محمد تركي الربيعو: «عَمَار يا أم الدنيا»… ذاكرة وأحلام الناس العاديين عن عمارة القاهرة

0

كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة ظهراً حين وقع أكبر زلزال في تاريخ مدينة القاهرة، الذي سيُعرف بزلزال عام 1992. لن يهزّ هذا الحادث، الذي أودى بحياة المئات، وشرّد الآلاف، مشاعر الملايين داخل البلاد أو خارجها فحسب، بل سيكون له وقع كبير كذلك على عدد من المراقبين العالميين للشرق الأوسط. فبعد سنوات من تسليط الضوء على صورة الرئيس الراحل أنور السادات، وهو يُقتل على يد إسلامي متطرف، كانت الكاميرات تتحوّل هذه المرة لرصد واقع الناس والشوارع والأحياء الفقيرة.
وسيُعبّر، لاحقاً، عدد من الباحثين الغربيين عن هذا التحوّل في نقل المشهد، من خلال التركيز على موضوعات جديدة، تعنى بحيوات الناس العاديين في العشوائيات، بدلاً من التركيز فحسب على موضوعات الإرهاب والإسلام السياسي، أو طبيعة النظام المصري، وعلاقته بمحيطه. وقد بدا هذا الأمر أكثر وضوحاً، مع تشكّل مجموعة «كلية القاهرة للدراسات الحضرية»، التي ضمّت عدداً من الباحثين الغربيين، وشرق الأوسطيين المشتغلين على تاريخ المدينة؛ فبدلاً من التركيز على موضوعات مثل دراسة يوميات أحفاد البنا وسيد قطب، وعلاقتهم بالسياسة، التي انشغل بها جيل الآباء، حاولت هذه المدرسة البحث في يوميات الشارع، والأحياء العتيقة، بالإضافة إلى دراسة تأثير سياسات التجديد الحضري النيوليبرالية على المجال العام، التي أدّت إلى خلق تقسيمات اجتماعية وذوقية جديدة بين المصريين، بالإضافة إلى تقديم مقاربات جديدة حول الإسلام اليومي وطقوسه مثل الموالد؛ فقد وجدت الباحثة الفرنسية آنا مادوف، أن هذه الطقوس لم تعد مجرد احتفالات دينية، بل غدت بمثابة مناسبات لإعادة رسم حدود الصراع بين المجتمع والدولة على المكان، إذ يقوم المشاركون فيها بإعادة السيطرة مؤقتاً على الفضاء، وإعادة ترتيب مسرحه خلافاً لقواعد السلطة.

وتتمثّل أهمية هذه الدراسات، كما ذكرنا، في قدرتها على خلق ساحات أخرى لدراسة تاريخ المدينة، وبالأخص ما عرفته من تطورات على صعيد مجالها العمراني، الذي سيبقى الشاهد الأكثر وضوحاً على التقلّبات التي عرفتها مصر خلال القرن العشرين. فمع كل تغيير سياسي/اقتصادي، كانت الأماكن والأحياء في القاهرة تجبر على ارتداء كساء آخر. ولعل من بين الكتب العربية القليلة، التي ربما استفادت من أدوات ومقاربات هذه المدرسة، وتنبّهت لأهمية تدوين يوميات زلزال 2011، من خلال ذاكرة العمارة والمجال العام، هو كتاب المعماري والأكاديمي المصري علي عبد الرؤوف «شعب وميدان ومدينة» والصادر قبل أشهر قليلة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. إذ لا يعيد لنا المؤلف، في هذا الكتاب، رواية ما حدث في البلاد، بعيون السياسيين، أو الثوار، أو العسكر، بل سيترك الأمر للميادين لتروي لنا ما جرى في الأعوام الأخيرة. فهذه الأماكن لم تكن مجرد ساحات باردة، أو فضاءات مادية، بل هي أرواح، عاشت أحداثاً كبيرة، قبل أن تُهجر، وتُشوّه وتتفتت.

القاهرة الرومية… ولادة الميادين العامة:

في فصوله الأولى، سيعود بنا المؤلف إلى فترة محمد علي؛ فقد عرفت هذه المرحلة، المليئة بالتحولات، حدثاً ستكون له تداعيات على واقع مدينة القاهرة، فبعد سنوات من مكوث حكام مصر في القلعة، نقل الباشا أثاث قلعته إلى قصره الجديد في شبرا، قبل أن يحمل مرة أخرى على الظهور إلى قصر عابدين مع الشاب الخديوي إسماعيل.
سيؤدي هذا الانتقال من العزلة إلى وسط المدينة إلى توسع مدينة القاهرة خارج أسوارها التقليدية. كان الخديوي قد عاش في فرنسا وانبهر بالتحولات العمرانية التي عرفتها مدينة باريس، ولذلك سارع إلى ترك القاهرة الإسلامية نحو أسوارها الخارجية. ومع ولادة فكرة «القاهرة الرومية»، أخذت فكرة الميدان، كنسق عمراني، تفرض نفسها على البنية العمرانية للمدينة الجديدة. فكانت البداية مع ميدان عابدين والعتبة، قبل أن يأتي دور ميدان الإسماعيلية (التحرير اليوم) ليفرض نفسه كشاهد على تحولات مدينة القاهرة. ومع مرور الأيام، كان هذا الميدان الأخير على موعد مع عدد من الأحداث، بدءا بالتظاهرات التي جرت إبان ثورة 1919 بقيادة الزعيم سعد زغلول، كما عرف مشاريع عمرانية في ساحته والأحياء المحيطة به، مثل مشروع المعماري السويسري كاستامان الذي صمم عمارة «غروبي».
مع قدوم عبد الناصر، أخذ هذا الميدان يعيش تفاصيل جديدةً، إذ قام الضباط الأحرار بهدم الثكنة البريطانية، التي كانت تتخذ من بعض أجزائه مقراً لها، ليبنوا محلها عدداً من الفنادق الغربية (فندق هيلتون 1954) ومقراً لجامعة الدول العربية. كما حاولوا، في سياق الرغبة بتسيهل أمور حياة المواطن المصري، جمع كثيرٍ من المصالح الحكومية في بناء من طراز سوفييتي (مجمع التحرير)، صُمِّم على شكل هرمي متّسع ليناسب الشكلَ الدائري للميدان. ولعل هذا التجاور بين عمارة غربية وأخرى ذات طراز سوفييتي، الذي عرفه الميدان، كان يبوح بحالة الارتباك والحيرة التي عاشها عبد الناصر، قبل أن تأتي مرحلة السادات، الذي حاول في البداية الترفيه عن المصريين، فقرّر تحويل الميدان إلى حديقة، بيد أنّ هذه الرغبة لن تستمر طويلاً، فسياسات الانفتاح الاقتصادي، أخذت تُقذف بالميدان، أو بالأحرى تقذف إليه عدداً من الفنادق ذات الطابع المعماري الحديث مثل، سميراميس ورمسيس هيلتون، قبل أن يأتي مشروع النيوليبرالية في زمن مبارك، ليحوّله إلى عقدة مرورية ليس إلا، خاصة أنّ «أرض الأحلام» لم تعد موجودة في هذا الميدان وباقي الميادين، وإنّما في أماكن خارج القاهرة. ولذلك غدا هذا المكان عبارة عن بؤرة جذب لحركة سيارات شديدة التعقيد، ليس إلا، ومكاناً مهملاً، وهو ما كان يتناسب مع السياسات الحضرية آنذاك، التي اختزلت القاهرة إلى عدد من الفنادق والمولات، وبعض الأماكن الأثرية، التي أعاد النظام اكتشافها لأغراض سياحية بعد أن قام بطرده أهلها، أو منعهم من التجول في داخلها، وهو ما لاحظه مثلاً المعماري ياسر الششتاوي، في سياق دراسته لسياسات الضبط في منطقتي مسجد الرفاعي والسلطان حسن. ونتيجة لذلك، تقلّص الدور الاجتماعي الجوهري الذي يؤدّيه الفضاء العام في القاهرة، قبل أن تعود للحياة من جديد مع اندلاع شرارة الثورة.

 ذكريات وحوارات منسية من الثورة

قد يُعدُّ الفصل المتعلق بالحوارات، التي تلت ثورة 2011 حول مستقبل ميدان التحرير المعماري، الأهم في الكتاب؛ فبعد اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ظهر مشروعٌ يقضي بتشكيل لجنة من المعماريين والمخططين، لإعادة تصميم الميدان، الذي تحوّل إلى مزار سياحي وطني. يكشف لنا عبد الرؤوف عن رؤيتين؛ لم تتمكن الأولى من تجاوز المناهج التقليدية، إذ انصب تركيزها، إما على مجرد وضع نصب تذكاري، أو تحويل مقر الحزب الحاكم الواقع في الميدان إلى متحف لتاريخ التعذيب في العالم، بينما ذهب آخرون إلى فكرة تحويله إلى متنزه حضري شبيه بأنموذج حديقه «هايد بارك» في مدينة لندن، منطلقين من فكرة حرية التحدث في الحديقة. أما الرؤية الثانية، فقد بدت للمؤلف أكثر وعياً بمورفولوجية المكان (رؤية المعمارية سهير حواس)؛ كما نعثر هنا على عدد من الأفكار التي رصدها المؤلف على صفحات التواصل، لعدد من المهندسين والمعماريين الشباب؛ فهناك من حلم منهم مثلاً بتحويل الميدان إلى مكان خال من السيارات، يسير فيه الناس ليتوقفوا عند كل مشهد حدث أثناء الثورة، قبل أن يتوجهوا لاحقاً إلى جدارية نقشت عليها أسماء الشهداء، ليدعو لهم في خشوع، بعيداً عن الضجيج، وكأنهم يقفون دقيقة حداد من جديد. كما أنّ هناك من ركّز أيضاً في سياق تخيل الميدان (المؤلف مثلاً الذي كان مشاركاً في هذه الحوارات) على إعادة الاهتمام بالمقاهي وإحياء دورها الثقافي.
بيد أنّ هذه الأحلام، كما سيرصدها علي عبد الرؤوف، لن يتاح لها الإمكانيات أو الوقت الكافي لتعبّر عن نفسها، فخلال أشهر قليلة، سيعود باقي رجال الباشا من جديد للسيطرة على الميدان، قبل أن يتعرض لأوسع عملية تشويه عرفه منذ تأسيسه؛ ستكون البداية من خلال حشد الآلاف من عناصر قوات الأمن، لضمان إبقائه مهجوراً، قبل أن يُحاصر من خلال تنصيب بوابات حديد عملاقة وإلكترونية لمراقبة الداخلين والخارجين منه، بالإضافة إلى شنّ حملة من قبل بعض المثقفين على هذا الميدان، لإعادة خلق تاريخ آخر لهذا الميدان، بهدف تصفيته أو بالأحرى تصفية أي مكان عام آخر يمكن أن يكون مكاناً للتظاهر؛ فوفقاً للرواية الجديدة، لم يعد مرتادو هذه الأماكن أو من يفكرون بالتظاهر فيها، سوى مجموعات عشوائية تسعى للعنف وتدمير المجتمع، كما ذهب إلى ذلك المفكر المصري الراحل سيد ياسين.

 ماذا عن بقية الحكاية؟

يقف بنا المؤلف عند عام 2016، ولن يكون هذا الوقوف جراء توقف ذكريات المصريين أو أحلامهم، أو موت الميدان، رغم عمل النظام على ذلك، بل لأنّ المؤلف لم يعد قادراً، ربما على التجوال في ساحات وأحياء مصر، ورصد تحولاتها. واقع لم يعد يعاني منه المؤلف وحسب، بل غدا عائقاً أمام البحث الإثنوغرافي في مصر كما تذهب إلى ذلك كل من منى أباظة وليلى تشاكرفاتي في مقالهما المشترك «الإثنوغرافيا في زمن الاضطرابات».. ويمكن أن نتساءل هنا: ماذا عن أحلام المصريين على صعيد إعادة بناء مجالهم العام، هل ستنتهي حكاياتهم مع غياب من يدوّنها؟ أم جرى اعتقالها، كما حدث مع الآلاف؟ وليست الإجابة على هذه الأسئلة باليسيرة، خاصة في ظلّ تفاقم الأوضاع، مع ذلك، يمكننا العثور على بعض التلميحات في بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يُلاحظ تزايد انتشار الصفحات التي تُعنى بنشر صور عن شوارع القاهرة في الفترة الملكية، أو لاحقاً في فترة الخمسينيات والستينيات، وهي في الغالب صورٌ تُظهِرُ أشكالاً أخرى لمصر ولميادينها؛ جميلة، ونظيفة؛ كما لا تبدو على وجوه العابرين أو القاطنين فيها أي ملامح من الإرهاق والتعب. وقد يتشابه هذا الأسلوب من «التعبير الهادئ» عن صورة القاهرة المتخيلة أو المشتهاة، مع الاستراتيجيات التي يتّبعها بعض البيروتيين في السنوات الأخيرة، إذ لاحظ الأنثربولوجي الفرنسي تييري بواسييه، تكرار اعتراض بعض أهالي بيروت على الخطط العمرانية للحكومة، من خلال مشاركة صور للمدينة قبل الحرب، تعرض حكايا عن النزهات القديمة، والأماكن الجميلة التي عرفوها، أو سمعوا عنها. وقد وجد بواسييه، أنّ هذا السلوك لا يعكس بعداً حنينياً، بل رغبة في الدفاع والحق في تخيّل شكل المدينة، أو استعادة حق الخيال، وفق تعبير الأنثربولوجي الهندي أرجون أبادوراي، بدون الحاجة إلى تغيير الواقع الحضري رأساً على عقب، وإنما إعداده وتكييفه عن طريق ما هو موجود.
ولعلّ واقع بعض الصفحات المصرية على وسائل التواصل الاجتماعي يوحي بالمعنى ذاته؛ فالناس العاديون هناك، رغم ما حدث، لم يفقدوا الأمل، ولذلك نراهم يعملون لاستعادة حق التخيّل عبر هذه الفضاءات غير المقيدة، ما يعني أنّ معركتهم في إعادة رسم صورة المجال العام، والميادين والمدينة لم ولن تتوقف، وإنّما تغيرت استراتيجيات طرحها في ظل توحّش النظام. وقد يكون هذا التخيّلُ المعبّر عنه عبر وسائل التواصل، محلَ دراسة واهتمام، أو فكرة كتاب جديد، يُعدُّ مكمِّلاً للكتاب الحالي، و يُعنى برصد أحلام المصريين؟ أو كيف يحلم المصريون بشكل مدنهم؟ وليس هناك من هو أقدر من عبد الرؤوف، اليوم على القيام بهذه الرحلة في عالم الأحلام والتخيل العمراني. الذي يُحسب له في السنوات الأخيرة أنّه كان من المعماريين القلائل، الذين انفتحوا على عالم الرواية وخيال روائييها ووظّفه لدراسة عمارة المدن العربية؛ ولعله ليس بالمعتادِ، أن يحدّد القراء للمؤلف موضوع كتابه القادم ولكن لما لا يكون ذلك. ألم يتنبه ميشيل فوكو (الصديق العزيز لمؤلفنا) أنّ فكرة المؤَلِّف الفردي مجرد اختراع ابتدعته ثقافة القرن السابع عشر، في حين أنّ التأليف هو جهد جماعي، وهذا ما يفسّر عثورنا إلى يومنا هذا على نصوص قديمة مثل (الحكايا والقصص والملاحم) بدون مؤلّف معروف؛ وربما ليس هناك من قصة أو ملحمة أكبر من ملحمة المصريين تستحق أن نتشارك جميعنا في كتابتها، قراءً ومؤلفين.

*المصدر: القدس العربي


ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here