لا أدري أيهما أذكى: الفلاح السوري ابن غوطة دمشق الذي حوّل قبل 200 عام المشمش إلى (قمر الدين)، أم صديقي الفنان والشاعر السوري، لقمان ديركي، الذي غيّر الاسم الصعب لصديقته البلغارية، وقال للجميع إن اسمها قمر الدين، فاستسهلنا التواصل معها، وقادنا لا وعينا الجمعيّ إلى تقرّبٍ وجدانيٍّ منها؟
وهل أذكى من اسم في رمضان يحمل كل هذه المشروعية كي يصبح قرينًا بشهر الصيام، ومتصاهرًا معه برباط مقدس. فتخيّل، يا رعاك الله، نَفسكَ تجلس على مائدة الإفطار، وحولك، إضافة إلى أباريق التمر هندي، والخروب، والعرق سوس، إبريق خاص بشراب أو منقوع متأنق فوق المائدة اسمه (قمر الدين)؟ والقمر هو الشهر، هو كل الشهر، فنحن نصوم لرؤية هلاله، ونفطر لرؤيته. وليس أي قمر، بل قمر الدين.
هذه دلالات المعنى، أما دلالات المبنى، فلحرف القاف في مفردة قمر موسيقى خاصة، وللمفردتيْن معًا إيقاعٌ آسر: قمر الدين.
أنا شخصيًا مع رواية سمعتها عندما كنتُ يافعًا، تحيل الأمر في رمّته إلى الذكاء الظريف المقبول الذي يتحلّى به أهل غوطة الشام. وهؤلاء، وبعدما دفعهم قصر عمر المشمش إلى ابتكار وسائل لأطول استفادة منه، وكان في بعض المواسم يملأ، بأصنافه الكثيرة المميزة، بِقاع الغوطة بفرعيْها الشرقيّ والغربيّ، تفتقت عقولهم المغموسة بتربة غوطتهم الخصبة المعطاء عن فكرة غلْي المشمش مضافًا إليه السكّر، ثم نشره فوق ألواح خشبية مدهونة بزيت الزيتون، وتجفيفه تحت أشعة الشمس المباشرة، ليصار إلى تغليفه ثم بيعه بعد أن يجف تمامًا. عند هذه المرحلة على وجه التحديد (مرحلة التغليف التي تسبق بيع المنتج المصنّع من المشمش)، جاءت الفكرة اللمّاحة المنقوعة بمسألتيْن: الشطارة والطرافة في آن معًا، وإذا بقمر الدين يجري على لسان (شوام الغوطة)، بوصفه اسمًا لصفائح المشمش المقطّعة على شكل مربعات لامعات بلون المشمش، أو الذهب، في زهو عتمته وعتاقته. أمّا مَن أول من تفتق عقله التجاريّ عن اسم بكل هذا التوفيق، فهو ما طوته الأيام، تمامًا كما هي حال الأمثال الشعبية، فكثير منها، لا بل معظمها، لا يُعرف من هو أول من قاله، أو تمثّله، كما أن بعض الأمثال تتغير مع الأيام والأعوام بعض مفرداتها، فلعل قمر الدين كان اسمه (قمر المشمش)، على سبيل المثال، أو (مشمش رمضان)، أو (رحيق الصائمين)، فمن الذي يعلم حقيقة ما كان وما جرى، خصوصًا أن هذا المنتج الطالع بعبقرية من ثمار المشمش، عُرف منذ عقود طويلة، وصولًا إلى إرجاع بعض المؤرخين أول إنتاج له إلى 200 عام ماضية.
أصل الحكاية
إحدى نظريات تفسير اسم هذه الخلطة الرمضانية اللذيذة، المصنوعة من المشمش، الفاكهة الموسمية الأكثر انتشارًا في الغوطتيْن الشرقية والغربية للعاصمة السورية دمشق، أن قمر الدين سُمِّيَ باسم مخترعه، وهو رجل سوري قيل إنه كان وسيمًا جدًا لدرجة أنه يشبه القمر، ومن هنا جاء الاسم.
ثمّة نظرية أخرى تقول إن موسم المشمش تزامن في تلك السنة التي لجأ فيها المزارعون إلى تحويل المشمش الفائض عن حاجة الاستهلاك بصيغته العادية المعتادة، إلى هذه الشرائح المجففة، مع رؤية هلال قمر جديد معلنًا بداية شهر رمضان جديد في العام نفسه الذي صُنع فيه قمر الدين. هنالك نظرية مماثلة منتشرة في مصر تُسند أصل الاسم إلى الخليفة الذي كان معروفًا باحتفاله مع قمر الدين عند رؤية الهلال في رمضان.
من المعنيين من قال إن التسمية جاءت تيمنًا برؤية قمر شهر رمضان، ويقال في التراث إنه سمي بهذا الاسم نسبة إلى قرية شامية تسمى “أمر الدين”، ويُعدُّ أهلها أول من فكّروا بتجفيف المشمش لتخزينه لأطول فترة ممكنة نظرًا لقصر موسمه.
على سيرة الأمثال الشعبية، فثمة مثل متداول في بلاد الشام جميعها، تقريبًا، يتكوّن من مفردتيْن فقط لا غير: “جُمعة مشمشيّة”، وهو يقال للتدليل على فرحٍ عابرٍ، أو مسرّاتٍ لا تدوم، أو وئامٍ مؤقّت بين خصميْن، أو فترة ربحٍ مباغتٍ لصاحبِ محل، أو مصلحة، أو ما إلى ذلك.
وكما هي حال المشمش الأب الشرعيّ لِقمر الدين، كذلك هي حال الابن المدلّل، فقمر الدين من بين باقي الأشياء والأجواء المرتبطة برمضان جميعها، يذوب في النسيان بمجرّد انقضاء الشهر الفضيل وانتهاء أيامه. على الأقل في الأردن، حيث معلوماتي المعززة بالخبرة اليومية، فلا مكان لقمر الدين خارج شهر رمضان، فوق رفوف المولات، ولا حتى في محلات البقالة الصغيرة الشعبية، بالكاد تحتفظ بعدد قليل من (باكيتاته) محلات العطارة المتخصصة وسط البلد، إذ يبدو أنّ قدره أنْ يتماهى مع جذره، وكما المشمش يمرّ مثل نسمة لذيذة من الطعم الرائق في عنفوان الربيع، كذلك هو قمر الدين، فكرة رمضانية تذوب في كؤوس موائد إفطاره، وأقل من ذلك بكثير في وجبات سحوره السريعة عادة، أو غير المُعدّة بعناية كما هي مائدة الإفطار، وحتى المستغنى عنها عند كثير من الناس. فكرة تلمع في الرؤوس، ويصبح تناول شرائح قمر الدين في بعض الدول (منها إيران، التي يؤكل فيها قمر الدين من دون نقعه وتحويله إلى شراب، وهو يعرف هناك باسم لواشك)، أو شرب منقوعه العصائريّ، رغبةً مشحونةً بالشغف، بالخوف من ضياع فرصة القيام بذلك، فرمضان شهر واحد في العام، وقمر الدين ماركة رمضانية بامتياز، فإن لم نفعلها هذا العام، فقد لا يتيح لنا الموت أن نفعلها في العام الذي يليه.
كثير من الناس يعودون للقطائف غير مرّة خارج أجواء رمضان، وكثير من الناس يركضون لكأس تمر هندي كلما سنحت الفرصة لذلك في باقي أيام السنة، وليس في رمضان فقط، وهو ما ينطبق على شراب الخرّوب، وجلّاب الحبايب، حتى أن بعض الناس صاروا يبقون شرفات بيوتهم مضاءة بفوانيس رمضان طيلة العام تقريبًا، وأنا بصراحة لا أعرف لماذا يفعلون ذلك! قمر الدين الوحيد من بين الأشياء التي ارتبطت بشهر الصيام، الذي أخلص لارتباطه هذا، كيف لا وهو (قمر الدين)، ولو كان قمرًا فقط لهلّ كل شهر، ولسطع بدره كل منتصف شهرٍ قمريّ، لكن قدره، مثل قدر مشمشه، أن يكون مرّة واحدة في السنة: قمر الدين الرمضانيّ الأمين.
بعد اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وإصرار النظام على عسكرتها، ودخولها في متاهات القوى المتحاربة فوق بلد الياسمين، تعرضت الغوطة، خصوصًا الشرقية (دوما، وزملكا، وكفر بطنا، وعربين، وغيرها)، إلى حصارٍ طويلٍ عنيفٍ دامٍ، حيث وصل الأمر بالمحاصَرين فيها أن لا يجدوا أحيانًا سوى حبات المشمش، أو ما جرى تجفيفه منها لتقيم أودهم. وفي كثير من الأحيان كانت أرواح بعض أرباب العوائل ثمن الوصول إلى شجرة مشمش، أو الاستظلال بظل شجرة مشمش في شمس الحصار الحارقة.
الطفلة الصغيرة ابنة العامين التي فقدت والدها وجدّها وشقيقها وخالتها قالت لجارهم أبو محمد وهي تستظل بشجرة المشمش التي كان يستظل بها معها من باغتتهم القذيفة الحاقدة: أنا أكره المشمش.
وأما أن يكره ابن غوطة، أو ابنة غوطة، شجرة المشمش، فلعله ما ينذر باقتراب يوم القيامة، وزوال الأرض ومن عليها. فآخر ما يمكن أن يخطر على بال مخلوق أن يأتي يوم تنتهي فيه المودة الدافئة الخصبة المُنتِجة بين شوام الغوطة ومشمش بركاتهم ورفاههم، فعلى مدى زمن طويل مضى، شكّل قمر الدين وجهة دخل كبيرة، وعادت رحلته من غوطة دمشق نحو بلاد المسلمين بمردود اقتصاديٍّ لا يستهان به، وهو ما شجّع على افتتاح مصانع خاصة بقمر الدين فقط. وما تزال ماركته الشهيرة التي يعرفها معظم العرب تفخر أنها أفضل قمر الدين، المصنوع من أفضل أصناف المشمش، مثل الكلابي، وبلسم، وبسبوسة، والوزري، والتدمري، وغيرها. وعلى كل حال حتى باختيار الاسم التجاري لأفضل أصناف قمر الدين، فإن الأمر لا يخلو من المسألتيْن: الدهاء مع الطرافة، ومن التقط منِ بين السطور، اسم هذا المنتج، يعرف قصدي تمامًا.
(ضفة ثالثة)