غادر دنيانا قبل أسابيع قليلة المثقف والأكاديمي السوري حسان عباس، وقد عرف الراحل في السنوات الأخيرة باهتماماته المتعددة، منها الإشراف على مشاريع ومؤسسات تعنى في التعريف بمفاهيم الحرية والمواطنة، أو بجمع بعض الشهادات حول ذاكرة القمع السورية، خلال فترة ما بعد 2011. كما عرف باهتماماته وشغفه بتوثيق وقراءة التراث السوري اللامادي، وهو ما ظهر من خلاله كتابه «تاريخ الموسيقى التقليدية في سوريا» أو من خلال تشجيعه عدداً من الباحثين السوريين الشبان على الخوض في هذه التواريخ الثقافية، من خلال «مؤسسة اتجاهات» التي أصدرت مجموعة من الدراسات المتعلقة بذاكرة بعض المهن، وبتاريخ الطعام السوري وعلاقته بالحرب وغيرها من المواضيع الثقافية الأخرى.
ولعل المهم في هذا الاهتمام بالتواريخ الثقافية، أن الراحل لم يكن يتعامل معها بوصفها فلكلورا، كما هو دارج في ذهنية عدد كبير من المثقفين السوريين، وإنما نظر لها بوصفها تواريخ اجتماعية وأنثروبولوجية موازية، وهي رؤية يبدو أنها تأثرت ونجمت عن خلفية الراحل الفرنكفونية، وعمله في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، وتأثره الواضح بالمدارس التاريخية والعلوم الإنسانية الفرنسية، التي كان لها دور كبير في تفجير عوالم الجنون والجنس واللاعقلاني، على مدار المئة سنة الماضية.
ومما يبدو في سياق حياة الراحل، أن هذا الهم بكتابة تواريخ بديلة، بقي يشغل باله، وهو ما نستشفه من خلال كتابه الأخير»الجسد في رواية الحرب السورية» الصادر عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت. إذ سيحاول في هذا المؤلف التطرق كما يظهر من العنوان لموضوع طالما شغل الأوساط البحثية والفكرية الفرنسية على مدار عقود، وبوصفه مدخلاً للتعرف على تاريخ اجتماعي آخر، وهو ما يؤكد عليه حسان عباس، الذي ينقل عن بيير بورديو عبارة تقول: «إن الجسد موجود في العالم الاجتماعي، لكن العالم الاجتماعي موجود في الجسد» من هنا يغدو الجسد موقعاً لدراسة تعبيرات المجتمع وثقافته، وأيضاً ما تعرض له من مشاريع هيمنة، سواء كانت أيديولوجية، أو سلطوية. ورغم أن الكتاب يتناول موضوع الجسد في الرواية السورية المكتوبة بعد عام 2011 ولغاية 2018، لكن القارئ لمتنه، وللصور العديدة التي يلتقطها الباحث في يوميات الجسد السوري، خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة، ولاحقا الحرب، سيدرك أن الباحث تمكن من كتابة فصول من تاريخ الجسد السوري، منذ النصف الثاني من القرن العشرين وإلى يومنا هذا.
تبدأ هذه الفصول، من الملاحظات الأولى التي يدونها المؤلف، إذ يرى أن الجسد المبجل والمشتهى في سياق التواريخ السورية المعاصرة، بدا متمثلاً في ذاك الجسد المنحل في «الأمة» سواء الأمة الإسلامية من طرف الداعين لها من الإسلاميين، أو الأمة العربية، التي عبّر عنها البعثيون في سوريا منذ الخمسينيات. كما يلاحظ في هذا السياق أن الجسد المثالي الذي كانت السلطات في سوريا تشجع تمثيله في فن التصوير، لم يكن سوى الجسد الملحمي، إذ يختلط الفرد/ الجسد والعالم، ويتوقف الجسد عن كونه عنصراً متفرداً في اللوحة ليصبح خلية ووحدة من مجموعة، بينما نرى في المقابل أن الجسد الفردي لطالما قمع، مع ذلك، فإن الحياة اليومية السورية في العقود الأخيرة، تظهر لنا محاولات عديدة لكسر هذا القمع الأيديولوجي، من خلال لباس الجسد مثلاً، الذي شهد تغيرات عديدة وسريعة، وهو ما كنا نراه من خلال مشهد الحجاب الجديد في شارع الحمرا، أو الشعلان في مدينة دمشق أو غيرها من المدن السورية، الذي كان يظهر فتيات محجبات، يرتدين لباساً وغطاء رأس ملون وعصري، ويحملن هواتف محمولة، ما شكل أحياناً في بعض أوجهه منافساً أيديولوجيا للأيديولوجيا الرسمية للسلطة. ومع انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا 2011، يلاحظ عباس وجود صورتين للجسد، الأولى تعبر عن مسار ملحمي يجمع الأجساد المختلفة في كتلة واحدة، ومصير واحد، والصورة الثانية تعبر عن مسار فرداني ينكمش فيه الجسد إلى حدوده الفردية الباردة ليصوغ حكايته الفريدة المستقلة. مع تطور الأعمال العسكرية وازدياد العنف، أخذت صورة الشهيد شيئاً فشيئاً تحل محل صورة الجماعة، وصورة جسد الضحية الفرد محل صورة الجسد الجمعي البطل، ولم يكن هذا التحول، خاصة بطرف واحد من الأطراف المقاتلة، إذ انتهى الجسد الجمعي لدى كل الأطراف، وصار لكل طرف أبطاله وشهداؤه وضحاياه.
الشوارب واللحى في الرواية السورية
وعلى صعيد الرواية السورية، التي هي محور اهتمام هذا الكتاب، يلاحظ المؤلف أن موضوع الجسد وصوره، حظي باهتمام جيد، خاصة على صعيد القمع الذي تعرضت له الأجساد السورية، لكنه ينبهنا في الوقت ذاته، إلى ضرورة التعامل مع هذه الصور، بوصفها لا تعكس بالضرورة صورة واقعية للأجساد السورية، بقدر ما أنها أحيانا كانت وليدة تحيزات الروائي الأيديولوجية ورؤيته عن العالم. وقد تناول المؤلف في هذا السياق صورة النحافة والعينين والأشخاص مفتولي العضلات في الإنتاج الروائي السوري، ومما يلاحظه مثلاً أن صورة «السمين» أو «مفتول العضلات» غالباً ما ارتبطت بالشبيحة، في المقابل رسمت صورة عن أجساد المتظاهرين بوصفها إما «نحيلة» أو «صغيرة» وهي ثنائية يراها الراحل نمطية، خاصة أن المظاهرات لم تقتصر على الفقراء أو المريضين، وإنما شملت البدناء ومفتولي العضلات أيضا. ولأن الكتاب يتطرق لأشكال مختلفة من الجسد في الرواية السورية، سنحاول التركيز على صورة الشوارب في الرواية السورية، بعد عام 2011 مقارنة بالتاريخ الاجتماعي للسوريين في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ما قد يوفر لنا صورة جيدة عن تبدلات الجسد ومظهره الخارجي في سوريا خلال عدة عقود.
يلاحظ المؤلف أن شعر الوجه، وتحديداً الشوارب واللحى، من أكثر المظاهر دلالةً وترميزاً، ففي روايته «السوريون الأعداء» يسترجع فواز حداد صورة المخبر الانتهازي العلوي، الذي يشي بزملائه المتدينين القريبين من الإخوان المسلمين، ولكي ينجح بالتقرب منهم كان لا بد له أن يظهر بمظهرهم، وكان يكفي أن يطيل لحيته ويحف شاربيه. في هذه الصورة نعثر على يوميات عرفتها سوريا خلال الثمانينيات تقريباً، فالسلطة في سوريا كانت قد تبنت نهجاً شبه علماني في ما تدعو إليه من قيم اجتماعية، وقد ازدادت هذه العلمانوية (كما يصفها المؤلف) مع الصدام بين الإسلاميين والسلطة، ومن الأمثلة على ذلك العوائق التي وضعت أمام ارتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية، وأيضاً منع إطلاق اللحى في المؤسسة العسكرية.
لكن هذا القمع الجسدي لن يستمر طويلاً، كما سيلاحظ المؤلف، الذي سيلتقط لنا صورة فريدة وذكية، تعود لفترة التسعينيات مع ظهور «باسل» الابن الأكبر لحافظ الأسد، الذي تميز ظهوره بعلامتين بارزتين: نظارات شمسية سوداء تغطي العيون، ولحية خفيفة محددة الأطراف. وقد تحولت هذه اللحية إلى رمز للشباب، عندما اقتدى عدد كبير من العناصر الشابة في أجهزة الأمن بها، حتى غدت دارجة في أوساط الشرائح العمرية الشابة، وبشكل مستقل تماماً عن ميولهم السياسية.
وبعد أشهر قليلة من اندلاع الانتفاضة عام 2011، انتشرت ظاهرة الشبيحة الذين أرخوا لحاهم، ليس كرمز ديني، وإنما كرمز لرجولة مبالغ فيها، ولطبيعة قاسية ووحشية، وبعيد تشكيل الجيش السوري الحر بدأت تظهر صور لعناصر هذا الجيش القادمين بقسمهم الأعظم من الجيش النظامي، أي من مكان كانوا فيه حليقي الذقون، وهم يتباهون بلحاهم الكثة الطويلة. ورغم أن هناك بعض الروائيين حاولوا البحث عن مبررات لذلك، عبر ربط ذلك بزحمة الحروب والأوجاع، التي تدفع الإنسان لينسى شكل وجهه، لكن مع «أسلمة المعارضة» وفق تعبير المؤلف، كان إطلاق اللحية لا يحتاج إلى تبرير، بل صار مبعثاً للافتخار. ومع تحول الثورة إلى حرب شاملة أصابت جميع مرافق الحياة، احتدم الصراع لاحتلال المواقع، من المواقع الجغرافية إلى مساحات الفضاء الافتراضي، إلى الرموز، وأخذ الشبيحة يبالغون في إطالة لحالهم، وكأنهم يسعون لانتزاع رمزيتها من الجهاديين، حتى لصوص الآثار تركوا لحاهم، كما نراها في رواية «عائد من حلب» للروائي عبد الله مكسور.
وعلى العكس من اللحية، لم تتمتع الشوارب باهتمام كبير، وبات الإبقاء عليها في مناطق سيطرة الفصائل الإسلامية، أمراً مكروهاً، وهو ما تلمح إليه رواية «نزوح مريم» للروائي محمد حسن الجاسم، في معرض وصفها للتحولات التي حلت في مدينة الرقة بعد احتلالها من «داعش» : «انتشرت اللحى بأشكال مختلفة. قصيرة وطويلة، خفيفة وكثة، مهذبة ومبعثرة، كلها من دون شوارب» ومما يلاحظه المؤلف هنا ، أن الشوارب التي لم تعد لها أهمية تذكر في الحياة الروائية أو اليومية السورية بعد الحرب، كانت في الماضي ترتبط بالذكورة والرجولة، كما اكتسبت الشوارب في التاريخ السياسي السوري الحديث رمزية أخرى، ففي يوم الثامن من آذار/مارس عام 1963 قام ضباط من الجيش السوري من التيارين الناصري والبعثي، بانقلاب عسكري أطلق عليه اسم «ثورة آذار» وقد رجح لفترة ليس قصيرة، أنصار الانقلاب من عسكريين ومدنيين إلى تصفيف شواربهم خطين مستقيمين متقاطعين بزاوية حادة تحت الأنف بشكل يحاكي رسم الرقم 8 كتعبير عن انتمائهم الديني، بينما لم تعد الشوارب اليوم ترتبط بالرمزيات السابقة في حياة السوريين، وإن بقيت من الملامح المميزة والجميلة للأستاذ حسان حتى آخر أيامه.
*القدس العربي