في محاولته لتلمس الاستعصاء الذي واجهه الربيع العربي، في بلدان هبت شعوبها للتخلص من أنظمتها الاستبدادية، فكانت النتيجة مدمرةً ومخيبةً للآمال، يحاول الكاتب الفلسطيني “ماجد كيالي”، الذي عجنته السنون وهو يعايش التجربة الفلسطينية التي انغمس فيها، وقدم كتابه “الثورة المجهضة” 2013 عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعايش الربيع العربي عن قرب، منذ انطلاق شرارته الأولى وصولاً إلى الانكسارات الحادة التي واجهته، والتي لم تتوقف نتائجها الكارثية إلى هذه الساعة منذرة بغدٍ غائم ومستقبل غامض الملامح.
وإذا كان كتاب د. برهان غليون “عطب الذات” قد قدم مراجعةً للحراك السوري، في إضاءةٍ نوعيةٍ على دور العامل الذاتي في انكسار الحلم، المتمثل في إشكاليات وعلل الفئات التي مثلت ذلك الحراك سياسياً ومؤسساتياً، فإن الكاتب الفلسطيني “ماجد كيالي” في كتابه الأخير “الصدع الكبير” قدم مراجعةً مكثفةً وعميقةً لثورات الربيع العربي عموماً، ولانكساراتها والأسباب البنيوية التي ساهمت في وصولها إلى ما آلت إليه، وسيجد من يتابع مآلات الثورات العربية والثورة السورية على وجه الخصوص، في هذا الكتاب حشداً معرفياً، ومتابعة تفصيلية لأهم المحاور التي كانت علة في تلك الانكسارات المتتالية.
يستعرض الكتاب في فصوله الأربعة، اختبارات الدولة والمواطنة والديمقراطية في العالم العربي، ومصادر الصراعات الطائفية والاثنية وأبعادها ومصائرها، وإشكالية الديني والدنيوي في السياسة والدولة، واشكالية الحالة السورية، التي خصها بقسم منفرد ربما لكونها التجربة الأقسى في الوطن العربي، والتي ما يزال حريقها يقتات بدماء السوريين والفلسطينيين معاً.
في فصله الأول اختبارات الدولة والمواطنة، يأخذ الكاتب على الأحزاب العربية عموماً اشتغالها بالشعارات الكبرى، “التحرير والوحدة والاشتراكية” واهمالها للقضية الأهم، والأكثر التصاقاً بتحقيق مشاريعها، ألا وهي قضية الدولة كمعطى سياسي وقانوني ومجتمعي، وكذلك قضية المواطنة التي تتضمن بالضرورة مسألة المرأة وحقوقها ومكانتها، وصولاً إلى القضية المحورية “الديمقراطية” التي تشكل مربط الفرس ومناط تحقق جملة المشاريع والشعارات المطروحة على مساحة الوطن الكبير.
تظهر تجربة الربيع العربي وانطلاقتها بشكل شعبي، ذلك الانفصال الحاد بين شعارات تلك الأحزاب، وبين ما نشدته تلك الثورات التي رفعت شعار الحرية والعدالة وإسقاط الديكتاتوريات، التي لمست فيها معطلاً لجميع التطلعات الحزبية والسياسية والإنسانية، تلك الانتفاضات الشعبية أدركت بحسها العميق، أنَّ إسقاط الديكتاتوريات هو الباب الوحيد المفضي لأفق مفتوح، يمكن أن تتحقق فيه التطلعات وتنجز الشعارات.
بيد أن تلك الثورات لن تلبث أن تصطدم بسؤال الحرية، الذي سيضعها أمام مسارين متباينين، يتم في الأول التشديد على قيم الديمقراطية وتداول السلطة والاحتكام لإرادة الشعب، بينما يتم في الثاني الاشتراط على معنى الحرية وحدودها بدعوى الخصوصية الإثنية والدينية، فالأحزاب اليسارية عموماً ما تزال بها بقايا من الفكر الذي ينادي بديكتاتورية الطبقة العاملة، وتشاطرها التيارات الإسلامية ذات الاستعصاء، فهي تعالج مفهوم الحرية بالنظر إلى المجتمع على أساس مسلم وغير مسلم، الأمر الذي يشكل عقبةً أمام طرح مفهوم الوطنية والمواطنة والوحدة المجتمعية، التي تقتضي النظر للجميع بشكلٍ متساوٍ أمام القانون وتجاه الدولة، ولا يبتعد العلمانيون “الأيديولوجيون” كثيراً عن نظرائهم اليساريين والإسلاميين في هذا الباب، ففي حيّز الممارسة يظهر الكثير من هؤلاء نمطاً مختلفاً من أنماط الاستبداد، حين يستكثرون على آخرين الحرية والديمقراطية.
وفي قراءته لإشكاليات الثورة السورية، يستهل الحديث عن مفهوم انتصار الثورة أو انكسارها، وكيف يتأتى لمجتمع جرى تفتيته وتحطيمه على نحوٍ كارثي، أن يأتي بثورة تنتصر، هذا مخالف لمنطق الأشياء، كما أن المعارضة الهشة وتكويناتها المتفتته عجزت عن تشكيل جسمٍ جامعٍ، وإجماعات وطنية يلتقي عليها السوريون بمشاربهم المتنوعة، وكانت تحرص على مجاملاتٍ طائفية ودينية، أكثر من حرصها على خطاب ديمقراطي وطني واضح، كما زاد الطين بلةً تشظي الفصائل المسلحة التي تزيت بالزي الإسلامي، وذهبت بالثورة إلى غير وجهتها الأولى، ثم ما لبثت أن سلمت الكثير من مواقعها.
كل هذا مع ما تعرضت له الثورة السورية من تحطيمٍ وحشي، من جهاتٍ يستحيل مواجهتها دفعةً واحدة، إلّا أن روح الثورة التي اشتعلت في نفوس السوريين، وما فعلوه من فعلٍ جليلٍ في ثقب جدار الخوف والصمت، الذي صادر حياتهم لعقود، يبقي الأمل في استمرار هذه الجذوة مشتعلةً، سيما أنَّ الثورات لا تؤتي أكلها في جولةٍ واحدة، وخير شاهد على هذا ما حصل في الثورة الفرنسية “1789”.
ويأتي السؤال التالي، هل أضر تلازم مساري العسكرة والأسلمة بمسار الثورة السورية؟ تبقى الإشكالية قائمة فنظام الأسد يستحيل إسقاطه بحركة سلمية، كما أنه أفاد من العسكرة كونه أكثر استعداداً وقوة، ثم تدهمنا مسألة معسكر “أصدقاء الشعب السوري” الذين رفعوا دون حساب، سقف الآمال والتوقعات، الأمر الذي أدخل الشعب السوري عامة في حطيم تضحيات كبيرة، لم يكن رد أولئك الأصدقاء حيالها، أكثر من فقاعات إعلامية لا وزن لها في عالم الثورات.
يختم الكتاب مناقشته لانكسارات الثورة السورية، بأنَّ السوريين في سعيهم لنيل الحرية، معنيون بالتوافق على دستورٍ يعنى بالنقاط الأساسية التالية: ضمان حقوق المواطنة، ضمان مدنية السلطة، تعزيز الديمقراطية الليبرالية، إيجاد حل عادل للمسألة الكردية، اعتماد اللامركزية أو النظام الفيدرالي، ضمان الفصل بين السلطات، اعتماد قيم فوق دستورية تؤكد الإجماعات الوطنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصدع الكبير (محنة السياسة والأيديولوجيا والسلطة، في اختبارات الربيع العربي)
ماجد كيالي. كاتب فلسطيني
المؤسسة العربية للدراسات والنشر (عمان ـ بيروت)، 2021
*الناس نيوز