قولًا واحدًا، ولا بأي شكل من الأشكال، يمكن أن يفي مقال صحافي حلب الشهباء حقها، وينصف مديد تفاصيلها وعديدها، ويمرّ على قبسٍ من تاريخها وحاضرها وتطلعات مستقبلها.
هل نتحدث عن كنعانيتها؟ حيث الاسم يوثّق هذا الارتباط الضارب جذوره في التاريخ بين حلب وبين أرض كنعان، وكان ذلك عندما وصلت حضارة أبناء كنعان إلى آخر تخوم لواء الإسكندرون في آلاف مديدة قبل الميلاد. وحيث تجلّت أوغاريت، ليس بعيدًا عن حلب، بوصفها حاضرة كنعانية يشهد رأس شمرا على زاخر منجزها، وضربها جذور الوجود في اللاذقية وما حولها.
أم عن زهوها الهيلنستيّ الذي أنتج في الفترة السلوقية الأديب والروائي الساخر والمفكّر السوريّ الحلبيّ العميق لوقيانوس السميساطي، أو لوقيان، أو لوسيان الأنطاكي (120 ـ 180)، أو ابن جيله القائد العسكري بارتينا الذي فتك عام 161 ميلادية بفيلق رومانيّ، وانتصر وجيشه عليه؟
هل أبحر في ما أنجزه أعلامها في النهضة (عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902)، صاحب “طبائع الاستبداد”، ومريانا مراش (1848 ـ 1919)، الشاعرة والكاتبة والمؤرخة الحلبية النهضوية، وقائمة تطول). في الموسيقى والغناء (صباح فخري (1933 ـ 2021)، وحسن الحفّار (الإنشاد)، وصبري مدلّل (1918 ـ 2006) الذي اشتهر بغناء الموشحات والمقامات، وقائمة تطول). وفي الخط العربي (عثمان طه (1934)، الذي كتب المصحف الشريف أكثر من ثلاث عشرة مرة. وفي الشعر، أبو فراس الحمداني (932 ـ 968)، وعمر أبو ريشة (1910 ـ 1990)، والبحتري ابن منبج، وقائمة تطول). أو في البطولة والفداء (سليمان الحلبي (1777 ـ 1801)، قاتل كليبر قائد الحملة الفرنسية النابوليونية على مصر)، وفي التمثيل والإخراج (مصطفى العقاد (1930 ـ 2005) المخرج الحلبي ـ الأميركي الشهير الذي استشهد في تفجيرات عمّان الإرهابية، وعمر حجّو، وسليم صبري، وسلّوم حداد، ويارا صبري، وثناء وثراء بسي، وقائمة تطول). علاوة على قائمة عالية المقام، وفيرة العدد، من العلماء والفقهاء والمفسّرين والمؤرّخين والصوفيين واللغويين والمحقّقين والموسوعيين وخبراء القانون والسياسيين (منهم رؤساء سوريون سابقون، مثل ناظم القدسي، وأمين الحافظ).
هل أتحدث عن حلب الشرقية وحلب الغربية، عندما أبى النظام إلا أن يجيّش البلاد، ويفرّق العباد، ويؤْثر الخراب على الرحيل؟
هل أكتب عن زلزال الطبيعة بعد زلزال الحرب؟
هل ألقي التحية على أبواب حلب، بابًا بابًا، ليس ابتداء من باب الحديد، ولا انتهاء بباب النيرب، مرورًا بباقي أبوابها الضاربات في الأرض والذاكرة: أنطاكية، النصر، قنسرين، الفرج، المقام، الجِنان (أو الجنين باللهجة الحلبية) والأحمر؟
هي جولة قد لا تفي حلب حقّها، لكنها، بعض وفاء لواحدة من الحواضر الكبرى على طريق الحرير. لمدينة العمران والتجارة والزراعة والقيم الراسخة. لمدينة التنوّع العرقيّ والدينيّ والمذهبيّ والطائفيّ. للعاصمة الاقتصادية أيام عزّ سورية وخيرها. بعض وفاء لأقدم مدينة للتراث الإنسانيّ العالميّ بحسب ما أقرّت اليونيسكو، ووثّقت في العام 1986. بعض وفاء لِواحة العمارة السلجوقية، والبيزنطيةً، والمملوكية، والعثمانية، إضافة إلى طرز عمارة الباروك (فيلا روزا في منطقة العزيزية نموذجًا).
قد لا نقول فيها ما قاله أمير الشعراء أبو الطيب المتنبي (915 ـ 965)، الذي أقام فيها ردحًا من الزمن يتنعّم بعطايا سيف الدولة الحمدانيّ (916 ـ 967):
“لا أقَمْنَا عَلى مَكانٍ وَإنْ طَـــــــــــابَ وَلا يُمكِنُ المكانَ الرّحيلُ
كُلّمَا رَحّبَتْ بنا الرّوْضُ قُلْنَا حَلَبٌ قَصْدُنَا وَأنْتِ السّبيلُ
فِيكِ مَرْعَى جِيادِنَا وَالمَطَايَا وَإلَيْهَا وَجِيفُنَا وَالذّميلُ”.
أو ما قاله رهين المحبسيْن الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّي (973 ـ 1053) في مدح بلد أمّه (أمه حلبيّة من بني سبيكة، ووالده من معرّة النعمان):
“يا شاكي النّوب انهض طالبًا حلبًا نهوضَ مضنىً لحسم الدّاء ملتمسِ
واخلع… إذا حاذيْتها… ورَعًا كفعل موسى كليم الله في القدسِ”.
إنها حلب، نسيم الروح، قلب الشمال السوريّ، جارة الجار وجيرته، طيّبة المزار، دوحة النوّار، نور الغزالة، دفء الغريب، أسّ الفخار، مرمى قبلة الأشواق، باب الفرج، سِفر المجد، موطن الأدب، مجمع الشيم الكريمة، العروسُ في أتمِّ جلوتِها، حاضرة الشرق، مباهاة الخلود، سرُّ الإبداع، شمس المعارف، المخصوصةُ بالبَرَكة، “أعظم البلاد جمالًا وأفخرها زينة وجلالا، مشهورة بالفخار، عليّة البناء والمنار، ظلّها ضافٍ وماؤها صافٍ وسعدها واف. لم تزل منهلًا لكلِّ وارد وملجأ لكل قاصد، لم تر العين أجمل من بهائها، ولا أطيب من هوائها، ولا أظرف من أبنائها” (عز الدين بن شداد). وأمّا ابن بطّوطة فقال فيها: “حلب من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع، وإتقان الترتيب، واتساع الأسواق، وانتظام بعضها ببعض. أسواقها مسقّفة بالخشب، فأهلها دائمًا في ظل ممدود، وقيسارتها التي لا تماثَل حسنًا وكبرا، وهي تحيط بمسجدها، ومن المدن التي تصلح للخلافة”.
لا شرقية ولا غربية
بعدد سكّان لم يكن يقلّ قبل دزينة أعوامٍ مثقلةً بالأحداث الجِسام، عن خمسة ملايين نسمة، ظلّت حلب المدينة والمحافَظة، محافِظةً على وئامٍ مجتمعيٍّ يخصّها وحدها، ويمثّل كلَّ وئامٍ سوريٍّ لم تلوّث نقاء بذرته السياسة، ولم يعبث بأركانه الساسة.
وبالتالي، فإن عنوانها، حتى توريطها، كان: حلب وحدةٌ واحدةٌ نابضةٌ نابتةٌ ناجزة. لا شرقيّة ولا غربية.
ولأن النظام صمت في العام الأول للثورة عنها، فإنه حين قرّر معاقبتها أمعن في ذلك، وأثقل على بنيانها المعتّق بالعراقة، بأحمالٍ حاقدة مما تسقطه الطائرات الحربية النفّاثة؛ مرّة من صناعة روسية، ومرّة من فعلٍ روسيٍّ مباشر. ثم هو لم يكتفِ بذلك، بل جيّش شطرها الغربيّ على وعيها الشرقيّ. وهكذا بتنا نسمع ما لم يكن له سياق تاريخيّ، ولا سابقة موثّقة ومشهود عليها، عن حلبٍ شرقيةٍ، وأخرى غربية! هذا ما أراده النظام، وهذا ما تحقّق له مستفيدًا من ردود الفعل القطيعية الغرائزية، نابشًا في كل ما يمكن أن يشكّل أسباب فرقة وتناحر: المكوّن الأرمنيّ، المكوّن المسيحيّ، المكوّن الكرديّ، وقائمة تطول.
وفي حين تمدّد الإرهاب الأعمى في الرقّة والحسكة ودير الزور، وبعد ذلك إدلب، إلا أن حلب ظلّت في منأى عن كل ذلك، وما كان لها أن تسقط في براثنِ الخراب الماحق، لولا التدخل الروسيّ العسكريّ المباشر.
الحجر والشجر
تشكل عمارة حلب إحدى معالمها الراسخة التي تميّزها عن غيرها. وتمتلك المدينة خصوصية تاريخية وعمرانية لافتة، خصوصًا مع ما شهدته المدينة على امتداد تاريخها الطويل من تحوّلات عمرانية وحضارية وثقافية. وعلى تنوّع سماتها المعمارية، يحتل الملمح العربيّ منها المكانة الأهم والأعم، بتداخلٍ يحاول الالتفاف على أشعة الشمس، وحماية الساكنين من الرمال التي تحملها العواصف. وفي البيت العربي يتجلى الفِناء بوصفه روح الدار وقلبها النابض. على وجه العموم ظلّت بيوت حلب حتى وقت قريب تتكوّن من ثلاثة أجزاء: جزء للخزين، وآخر لغرف الضيافة والمعيشة والمطبخ، وثالث لغرف النوم والشرفات.
تاريخيًا وحتى القرن السادس عشر، تَشكّل قلب المدينة حول أبواب الحديد، وقنسرين، وأنطاكيا، والفرج، والجنان (أو الجنين)، وثم وخلال ذلك القرن توسّعت المدينة، وأصبحت المساحات الواقعة شرق المدينة وشمالها مغطّاة مع حلول القرن التاسع عشر بضواحٍ تابعة لها. منذ ذلك الحين بدأت مناطق جديدة بالظهور، متمثلة الطابع الغربي في البناء، ولاحقًا ظهرت المباني الطابقية في محاولة لاستيعاب التزايد السكاني، وهو ما لوحظ بشكل واضح في المناطق الغربية من المدينة، مثل الجميلية، والسبيل.
تجنُّب شعاع الشمس شكّل هاجسًا عند المعماريين الحلبيين، ومن الحلول التي تبنّوها لتحقيق ذلك توجيه المبنى نحو الجنوب، كما ابتدعوا الليوان، وهو مفردة معمارية وجدت لها مكانًا في الجزء الجنوبي من بيوت حلب، مغلقة من ثلاثة جوانب، ومفتوحة من جانب واحد بثلاثة أقواس.
ومن سمات العمارة في حلب دور المتصوّفة (الخانكاهات، والرّبط، والزوايا، والتكايا) التي تطوّرت مع الأيام والأيام عمارتها. كذلك عمارة الحمّامات، ففي حلب العشرات منها بأكثر من طابعٍ، عثمانيّ ومملوكي وغير ذلك. وهنالك عمارة المساجد التي أخذت، بدورها، أكثر من طابعٍ عمرانيّ. أما حمّامات حلب فلها مع المدينة قصة طويلة لا تبدأ بخصوصية عمارتها، ولا تنتهي بتحوّلها هذه الأيام إلى ملاذ وبديل خلقته الضرورة مع انقطاع الكهرباء وشح الوقود. وتعدّ حمّامات حلب صروحًا معمارية جميلة تشبه حمّامات القسطنطينية والأناضول. ويذكر أحد المؤرّخين أن المدينة كانت في بداية القرن السابع عشر (1615) تحتوي على عددٍ كبيرٍ من الحمّامات. أما ابن شدّاد مؤرخ المدينة الأشهر، فيؤكد أن عددها وصل ذات تاريخ إلى أكثر من 70 حمّامًا. وبحسب إبراهيم قطّان صاحب “حمّام الصالحية” في المدينة القديمة، فإن الحمّام يُنسب إنشاؤه إلى الأمير أزدمر بن عبد الله الشركسي الملكي الأشرفي، حيث تمّ إنشاؤه حوالي عام 1485. عمومًا، “حمّام الصالحية”، الذي أعيد ترميمه عام 1700، ليس الأقدم في حلب، فالحمّامات الكائنة في “سوق النحّاسين”، وكذلك “حمّام العتيقة” يزيد عُمرها على 700 عام.
هذا على صعيد الحجر، أما على صعيد الشجر فتشتهر حلب بالمحاصيل والحبوب والأشجار الآتية: الخضروات على اختلاف أنواعها، القطن، القمح، الشعير، الزيتون، التفاحيات، اللوزيات، الحمضيات، الرمّان، النخيل، الصنوبر الثمريّ، والفستق الحلبي.
أسواق المسرّات
تشتهر عاصمة الشمال السوري بأسواقها القديمة الفريدة التي تعد من أكبر الأسواق القديمة المغطاة في مدن العالم وأطولها، حتى أنها تتفوّق على أسواق دمشق القديمة الشهيرة، إذ يبلغ مجموع أطوال أسواق حلب القديمة 15 كلم، ومساحتها 16 هكتارًا، أي 160 ألف متر مربع. ومنذ تأسيسها في القرن السابع عشر الميلادي، وهي تتخصص في أنواع معينة من المنتجات الاستهلاكية. وكون هذه الأسواق هي الأطول في العالم، فقد تم قبل سنوات إدخالها في موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية العالمية.
أهالي حلب يطلقون على هذه الأسواق اسم: (المدينة) بتسكين حرف الميم، كونها تشكّل مع خاناتها مدينة متكاملة داخل حلب القديمة والجديدة. كثيرٌ من أسواق حلب البالغة حوالي 39 سوقًا ذات طابعٍ بيزنطيّ، وسّعت وتطوّرت في العصر الإسلامي.
القصف الصاروخيّ قبل حوالي سبعة أعوام طال بعض الأسواق التاريخية، ودمر جزءًا من تاريخ حلب وعراقتها.
نواحي حلب
رغم أن حلب كانت تضم في عصورها القديمة إدلب ومعرة النعمان وأنطاكيا، ومدنًا كثيرة أخرى، إلا أنها، ورغم التقليص القسري، أو الإداريّ الذي تعرّضت له، ظلّت واسعة فسيحة، وهي تضمّ حاليًّا كمحافظةٍ حواضر كبرى هي: منبج، وعفرين، وأعزاز، وعين العرب، وجرابلس، والباب، والأتارب، والسفيرة.
وخلال دزينة الدم والرصاص والخراب والهروب من صنوف الموت صار لكل واحدة من حواضرها حكاية، وتحوّلت بعضها إلى كعكٍ مهيض الجناح تريد كل جهة حصتها منها.
ولكن حكاية عفرين وابنتها جنديرس مع الزلزال الكبير لا تشبه حكاية أخرى.
وبحسب معظم التقارير، أحال الزلزال بلدة جنديرس التي كانت بالكاد ارتاحت من اقتتالٍ دامٍ نهاية عام 2022، حين دخلتها “هيئة تحرير الشام”، إلى ركام، حيث طال الدمار حوالي 80 في المئة من بيوتها ومبانيها.
هذا لا يعني أن حصة الأتارب، أو أعزاز، أو عفرين نفسها، أو كثير من بلدات إدلب وريفها، أقل منها كثيرًا، لكن جنديرس أخذت الحصة الأكبر، وطال الزلزال وجودها من جذوره، وحوّل سكّانها أجمعين إلى مشرّدين في العراء البارد القاسي، وسط إدارة ظهر عربية وإقليمية ودولية مخجلة مكلّلة بالعار.
تتميز نواحي حلب جميعها، تقريبًا، بسهولها الخضراء الخصبة الفسيحة، وتنوّعها السكانيّ الثريّ، وجغرافيّتها الحسّاسة الجامعة، وطابعها الريفيّ النديّ.
كرابيج حلب
في الأردن، على وجه العموم، وفي العاصمة عمّان على وجه الخصوص، يعشق الناس نوعًا من الحلويات يحمل اسم “كرابيج حلب”، أما لماذا كرابيج، فلأن شكل هذه الحلويات يشبه الكرباج (السوط)، رغم أن بعض صنّاعها يجعلها لولبية دائرية، وأما لماذا حلب، فلأن الشهباء صاحبة ملكيّتها الفكريّة.
تتكوّن “كرابيج حلب” التي يفضّلها الأطفال والكبار، خاصة في فصل الشتاء، كونها تزودهم بالطاقة، من السميد والطحين والسمن والحليب إلى جانب “القطر” التي تغطّس فيه. ويتم تشكيل الحلوى على شكل أصابع طويلة مقليّة تأخذ اللون البنيّ المائل للذهبيّ.
في حلب، بلد المنشأ، تُؤكل الكرابيج مع حلوى سائلةٍ جامدةٍ تسمّى “النّاطف” الذي يُسمى باللغة الإنكليزية Whipped Cream، وكلمة whipped مأخوذة من whipe، التي تعني “السوط”، وبالعامية تعني “الكرباج”، من هنا جاءت الكلمة (كرابيج) لتلتصق بالحلوى المذكورة، لكن بدلًا من أن ترتبط بالسائل الجامد الأبيض حلو المذاق الذي عَرف له أهل حلب اسمًا هو “النّاطف”، التصق برفيق هذه الحلوى الأساسي.
على صعيد المأكولات والحلويات، فليست كرابيجها وحدها التي تشتهر بها حلب (أم المحاشي والكبب)، وعلى سيرة المحاشي، فإن الحلبيين يحشون كلّ ما تقع عليه أيديهم من الخضروات، فهناك محشي الباذنجان، والكوسا، والقرع، والعجّور (نوع من البطيخ الصغير)، والجزر الأسود، والبطاطا، والبندورة، والفليفلة الحمراء والخضراء، والكماية، والأرضي شوكي، والبصل، ويلفّون أوراق بعض الخضروات كنوع آخر من المحشي، كالملفوف، والسلق، واليبرق (وهو محشي ورق العنب الذي يحتوي على الرّزّ واللحم)، أمّا ما هو من دون لحم من ورق العنب، أي فقط محشي رزّ وخضر، فيدعى يالنجي (أي الكذّاب)، لكنّ شيخ المحاشي قاطبة هو ما يُحشى باللحم المفروم والصَّنوبر فقط، دليل الثّراء والمنزلة الرفيعة.
أما الكباب الحلبيّ فحدّث ولا حرج. كلمة الكباب في الأصل لفظة آرامية، يرجع أصله إلى المطبخ الحلبي الشهير، حيث كان الحلبيون أوّل من حضّر الكباب. ويسجل التاريخ ولعَ أهالي مدينة حلب بأنواع كثيرة من المشويات، وتفردهم بأصناف فاخرة من الكباب الذي انتشر في كثير من البلدان، وأضاف كل شعب إليه نكهته الخاصة، ففي إيران، على سبيل المثال، يضاف الزعفران إلى اللحم قبل شوائه، وفي تركيا تتنوّع الأصناف وطرق التتبيل من مدينة لأخرى.
إضافة إلى الكباب الحلبيّ، هنالك الكباب الأورفلي، نسبة إلى مدينة أورفا (الحلبية الأصل)، والكباب الأنطاكيّ في أنطاكية (الحلبية الأصل)، والكباب السلطانيّ في إسطنبول.
أما المشكّك في مرور طريق الحرير من حلب، فعليه ليزول شكّه أن يتأمّل في “الدقّة الحلبيّة”، تلك الخلطة السرّيّة بمقادير سبعة أنواع من التّوابل، كالبهار الحلو، والفلفل الأسود، وجوزة الطِّيب، والقرفة، وكبش القرنفل، ثمّ لا بأس في بعض الإضافات، كالفلفل الأحمر، والزّنجبيل، والمحْلب.
وعن خصوصية المطبخ الحلبي وكرمه وبذخه، أورد الملحق التّجاريّ الفرنسيّ في حلب في عام 1549، في كتابه “ذكرياتي في بلاد ألف ليلة وليلة” حكايته مع مأدبة رمضانية دعاه إليها سيد قصر الحَسْبي بين باب الأحمر والبيّاضة: “هذا القصر الفخم الأخّاذ بسحر مباهجه يتوسط صحْنَه حوضٌ مزدانٌ بتماثيلَ تقذفُ المياه من أفواهها على نور فوانيس الشمع، تَذُرُّ مع النّور الوداعةَ والأنسَ، وتَشْمَلُ المدعوين الذين غَصَّ بهم الصحن، أقدّر عددهم بين الثّلاثين والأربعين مدعوًّا من الوجهاء والآغاوات وقوّاد الانكشاريّة والمفتي والقاضي وآغة القلعة، كلّهم كانوا في أحسن زيّ، وكانت العمائم والزنانير العريضة تُشْعِر بمقام هؤلاء المدعوين الذين كانوا كلّهم ملتحين. جلسنا في قاعة قرب الليوان، أرضها من الفسيفساء ومسجّاة بالسّجّاد العجمي، ورفوف القاعة تزخر بطرائف القيشاني وبدائع تحف الصين… وأقيمت في القاعة مائدة تضمّ نحو عشرين لونًا من ألوان الطّعام، بينها الفواكه، والكبّة النيّة، والنّخاعات، والكلاوي، وبيض الغنم، وضروب السّمك، وغيرها وغيرها ممّا لا أعرف اسمه في صحون الفضّة اللمّاعة، أو في أواني الصين. ها هو ذا مدفع رمضان يدوّي قربنا من القلعة يؤْذن بالفطور، ويشمّر المدعوون عن سواعدهم، ومضت الأكُفُّ تُلَقِّم أفواهَهَم الشرهة، وإذا سال الدّهن من لقمتهم مسَحوا أكفّهم بلحاهم، ولا يضرّ هذا، فالصّابون الحلبيّ الشهير، والماء الفاتر، في انتظارهم. جوقة المطرب بظاهر القاعة تطرّب. تفّضلوا إلى القاعة الثانية، حيث العشاء، صدح الحسبيُّ مضيفُنا، قلت: أيّ عشاء؟ أما أكلنا وشبعنا؟ أجابوا: إنّ ما تناولتَه بضع لقيمات مقبّلات، أمّا العشاء فهذا. ودخلت فإذا مائدة طولها سبعة أمتار تسبح فيها ضروب الطّعام في غدير السّمن والدّهن: هذا خروف محشوّ وغير محشوّ، وهذه ضروب طعام الدّجاج والطيور، وهنا طناجر المحاشي وصواني الكبب… ويأتي أخيرًا دور الحلويات والفطائر والمهلبيّات… التي اتخذت من العسل وغيره، وسُجّيت باللوز والجوز والصنوبر والفستق، يفوح منها روح ماء الزهر”.
لعلّ من المؤلم إيراد تميّز حلب بأطايب المأكولات، وأشهى الأطعمة وأكثرها وأدسمها، في الوقت الذي عانى ويعاني كثير من أبنائها، في أيامنها هذه، من الجوع، ولكن الأصل سوف يعود، فتلك مدينة اشتهرت بهبّتها وفزعتها ووقوفها إلى جانب شقيقاتها من مدن بلاد الشام جميعها، ومن يجهل هذه الحقائق فما عليه سوى الاطلاع على قصة أغنية “الروزنا” الشعبية الشهيرة، وتلخيصها، كي أترك للراغبين الاطلاع المعمّق عليها، أن حلب وقفت مع بيروت، ومع حواضر شآمية أخرى، عندما أغرق العثمانيّ السوق بالتفاح، مسببًا كساد تفاح بلاد الشام، فاشترت حلب كل التفاح الذي لم يتمكّن المزارعون من بيعه، ولكي يحتالوا على الإنكشارية والجندرمة، وضعوا العنب فوق التفاح ليتسنى لهم تهريب الثمرة الأخاذة، وتعطيل مفعول باخرة التفاح التي كانت تحمل اسم “روزانا”:
“عالروزانا عالروزانا كل الهنا فيها..
شو عملت الروزانا الله يجازيها..
يا رايحين ع حلب حبّي معاكم راح..
يا محمّلين العنب تحت العنب تفاح”.
حلب ولا مرّة كانت قليلة، كانت مملكة في عصور سحيقة، وولاية كبرى في العصور الحديثة، وكان فيها سفراء وقناصل يمثلون أكثر من عشرين دولة. وصل عدد سكانها في عام 1900 إلى ما يناهز المليون نسمة، ولم تكن الإمبراطورية العثمانية تحسب حساب أحد، بقدر ما كانت تحسب حساب حلب.
*ضفة ثالثة