احتاج بيت المتنبي “أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ/ وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ” إلى زهاء 400 عام، قبل أن يتمثّله ابن بطوطة كلّه، فيركب في مثل هذه الأيام من عام 1325 ميلادية (تحديدًا في 13 يونيو/ حزيران من ذلك العام)، سِرْجَ راحلته، ويعود من رحلة العجائب والأمصار وإمتاع النظّار بكتابٍ لعلّه، على ما يجمع القوم، من أهم كتب أدب الرحلات، أو على الأقل، أوسعها ضربًا في الزّمان والمكان.
لم يكن ابن بطوطة، أَبُو عَبْدُ الله مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ ٱللّٰهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ٱللَّوَاتِي ٱلطَّنْجِي (1304 ـ 1377م) الأوّل الذي يخوض رحلة ويدوّنها في كتاب، ولن يكون الأخير.
المقري، على سبيل المثال، رصد في نفح طيبه ما يزيد على ثلاثمئة ممن رحلوا إلى المشرق، معتذرًا عن عدم قدرته على الإحاطة بهؤلاء الرَّحّالة جميعهم، ذلك أن “حصر أهل الارتحال لا يمكن بوجهٍ ولا بحال” (توفي المقري، أحمد بن محمد التلمساني، سنة 1041 هجرية)، (“نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م، الطبعة الأولى، المجلد الثاني، الصفحة الخامسة).
السؤال الأوّل الذي يبرق في البال: هل أدب الرحلات أيامنا هذه يشبه حاله قبل مئات الأعوام؟
السؤال الثاني: إلى أي قدرٍ شكّل أدب الرحلات في مسيرة الأدب العربي على وجه العموم إضافة؟
السؤال الثالث: هل قرأ مؤرخونا ونقادنا وجهابذة المعرفة بيننا ما تسلّل من بين سطور “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” وقد مضى على إنجاز هذا الكتاب/ الوثيقة 665 عامًا بالتمام من دون الكمال. ومن بين ما تسلّل ازدراؤه للعرب، فهم إما محاصرون لحواضر المغرب العربي “فوصلتُ بعد مشقات إلى مدينة تونس والعرب محاصرون لها” (تحفّة النظّار، ص 474)، أو قساة يمنعون الماء عن أصحابه “ثم سافرتُ منها إلى مدينة عدن مرسى بلاد اليمن على ساحل البحر الأعظم والجبال تحفُّ بها، ولا مدخل إليها إلا من جانب واحد وهي مدينة كبيرة ولا زَرْع بها ولا شجر ولا ماء، وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر، والماء على بُعْد منها، فربما مَنَعَتْه العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعوهم بالمال والثياب” (تحفّة النظّار، ص 178)، أو هجّامون يغيرون على القوافل “وأقام الركب في طرابلس خوفًا من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت، وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا، ثم صَرَفَتْهُم القدرة وحالت دون ما راموه من إذايتنا” (تحفّة النظّار، ص 15)، أو كما في هذا الاقتباس من كتاب الرحلة: “ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصَحِبْنا في بعض المراحل إليها نحو مئة فارس، أو يزيدون، وكان بالركب قوم رماة فهابَتْهُم العرب، وتحامت مكانهم وعصمنا الله منهم” (تحفّة النظّار، ص 14)، وفي هذا الاقتباس: “ولمّا وصلنا إلى بجاية كما ذَكَرْتُه أصابتني الحمى، فأشار عليَّ أبو عبد لله الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرء مني، فأبيت وقُلْتُ: إن قضى الله عز وجل بالموت فتكون وفاتي بالطريق وأنا قاصد أَرْضَ الحجاز، فقال لي: أما إنْ عَزَمْتَ فبِعْ دابتك وثَقِّل المتاع وأنا أعُيرُك دابة وخباء وتصحبنا خفيفًا، فإننا نجدّ السير خوف غارة العرب في الطريق” (التحفة، ص 11). وحتى لا أقع في فخ العصبية المسكونة بالجهل والغضب، ومن باب الأمانة العلمية، فإن في الكتاب مواضع أخرى، يرد فيها العرب وفق سياق طيّب، أو كريم، أو شهم، أو راق، ولكن اللافت من ذاك الاستفزاز أن ذكر العرب في مستهل كتاب الرحلة، جاء في تلك السياقات السلبية: غزاة، هجّامون، قساة قلوب، طمّاعون، يقطعون حتى سبيل حاج بيت الله الحرام.
وإلا، فها هو في الصفحة (46) من “تحفة النظّار” يورد حكاية تنجلي نهايتها عن بطولة فذّة لأمير عربي من نواحي حلب: “كان قراسنقور من كبار الأمراء، وممن حضر قَتْلَ الملك الأشرف أخي الملك الناصر وشارك فيه، ولما تَمَهَّدَ المُلْك للملك الناصر وقَرَّ به القرار واشتدت أواخي سلطانه جَعَلَ يتتبَّع قَتَلَة أخيه فيقتلهم واحدًا واحدًا إظهارًا للأخذ بثأر أخيه وخوفًا من أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه، وكان قراسنقور أمير الأمراء بحلب، فكتب الملك الناصر إلى جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم، وجعل لهم ميعادًا يكون فيه اجتماعهم بحلب ونزولهم عليها حتى يقبضوا عليه، فلما فعلوا ذلك خاف قراسنقور على نفسه، وكان له ثمانمئة مملوك، فركب فيهم وخرج على العساكر صباحًا، فاخترقهم وأَعْجَزَهُم سبقًا، وكانوا في عشرين ألفًا، وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى، وهو على مسيرة يومين من حلب، وكان مهنا في قنصله، فقصد بيته ونزل عن فرسه، وألقى العمامة في عنق نفسه، ونادى: الجوار يا أمير العرب، وكانت هنالك أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه، فقالت له: قد أَجَرْناك وأَجَرْنا مَنْ معك، فقال: إنما أَطْلُب أولادي ومالي، فقالت له: لك ما تحب فانزل في جوارنا، ففعل ذلك، وأتى مهنا فأحْسَنَ نُزُلَه وحَكَّمه في ماله، فقال: إنما أحب أهلي ومالي الذي تَرَكْتُه بحلب، فدعا مهنا بإخوته وبني عمه فشَاوَرَهُم في أَمْره، فمنهم من أجابه إلى ما أراد، ومنهم من قال له: كيف نحارب الملك الناصر ونحن في بلاده بالشام، فقال لهم مهنا: أما أنا فأفعل لهذا الرجل ما يريده، وأذهب معه إلى سلطان العراق، وفي أثناء ذلك وَرَدَ عليهم الخبر بأن أولاد قراسنقور سيّروا على البريد إلى مصر، فقال مهنا لقراسنقور: أما أولادك فلا حيلة فيهم، وأما مالُك فنجتهد في خلاصه، فركب فيمن أطاعه من أهله، واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفًا، وقصدوا حلب فأحرقوا باب قلعتها وتَغَلَّبُوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقور ومن بقي من أهله ولم يَتَعَدَّوْا إلى سوى ذلك”.
قصة تعكس سماتٍ عربيةً أصيلةً لعلها غابت في النسيان: نصرة المظلوم، وجور من يطلب الجيرة، والفزعة لمن يطلب الفزعة. ثم إنها تكشف، إلى ذلك، عدل بعض قادتنا حتى وهو يهبّ للنصرة، فهم لم يعتدوا، واكتفوا من قلعة حلب ما يعيد إلى هذا المملوك حقوقه وماله وربعه.
وبالتالي، فلعل جلّ ما فعله ابن بطوطة أنه حاول أمانة الإخبار ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن العرب وردوا بالتالي على اختلاف أحوالهم وقيمهم ومآلات مجدهم، كما كانت عليه الحال، بدقّة وتجرّد في ذلك الزمان الذي كانت فيه الأندلس قاب قوسين من الضياع، وزمان الوصل في طريقه للانقطاع.
على كل حال، ورغم هذا القطع في سياق مرامي المقال، إلا أنه قطع كان لا بد منه، ولعلها دعوة إلى إعادة قراءة عيون التراث، وجواهر الإرث، بعين ثالثة.
على خطى الرحّالة
هل يسير رحالة هذه الأيام على خطى رحّالة الزمان القديم؟ في سياق الإجابة عن هذا السؤال، تحضر في البال برامج كثيرة تبثّها هذه الأيام عديد الفضائيات العربية، لعل أنشطها فضائيتا الجزيرة الإخبارية والوثائقية، حيث بثّتا وتواصلان بثّ برامج من مثل: “على خطى الرحّالة”، أثيوبيا وإندونيسيا، وغيرهما، سيرًا على الأقدام، و”المسافر”.
روح الرحلة اختلفت. دوابها صارت طائرات ودراجات وسيارات ومراكب وحافلات. أغراض الترحال تغيّرت، وحمل جزء كبير منها أبعادًا استكشافية وسياحية ومغامراتية تشويقية، علمًا أن البعد الدينيّ كان في مطلع أغراض الترحال العربي الإسلامي (الحجّ إلى بيت الله الحرام)، إضافة إلى أغراض أخرى، مثل طلب العلم، والمعرفة، وكذلك الاكتشاف المتقاطع مع غرضٍ معاصر. الصورة في رحلات هذه الأيام جرحت رفعة القلم. زوايا الكاميرا تلعب دورًا ينسخ آلاف الحروف، حدوس تركيزها، وجهات نظر المخرج الذي يوجّه حاملها. وفي حين تجلّت كثير من رحلات زمان بوصفها جهدًا فرديًّا خالصًا، فإن رحلات هذه الأيام، والبرامج المتعلّقة بها، تحظى بجهد جماعيٍّ لافت، على أنها تلتقي مع ترحال الزمن القديم بحاجتها إلى التمويل وتذليل العقبات ومواجهة بعض المخاطر. وفي حين كانت مخاطر الرحلات الموثّقة في التاريخ البعيد تتعلق بقطّاع الطرق، وضواري البراري، ومجاهيل الليل السادر، فإن مخاطر الرحلات المعاصرة تتعلق بحجم الشجاعة التي يتحلّى بها مقدم البرنامج، ومدى استعداده لمواجهة تمساح على سبيل المثال (برنامج لؤي العتيبي “على الأقدام”)، أو تسلّق جبلٍ أملسٍ (تمامًا) يفضي إلى دَيْرٍ في قمّة الجبل، وفي الطريق إلى ذلك الدّير جماجم من حاولوا الصعود إليه، وقد فعل لؤي العتيبي ذلك في واحدةٍ من حلقات “أثيوبيا مشيًا على الأقدام”، وهو ما رفض أن يفعله معه المصوّر، فربط كاميرا (غوبرون) بقدمه وتسلّق وحده.
في سياق متصل، فإن برنامج “المسافر” أكثر برامج الترحال المعاصرة ملامسة، لنَقُلْ، مع روح الترحال القديم، فيه قدر من الثقافة، والإخبار المنتِج حول عادات الناس في عين المكان، وأهم مساجدهم، أو كنائسهم، أو أيًا كانت معابدهم. وفيه تأمّل، وفيه حوار. على كل حال، فإن “على خطى الرحالة” في حلّته الجديدة، يفعل ذلك، وبتركيز أكبر، وبقراءة وافية لملامحنا في بلاد الآخرين. وهو يتبنّى رحلة معاكسة، ففي حين معظم رحلات القرون الهجرية المبكرة والمتوسطة، وحتى المتأخرة، بدأت من الأندلس نحو بلاد الأصل ومنابت الدين الحنيف، فإن القطريّ، علي بن طوار الكواري، يرفع في “على خطى الرحالة” أشرعة رحلة من قطر نحو بلاد الأندلس، ويعاين حواضر الدين وتاريخ العرب في نواحيه المغاربية، إضافة إلى حلقاته اللافتة في تركيا.
لا يصف رحّالة هذه الأيام كيف يقنّنون حبّات تمر الدروب الطويلة، وكيف يقتصدون في استخدام الماء شربًا، ومآرب أخرى، أمّا من قبلهم فقد كانوا يفعلون، على أن برامج تلفزيونية كثيرة تتخصص هذه الأيام برحلات الطعام فقط، أقصد برامج يسافر خلالها مقدموها إلى بلاد كثيرة عربية (وأعجمية) ليعرّفوا المشاهدين بأنواع طعامها وأطايب مأكولاتها، مع ذكرٍ لمكوّناتها وطريقة إعدادها، ثم لا ينسون، في ختام الحلقة، أن يتذوّقوا على مرأى ومسمع المشاهدين (شاهدي الزّور).
في سياق دوافع الارتحال، يمكن إضافة الدافع الاقتصاديّ والسياسيّ (السفارات على سبيل المثال)، من دون أن ننسى، وكيف لنا أن ننسى، الارتحال القسريّ الذي ابتليت به كثير من الشعوب العربية، ليس منذ إرهاصات أدب الهجرة نهايات القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، ولا توقّفًا عند الهجرات الفلسطينية الكبرى، ولا وصولًا للجوء السوريّ ومن قبله العراقيّ واليمنيّ والليبيّ والسودانيّ والمغاربيّ و.. و..، بل بدمج كل هذا وذاك في إطار خريف أمّة العرب، وتبدّلات المركز، ومآلات الكولونيالية بمختلف ضفافها وعناوينها.
أما ارتحال أبو الطيب المتنبي (915 ـ 965م) فهو الذي لا يشبهه ارتحال آخر: السفر نحو دروب المجد حتى مرتقى الأنفاس، فإذا بالسفر يستحيل قدرًا، ودمًا نزفه القائل:
“عيدٌ بأية حال عدتَ يا عيدُ/ بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديدُ
أمّا الأحبة فالبيداء دونهم/ فليت دونك بيدا دونها بيدُ”.
نزفه في رحلته الأخيرة بين مدينتيْنِ ونقطتيْنِ ومطلبيْنِ وقلقٍ مقيم.
مركزية الحجاز
في أطروحته “الحجاز في أدب الرحلة العربي”، التي استكمل، عبرها، متطلبات نيله درجة الدكتوراة في اللغة العربیة وآدابھا من كلیة الدراسات والبحوث المتقدمة المتكاملة التابعة للجامعة الوطنية للغات الحديثة في إسلام أباد، يلقي الباحث الباكستاني، حافظ محمد بادشاه، ضوءًا ساطعًا على مكانة الحجاز في مسيرة الرحلات العربية الإسلامية منذ القرن الثالث وحتى القرن التاسع الهجري.
في سياق تبريره أهمية الحجاز في تاريخ الرحلات العربية، يقول بادشاه: “تعد منطقة الحجاز من أهم المناطق في العالم الإسلامي لدى المسلمين، حيث إن بلاد الحجاز تركت أثرًا عظيمًا في نفوس المسلمين، إذ احتوت أرضه الطاهرة على مكة المكرمة، مهبط الوحي، حيث نزل جبريل الأمين على خير البشر وخاتم الأنبياء والرسل، بأعظم معجزة بهرت الأنظار، وأدهشت العقول. وكذلك توجد الكعبة المشرفة التي جعلها الله قبلة المسلمين. واحتوت أرض الحجاز على المدينة المنورة ثاني المدن المقدسة ومسجدها ثاني المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها. إضافة إلى هاتين المدينتين، تحتوي أرض الحجاز على مدينة الطائف، وهي المدينة التي دعا النبي لأهلها”. إلى أن يقول: “فالحجاز كان ولا يزال وسيظل، إن شاء الله، مركزًا لتجمع المسلمين من مختلف أقطار المعمورة، يتجهون إليه بأنظارهم وأفئدتهم، لذا عُدّ من أقوى مراكز نشر الثقافة الإسلامية بين الأقطار المختلفة، ومحط رحال العلماء والمتعلمين”.
بادشاه يخلص في بحثه الطويل والمتشعب إلى أن كثيرًا من الرحّالة غير العرب حرصوا على شدّ الرحال منذ القرن الرابع الهجري إلى أرض الحجاز، ويكشف أن بعض مدوّنات ونصوص رحلات الحجاز فُقدت وضاعت. ومن بين رحالة الحجاز جغرافيون، ومن بينهم باحثون عن العلم والفقه وعلوم القرآن، وأن رحلات الحجاز من أهم الرحلات التي دوّنت في أزمنة مختلفة، فهي تمتّع القارئ، وتشوّقه للذهاب إلى الحجاز لرؤية تلك البلاد المقدّسة. كما يخلص إلى أن رحلة ابن جبير (1145 ـ 1217م) من أدق الرحلات الحجازية، حيث سجل فيها معلومات عن: الموقع والجبال والمناخ والآبار والأبواب، والأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وعادات السكان والاحتفالات، وغيرها.
أدب الرحلات
في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها، تعرّف الباحثة الأردنية، سعاد عبد الله أبو ركب، أدب الرحلة بأنه: “تشكيلٌ لنص ذاتي شخصي بخصوص الأنا والآخر، ينبني متكيفًا في شكل معين للتعبير عن رؤية معينة انطلاقًا من خطاب مفصح عنه في البداية، أو مُضْمَر في تضاعيف السرد والوصف والتعليقات”. في المقابل، فإن الباحث السوداني، د.عبد العليم محمد إسماعيل علي، يرى في بحثه المعنوَن: “تقنيات السرد أساس أدبية الرحلة” الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، أن البعد الأدبيّ في نص أي رحلة لا يتحقق إلا “بتوافر تقنيات السرد، وليس عبر التعبيرات البلاغية، ولا البيانية، أو الوصف كما تتّجه بعض الأصوات البحثية”. حتى إنّ عليًّا يذهب إلى أن بعض الرحلات “لا يمثل خطابها شكلًا أدبيًا”؛ لأنه “تقريرٌ وثائقيٌّ محض”. إلى أن يقول “إن للرحلة بُعدَين: الأول الحركة المادية الفعلية للتنقّل، والوجه الثاني هو تدوين هذه الحركة في خطاب لُغويّ”، رائيًا أن “الأدبية” لا تتحقق إلا عبر “الخطاب اللغوي للرحلة”.
وخلافًا للسيرة الذاتية وأدب المذكّرات، فإن أدب الرحلات الذي أُعيد اكتشافه حديثًا بعد نضج السرديات والنقد الأدبي هو حَكْيٌ لتجربة “قصدية لها أهداف مسبقة وتخطيط وحركة”.
علي يعمّق، في بحثه أعلاه، مضامين أسئلته، غير راغب في ترك مساحة لعبور ما ينقض واقع الحال، ويقود منهجية البحث العلميّ، ويقول: “أوّل الأسئلة التي يجب استثارتها هي: لماذا أدب الرحلة، وليس الرحلة؟ هل تحتاج الرحلات إلى إضافة كلمة (أدب) حتى تكتسب شرعيتها الأدبية؟ وما الذي ستفعله كلمة أدب بجوار كلمة رحلات حتى تخلصها من التعميم الذي تطلقه الثقافة العربية على عدد من الكتابات التي أضيفت إلى كلمة أدب، مثل: أدب السفر، وأدب الكاتب، وأدب النديم… إلخ؟ فإضافة كلمة أدب إلى هذه الكلمات (السفر، الكاتب، النديم… إلخ) لم تؤهلها للاندراج ضمن الأجناس الأدبية، فالأجناس الأدبية والأنواع المتفرعة عنها، كما حددها تاريخ الأدب والنقد، لا تحتاج هذه الإضافة حتى تكتسب شرعيتها الأدبية، فالملاحم، والمسرحية، والرواية، والقصة القصيرة، والقصيدة، وحتى المقامة، وبعض الأشكال التعبيرية، مثل: “كليلة ودمنة”، و”ألف ليلة وليلة”، و”رسالة الغفران”، و”الكوميديا الإلهية”،… إلخ، خالية من إضافة أدب، لكنها تنتظم في دائرة الأدب. فلماذا تحتاج الرحلة إلى إضافة كلمة أدب؟”.
إلى أن يقول: “إذا تجاوزنا التعريف اللغوي لكلمة (ر. ح. ل)، التي تحيل إلى السفر، والانتقال من مكان إلى مكان، أو أماكن أخرى، فإنّ الرحلة تضم مسارات عدة، وتتنازعها حقول معرفية مختلفة: الجغرافيا، والتاريخ، والأسفار، والإثنوجغرافيا… إلخ، لذلك تم تصنيف الرحلات في معارف عديدة، واختلفت نتيجة ذلك تعريفاتها. إلا أن القضية الأساسية بالنسبة للأدب، وتاريخه، والنقد الأدبي، هي قضية تجنيس الرحلة، وطبيعة دراستها، وتحديد عناصرها التي تجعل منها أدبًا، وهذا ما تسعى هذه الدراسة إلى ضبطه. وقد اتخذنا من “رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة” في العام 309هـ محورًا لاستشهاداتنا واستدلالاتنا على رؤيتنا”.
وفي حين يرى بعضُ الدّارسين أنّ أدب الرّحلة من الآداب الشَّعبيّةِ، فإن الباحثة والأكاديمية السورية، د. إيناس محروس بوبس، التي لا تنفي هذا البعد، وتقرّ بضمِّ أدب الرحلة عناصر من التّراث الأدبيّ الشعبيّ، تزيد عليه ما يحتويه من “معانٍ وأفكار، وبما يلبسه من ثوب أدبيٍّ قَشِيب، فالسَّردُ فيه أساسُ غايتِه النَّقلُ والتَّعليمُ والتَّرشيدُ الثّقافيّ، والزَّمنُ فيه بين الحَدَثِ والكتابة والقراءةِ لا يُنْظَرُ إليه إلا بِعَينِ التَّخمُّرِ في قارورةِ الحِكمَةِ التي يرتوي بها القُرّاء في كلِّ زمانٍ ومكان، فهو الشكل الأدبي الذي وعى التّجربة، وأحاط بها، فتشكّلت بِنسقٍ ذي رؤيةٍ، وموقفٍ خاصّ”.
في سياق متصل، يقسّم بعض من الباحثين السفر إلى سفريْن: سفر ظاهر، وآخر باطن، هذا ما فعله، على سبيل المثال، أبو حامد الغزالي (1059 ـ 1111)م، رائيًا، كما يوثّق الروائي المغربي، شعيب حليفي، أن “السفر سفران: سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن إلى الصحاري والفلوات، وهذا هو السفر الواقعي. أمّا السفر الثاني فهو السفر الذي يصعد بالقلب من أسفل السافلين إلى ملكوت السموات، وهو ما يمكن تسميته السفر الباطن”.
الرحلة الصوفية الوجدانية، هُنا، هي غير الرحلة المتخيلة، وهاتيك بدورها تختلف عمّا يضيفه الكاتب المرتحِل إلى فصول رحلته من شطحات خيال، إما للإثارة، أو لتعويض بعض ما أفلت من ذاكرته من تفاصيل الرحلة.
وبحسب حليفي، تنطلق الرحلات الخيالية “من تصورات فلسفية، أو تأملات في الوجود، ذات خلفية دينية، أو أدبية تعتمد البناء الغيبي/ الماورائي” (حليفي، “الرحلة في الأدب العربي”، ص 257). وفق هذا السياق، جاءت، كما يخلص خليفي، رحلة ابن عربي “الإسراء إلى مقام الأسرى”.
فهل كان خليفي يقصد الرحلة الصوفية الوجدانية (الروحانية لو شئتم)، وقد أشكل عليه التمييز بينها وبين الرحلة المتخيّلة الخيالية؟ هذا ما أذهب إليه، وإن كان على غير ما ذهب هو إليه.
تلاطم الأمكنة
تتلاطم، مثل أمواج البحر، الأمكنة في نصوص الرحلات. كثيرة هي الأمكنة في تلك النصوص: أمكنة في البر، وأخرى في البحر، أمكنة للتسامح، وأخرى للحوار، وثالثة للذات، وأخرى للآخر. أمكنة المقدّس، وأمكنة المدنّس، للواقع والمتخيّل. أمكنةٌ للانطلاق، وأخرى للعبور، وثالثة للوصول. في بحثها المشار إليه أعلاه “جماليات المكان في مدوّنات الرحّالة المغاربة والأندلسيين حتى نهاية القرن التاسع الهجري”، تفرد أبو ركب فصلًا كاملًا للأمكنة ودلالاتها وتفرعاتها، وزاوية ورودها في أدب رحلةٍ ما.
ورغم أن الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 ـ 1962) هتف ذات “جماليات المكان” قائلًا إن “كل مناطق الألفة موسومة بالجاذبية”، إلا أن للمكان الجديد الغريب جاذبيته أيضًا، واسألوا، إن رغبتم، أبناء برج القوس، حيث السفر عندهم يموسق ممكنات الوتر. وحيث الذات تقبض على ممكنات التحوصل أمام مغريات الآخر، فلا تقتير، ولا تبذير.
*ضفة ثالثة