 من مسكنها في إشبيلية، رسالة لأحد أصدقائها، قالت فيها إن “النفور من العواجيز نفور أحياناً بيوصل لدرجة شعور جسدي بالاشمئزاز! بحس أنهم سبة في وجه الحياة. وابتدت تداعبني فكرة إني لما أوصل مرحلة معينة من العجز انتحر.. وبالتزامن مع الفكرة دي ابتديت، لأول مرة في حياتي، أتأمل شوية الموت -بس مش من زاوية ميتافيزيقية بمعنى البحث عما وراء الحياة- لكن باعتباره عملية قضاء على الحياة… وبيتهيأ لي ابتديت أفهم شوية الفكرة والإحساس ورا البطولة، مثلاً بيتهيأ لي أن البطولة لا يمكن تكون إلا عملاً عادياً، قطعة من الحياة الجارية!”.
وكتبت أروى ضمن ما يمكن اعتباره من أسباب انتحارها: “في ذلك العالم الوهميّ تنبت أرض لكل أنواع العجائب، وفيها يمكن أن يستحيل الأقزام فحولاً، وأن تولد المآسي الوضيعة من مهازل رخيصة، وأن تُستغل التضحيات النبيلة في إرضاء نزوات مريضة”. كما أن احتقار أروى لذاتها ورفاقها الذين كانوا يبيعونها الوهم كما تصف؛ زاد من دوافع الانتحار لديها، خصوصاً أنها روَت في مسودة كتابها؛ أنها كانت تشتري أبخس بضاعة من الكلام على لسان أحدهم، وتدفع لذلك ثمنـًا باهظـًا في ساعات متأخرة من الليل، الأمر الذي جعلها تنتقم من هذا العالم الذي جعل منها أضحوكة لهذا اليساري أو ذاك. لذا “انتقمت” من هؤلاء الباعة بفضحهم. ونتيجة لكل هذا قررت أروى الانتحار؛ انتقامـًا من سذاجتها في السير مع ركب أناس لا يتقنون إلا الكلام. وتكمن أهمية كتابها في أنه شهادة إنسانية من امرأة على سلوكيات ثقافية واجتماعية وسياسية في صلب الحركة الطلّابية. ومنحت واقعة انتحار صالح كتابها أكثر من حياة، واعتبرت صالح أن الكتاب قد يكون شكلاً من الاعتراف، لكنها اقترحت على القارئ أن يعتبره لغزاً ويفكّر في حلّه كما يشاء. وتشبّه سماح سليم “المبتسرون” بـ”بيت أشباح، تتصدّى فيه صالح لمسألة الفشل: فشل مشروع التحرير الوطني، وفشل الشيوعية وحركة جيلها السياسية، وفشلها الشخصي كذات في تاريخ طوباوي”.
واتضح في ما بعد أن الحركة الطالبية نفسها كانت جزءاً من الخريطة التي دعت إلى تحديها، الخريطة التي رسمها النظام الناصري “الخريطة التي يحدها شرقاً المعسكر الاشتراكي وغرباً المعسكر الرأسمالي وفي الوسط – بل القلب – حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث”. بعبارة أخرى يتضح أن مرجعية جيل السبعينيات، على رغم شعاراته الماركسية، لم تكن طبقية لكن وطنية وفقاً للبرنامج الناصري. “عندما تحول زمن عبدالناصر إلى ماض ضاعت معالمه، تُهنا ولم نجد ما نتكئ عليه في المتاهة سوى الحنين… تعرى وعينا التاريخي وهو يواجه حاضراً لا يسير وفق نبوءاته الثورية، فأخذنا نولول مع النادمين على “زمن الانهيار” – قياساً بالطبع على زمن عبدالناصر، الذي بقي منتصباً كصنم قديم يبتسم لنا بنصف شفقة وبنصف سخرية”.
ثمة أسباب جعلت من أروى تفقد الثقة في من حولها مِن قادة الحركة. فقد رأت أن عبد الناصر دجّن المميزين منهم بسياج لم يستطيعوا الفكاك منه، “فأرغمهم على حديث الرمز والإشارة وترك فيهم إحساسًا لا يُمحى بالقهر”. أما أنصاف الموهوبين فقد جلسوا على المقاهي متفرغين يمضغون مرارة الهزيمة ويشبعون الموهوبين لومًا، أما غير الموهبين “فجلسوا على المقاهي يلقون اللوم على الآخرين إلى أنْ منّ الله عليهم بالحركة الطلابيّة وعندما استقبلوها كانوا مع الأسف قد قطعوا شوطًا كبيرًا من العمر بلا نضال، وإنما حياة متناقضة بين أفكار ماركسيّة صاغها مُؤسِّس في زمن مدّ ثوري عالمي يملأ لغتها قوة وتفاؤلًا، وبين واقع هزيمة لم يتح لأصحابها حتى شرف النزال”.
*المدن