محمد برو: المهاجر السوري في جمهورية الكلب

0

من أسطرها الأولى تشدني الرواية الجيدة أو فلا، طبعا هذه ليست بقاعدة مضطردة لكنني أميل إليها غالباً، ورواية جمهورية الكلب تستنفرك من أسطرها الأولى وأنت تحاول المقاربة بين تفاصيل الحكايات اليومية ورمزيتها المتخيلة.

تطوف بنا الرواية بكثافة عالية بعوالم الكلاب في ألمانيا حيث استقر الراوي بعد هجرته من بلده سوريا، بدأً من كلب صديقته الألمانية، عبورا بكلب أهل الكهف، والكلب اليوناني “لوكانيكوس” الذي كان يتقدم المظاهرات أمام البرلمان اليوناني، حتى صنفته جريدة التايم الأمريكية من أهم مئة شخصية في العالم في عام”2010″، والكلب الياباني المحنط في المتحف الوطني في طوكيو، وعلاقة الزعيم النازي هتلر بالكلاب وعلاقة عشيقته “إيفا” بهم، كذلك علاقات قادة ومفكرين وفلاسفة بكلابهم، أمثال خروتشوف، وستالين، وحتى شوبنهاور وكلبته أطما التي أحبها. ولا يغني ذلك الحديث الشيق والغني بالتفاصيل عن عالم الكلاب في قريته السورية “تل أفندي” بريف مدينة “القامشلي” الشهيرة بانتفاضتها عام “2004” والتي قمعها النظام الأسدي بشكلٍ دموي.

هو يحفظ مكانة مميزة من التقدير لأول كلب لا تزال صورته ماثلةً في مخيلته منذ أيام الطفولة، منذ خمسة وخمسين عاماً، صورة الكلب ” كازي”.

الفقرات صغيرة ورشيقة تجنبك السأم من متابعتها فهي ما تكاد تبدأ في مسألة حتى تسارع في إيجازها وإنهائها كيما تنتقل إلى فقرة أخرى أكثر تشويقاً.

الأحاديث العفوية بين المهاجر السوري وجارته الألمانية النحيلة والجميلة، حاضرة كما لو أنك تسجلها تباعاً دون إطالة أو قسر للمحتوى، لكنها تنثر في طياتها علامات الاختلاف والائتلاف بين مجتمعاتٍ وثقافاتٍ متباينة، وهي تشكل جزءاً مهماً من نسيج الرواية.

في المهجر تطل مسألة الطلاق التي راجت في أوساط المهاجرين السوريين وربما عند كثيرين غيرهم، لكنَّ قصصاً كثيرةّ حكت لنا عن زوجين سوريين ما إن استقرا في ألمانيا حتى كان الطلاق سبيلهما لعيشٍ مختلفٍ وجديد، وفي حالات كثيرة كانت الزوجة هي صاحبة القرار في الانفصال بخلاف ما كانت تجري عليه الأمور في بلادنا.

هل سنعود؟ كثيرون قالوها قبلكم: الأتراك، الأفارقة، الأفغان، الباكستانيون، العراقيون وغيرهم، إلا أنهم مكثوا هنا، ولم يعد منهم إلا الندرة.

هو يعيش مع أسرته في ألمانيا، لكن جزءاً منه ما يزال متصلاً هناك، لم تحسم الأمور بعد ولم تتبدد أوهام العودة، فهناك من يذكِّره دائماً ألّا ينغمس ويتماهى في هذا المجتمع الجديد، لأنهم جميعاً عائدون، وسيبقى هذا السؤال مخيماً لزمنٍ طويل، طالما أن الحرب دائرة هناك، سيبقى حلم العودة ماثلاً في الوجدان كلحنٍ قديمٍ جميل، لكن ما إن تضع الحرب أوزارها حتى يصدمنا حجم التحول العميق والاندماج الحقيقي الذي طرأعلى أبنائنا اليافعين بعد أن أتقنوا اللغة ودخلوا الجامعات والمدارس وتكوّن لديهم نسيجهم الاجتماعي الجديد، وصار أمر العودة بالنسبة لهم أشبه بأدب اللامعقول،وسنجدنا نصطدم بين ثقافتين وجيلين والأمر إلى اتساع، أمّا أطفالنا الذين هاجروا صغاراً أو ولدوا هناك فهم في وطنهم الحقيقي، وليست سوريا بالنسبة إليهم أكثر من حكاية من حكايات الجدات.

في قريته الأولى كانت العلاقات أشبه بعلاقات القرابة والنسب، فجميع شباب القرية بالنسبة له مثل إخوته وأبوه بمثابة الأب لأبناء القرية وبناتها، هذه العلاقات البريئة التي كانت تربط الجيران ببعضهم برباط حميم لم تعد من طبيعة الحياة بعد الحرب وليست من طبيعتها في بلاد المهجر، ففي ألمانيا لا يعرف المرء جاره، وفي دول الخليج أيضًا قد يعيش قربك جار لا تراه، إنها المدينة التي تحول قاطنوها إلى أرقام تحتجزهم في كتلها الإسمنتية العارية عن نبض الحياة.

في وهم الفردوس المنشود يصطدم المهاجر بعقبات عدة ربما تكون أصعبها في البدء عقبة اللغة، وهو أمرٌ شديد الصعوبة على من تجاوز ميعة الشباب، وسيكون الأمر إلى حدٍ كبير شبيهاً بتلك العبارة التي يطلقها والد الفتاة المكسيكية في فيلم “المشي في السحب” A Walk in the Clouds” وهو يغاضب حبيب ابنته الأمريكي “إذا كنت تراني أرطن في لساني فإنني لا أرطن في عقلي”، فكثير ما يخيل لسكان بلدان المهجر أن اللاجئ الذي يُتأتئ في لغته إنما يُتأتئ في عقله أيضاً.

يتحرك الروائي في روايته عبر خط موجي على محوري الزمان والمكان يصعد تارة في الحاضر ويهبط تارة أخرى إلى الماضي الأثير إلى النفس، فما إن تنتهي حكايته عن وقائعه اليومية مع الألمانية بيانكا حتى تراه مستطرداً في حكاية موازية من قريته هناك في الزمن الذي مضى، ويكون في الغالب عن الكلاب والحكايات التي جرت حولها.

الكلاب هي التعبير الحاد عن مشقة الاندماج بثقافة مجتمعٍ جديدٍ وغريب، سيما أننا نحمل جذور ثقافة مغايرةٍ، من الصعوبة بمكان الانسلاخ عن الكثير من تفاصيلها التي تصبغ حياتنا اليومية.

لو هاجر إلى سوريا في يوم متخيل مئات آلاف الأوروبيين هل سيكون لديهم متسع للحفاظ على نمط حياتهم الأوروبية الذي ألفوه، أم سيكونون أمام خيارين لا ثالث لهما، الانعزال في غيتو مستقل كما فعل بعض اليهود في مجتمعات غربية، أو الاندماج مع العالم الجديد بما يحويه ذلك من تكيف عالٍ مع تلك الثقافة الجديدة.

تدهشك الرواية بكثرة التفاصيل التي يحشدها “إبراهيم اليوسف” حول حياة الكلاب في المجتمع الألماني، ومنزلة الكلب في سلم الحياة الاجتماعية هناك، وكم القوانين والأعراف التي تصون حقوقه، حتى لتخاله قد أمضى سنوات في دراستها وملاحظتها، وتدوين حكاياتها، ولنا أن نختم دهشتنا بمعرفة أن عدد الكلاب في ألمانيا يربو على عشرة ملايين كلب، وأن نفقات رعايتهم تتجاوز أربعة مليارات يورو سنوياً، وأنَّ الكثيرين هناك يفضلونها على الأبناء، لأن الأبناء سرعان ما يكبرون ويغادرون، بينما تبقى الكلاب وفيةً ما حييت.

في ثنايا الحوارات التي لا تتوقف بين الراوي وصديقته الألمانية بيانكا، يشير إليها أنَّ الاندماج لا يكتمل إلا إذا اطلعتم أنتم، أيضًا، على ثقافتنا، الاندماج عندكم اندماج من طرفٍ واحد، إنه احتواءٌ وابتلاع للآخر.

الرواية وبامتياز عملٌ شديد العفوية والإتقان بآن معاً، مسبوكٌ بلغةٍ بليغةٍ وبسيطة، تطرح إشكالية الاندماج ومعاناة اللاجئين، ويبقى السؤال الكبير، هل سترتقي الإنسانية يوماً، لمعالجة العلة الجوهرية في تدفق اللاجئين، بإعلان الحرب على الأنظمة الاستبدادية لأنها أصل الإرهاب ومنبعه.

جمهورية الكلب للروائي والشاعر السوري إبراهيم اليوسف ، صادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية ، تقع الرواية في 360 صفحة من القطع المتوسط .

*الناس نيوز