محمد جمال طحان: النباش الأول والنبّاش الأخير

0

الساحات تمتلئ بجثث الأبرياء في سوريا على أيدي ميليشيات الأسد وحلفائه من الايرانيين والروس وحزب اللات، وقوات الأنظمة في العراق ولبنان والسودان والجزائر وإيران واليمن التي لا تتورع عن قمع المتظاهرين بكل الوسائل، فيتساقط الشهداء.

كلما اصطدمنا بحالة موت إنسان عزيز أو قريب منّا نقف مدهوشين وكأنّها المرّة الأولى التي يحدث فيها هذا الشيء الغامض.
للموت هيبته وقد تجاهلها القتلة، بل إنهم تجاوزوا ذلك حتى اخترقوا حرمة المقابر.

قالوا، قديما، رحم الله النباش الأول. وقصة هذا القول، أن قرية في مكان بعيد، كان أهلها إذا دفنوا موتاهم، جاء شخص فنبش القبر، وسرق الكفن، بعد أن توفي ذلك النباش، ظن أهل القرية أنهم قد استراحوا، ولكن ابنه ورثه في نبشه، وأضاف إليه، فكان يسرق الكفن ويقطع رأس الميت، ويضع الرأس على القبر ليراه الغادي والرائح. فأصبحوا يقولون، بعدها، رحم الله النباش الأول.
في 25 أيلول 1920، دخل الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال هنري غورو دمشق بعد أن انكسرت أمامه قوات الأمير فيصل بن الحسين التي كانت بقيادة وزير الدفاع يوسف العظمة.

وبهذه الكلمات دخل غورو دمشق ووقف أمام قبر القائد الكبير صلاح الدين الأيوبي وقال ها قد عدنا يا صلاح الدين ! قلنا هم أعداؤنا والحقد يحدوهم.

واليوم يفعل شبيحة الأسد ما هو أسوأ بقبر مهنا عمار الدين ابن مدينة خان السبل من قادة الجيش الحر قبل أن تنبت لحى أصحاب الرايات السوداء، استشهد في عام 2014 ولم يعرفه إلا أهل خان السبل. عاد اليوم ذكره على لسان كل السوريين الأحرار. هدموا قبره ليعلم الناس قصة بطل حتى وهو ميت كان مصدر قلق لهم. وكذلك فعلوا بقبور كثير من الأبطال ومن الأبرياء ليتوهموا بأنهم ينتصرون عليهم من خلال التمثيل بجثثهم ونبش قبورهم.

إنّ نبش المقابر نهجٌ تتّبعه العصابة الأسديّة منذ مجزرة المشارقة بحلب، فصبيحة عيد الفطر بتاريخ 11/08/1980 ارتقى 83 شهيداً من الأبرياء، على أيدي عناصر القوّات الخاصّة بإشراف العقيد السفّاح “هشام معلّا”والنقيب القاتل “غدير حسين”.
بعد الإعدام الجماعي قامت البلدوزرات بتسوية مقبرة هنانو بالأرض، أزيلت الشواهد ولم يبقَ سوى قبر هنانو والجندي المجهول؛ وأقيم على أنقاض المقبرة، بعد سنوات، ما يسمّى بـ”جامع الرئيس”.

يمر الموت في وقت محدد لكل نفس فيقطفها بحيث لا يوفر أحداً على مدى الدهر ليجسّد المساواة الكاملة بين البشر { كل نفس ذائقة الموت } بغير استثناء ولا وساطات، وحتى الأنبياء ذاقوا هذه الواقعة التي تكاد تكون الفعل الديمقراطي الوحيد الكامل الذي لا يقبل الرشاوي ولا تنفع معه الحيلة ولا يملك مكيالين ليفرّق بين غنيّ وفقير أو حاكم ومحكوم.
لا يمكن أن نستهتر بالموت أو أن نتناساه، وإنما يحسن بنا أن نستعدّ له بوصفه جسراً للانتقال من عالم إلى عالم كما ينتقل الجنين من رحم الأم ليغدو طفلاً في عالم أرحب.

حين ينتقل الطفل إلى عالم الحياة يبدأ بالبكاء على محيطه الذي ألِفَه غير راغب في مفارقته، لكنّه يتلقى الصدمة الأولى بالانفصال عن حبل السرّة، فإذا جاء إلى الدنيا ألفها وأحبّها ورغب عن مفارقتها حتى أنه يتهيّب من فقدانها والانتقال إلى عالم آخر تصفه الأديان بأنه الأجمل { الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور} لكنّه يبقى عالماً رهيباً وتنبع رهبته من كون عالماً غامضاً يجب أن نحبّه رغم غموضه بدلاً من محاولة الهرب منه من غير جدوى، كما لاحظ الإمام الشافعي:
ومــن نزلــت بساحتـه المنايــا فــلا أرض تقيــه ولا سمــاءُ

لقد جرّب / جلجامش / أن يهرب من الموت ويبحث عن سرّ الخلود بعد أن فُجع بفقدان صديقه / أنكيدو/ لكنه فشل؛ وفشل كثيرون قبله وبعده في التملّص من تلك الكأس الواجبة على الكائنات جميعها والتي هي رحمة لهم { محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة }.

والأحرى بنا أن نرحّب بتناول تلك الكأس فرحين لأن الحياة التي لا تنتهي تصيب المرء بالضجر، تماماً كما الكتاب الضخم الذي يستغرق زمناً خرافياً لقراءته، وكالعمل الطويل المرهق الذي ابتلي به /سيزيف/ في رحلة عذاب أبدية. ألا تصبح الحياة الطويلة مصدر إزعاج مستمرّ لنا، تحفّ بها الأمراض من كل جانب ونعتاد خلالها العالم حتى الضجر؟!

بل ألا يتمنى حينذاك كل من حولنا بأن تنتهي حياتنا لنتخلّص ويتخلّصوا معنا من حياة معذبة لا جدوى منها ؟

وإذا كنا جميعاً نقرّ بحتمية الموت وبكونه رحمة للإنسان فإننا في جهة أخرى نستبعد ضمناً أن ذلك سيحدث لنا ذات يوم.

وبما أن الموت واقعة حتمية، ألا يكون الأجدى لنا أن نعيش حياتنا بأسلوب نتعلّم فيه كيف لا يكون الموت مخيفاً من خلال اصطحابنا وثائق نظامية وعدّة كافية للرحلة الأخيرة.. عدّة تجعلنا نردّد بثقة قوله تعالى: { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية } قبل أن يفوت الأوان؟!

العصابة المجرمة التي دفنت الأحياء لأنهم لم يقولوا ربنا بشار، ليس مستغرباً عليهم نبش قبور الأموات، فلا حرمة لديهم لا للأحياء ولا للأموات. إن الحقد أعمى قلوبهم، فانطلقوا ينتقمون بأقبح أشكال الانتقام وأسفل أخلاق يزدريها الإنسان.
فهل يمكن تصنيف أولئك الذين يذبحون ويغتصبون وينبشون القبور ليرقصوا على جماجم الراحلين، هل يمكن تصنيفهم بين البشر؟

لقد عاث موالو الأسد فساداً في قبور وأضرحة ومساجد عمرين عبد العزيز وصلاح الدين وأبي العلاء المعري وغيرهم من رموز الأمة، ظانين أن نبش القبور يشفي الصدور ، ولكنه ، في الواقع، يشي بأحقادهم ودونيتهم ويؤكّد بأن مثل هؤلاء كانوا بيننا شياطين يفسدون الحياة علينا ويوغرون الصدور، ولابد من استمرار الثورة حتى يطغى الحب على الضغينة وننعم بالحرية والكرامة ونرعى حرمة الأموات.

المصدر: بروكار برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here