إذا كانت العمة جهينة قطعت قول كل خطيب بالبلاغة ، فأمي وصلت لنفس النتيجة و لكن بصفعة واحدة دوّت على خدي الأيمن . لم تؤلمني الصفعة نفسها ، فقد اعتدنا منها أنا و اخوتي على صفعات كثيرة في مناسبات متفرقة ، ولكني هذه المرة شعرت بطعنة تستهدف أعز ما أملك : رجولتي . انحنى رأسي وثقلت رقبتي وشعرت بدمعة عنيدة تصر على الإعلان عن نفسها رغم مقاومتي الشرسة. – اثبت يا بشمهندس ! صرخت فيّ أمي فاستعدت وقفتي العسكرية مرة أخرى .- مالك ! سنبكي الآن مثل النسوان ؟- تمام حضرتك . – والله أنا أعرف أني خلّفت رجلا …لو معلوماتي غلط قل لي ! معلوماتك صحيحة يا أمي تماما ، ولهذا بالضبط عشقت . أصبحت الدنيا تفاحة شهية أود قضمها ، وعرفت الألوان طريقها لحياتي بعد أن كانت أسود و أبيض . شجرة غرام صغيرة أنبتناها في النور ، تحت سمع وبصر الزملاء و المعيدين و الدكاترة في الجامعة . إذا كان هذا ذنبي فأعترف به . إذا كانت المشاعر خطيئتي ، فأنا قطعا مدان . – الموضوع كبير …هناك اتصالات على أعلى مستوى لانعقاد مجلس الحرب ! يهمس ” أصلان ” بأذني . أخي الأكبر الذي تعمل الكيمياء بيننا بكفاءة رغم أني آخر العنقود وهو أوله . يحذرني: سيأتي أخوالي بقاماتهم الفارعة و شواربهم التي يقف عليها الصقر محملين بسخطهم التاريخي علينا و كأننا نحن الجيل الجديد الذين انتزعنا من آباءهم وأجدادهم ألقاب ” الباشوية ” و ” البكوية ” و ليس جمال عبد الناصر و رفاقه . سيدخلون إلى غرفة مغلقة لا تُفتح إلا في حالات الطوارئ . باب خشبي جرار مقسوم إلى نصفين . قاعة مستطيلة ومقاعد مذهبة من النوع الذي ترونه في القصور الرئاسية يتصدر نشرة الأخبار . قدومهم لا يعني أبدا أن الأمور مع أمي خرجت عن السيطرة . يعني فقط أن ثمة حدث جلل وقد عالجته هي بمنتهى الحسم وتحتاج فقط إلى المجلس ليصدق عليه . إنها هنا تشبه بالضبط الرئيس الأمريكي حين تعرض أسطول بلاده الراسي في بيرل هاربور لضربة ساحقة من اليابانيين فذهب إلى الكونجرس ليحصل على تفويض بالحرب .- يا عم اشتر دماغك و سيبها تشوف نصيبها مع غيرك ؟لا أعرف بماذا أجيب ” أصلان “. يحذرني مسبقا . يلقيها في وجهي بلا مقدمات:- إنها ممرضة ، عارف يعني إيه ممرضة ؟ أعرف يا أخي العزيز ، يعنى ملاك الرحمة في كل البلاد إلا في بلاد ترى في التمريض مهنة سيئة السمعة وفي الممرضة مشروع فتاة خارجة عن النص ، امرأة يسهل استدراجها للفراش بكلمة معسولة و هدية قيمة . يسخر ” أصلان” من تبريري بأنها حب عمري فمثل هذا الكلام نقرأه في الروايات التي صدعت بها رؤوسهم لكن أمور الحياة لها منطق آخر. – أي منطق؟- منطق أنها أيضا بدوية !- وماذا في ذلك ، هى طالبة جامعية متفوقة ثم أليس البدو مصريين مثلنا ، أنت نفسك تعرفت عليها و تعرف أكثر من غيرك أنها لا ينقصها ذراع أو ساق و تشرف بلدا!- دعك مما يقال من شائعات ، لكن الحقيقة تقتضي منا الاعتراف بأن هؤلاء البدو لهم حياتهم و طباعهم المختلفة عن بقية المصريين ، و بالذات عائلة كبيرة مثل عائلتك تملك المال و الحسب و النفوذ ، ثم إنك طالب هندسة و ليس مسموحا لك إلا بالزواج من طبيبة أو في أسوأ الأحوال مهندسة . – هذه عنصرية و مصادرة لحقنا في الاختيار!يذكرني بما لم انسه يوما : منذ أن مات أبي مبكرا ودفنت أمك شبابها و جمالها لتربينا ، انتهى حقنا في الاعتراض و للأبد! بين رغبتي في عدم إغضاب الفك المفترس- اللقب السري الذي نطلقه سرا على أمي – والانتصار لحبي الأول، أدور حول نفسي مثل فأر في المصيدة . ورطة لا أعرف منها فكاكا ومأزق يعز معه الخلاص. – ساعدني يا رب!لكن ربنا لن يغير ما بي حتى أغير ما بنفسي من ضعف وحيرة وتردد. – تعال نهرب!- واضح يا حبيبتي أنك متأثرة بأفلام الأبيض و الأسود!- صدقني ليس هناك حل آخر.- أنا لست أحمد رمزي وأنتِ لستِ سعاد حسني!- احسبها بالورقة والقلم ، ستجد أن هذا هو الحل الوحيد ، إلا إذا كنت غير متمسك بي!- قسما بربي لم أحب قبلك و لن أحب بعدك وأمنيتي الوحيدة في الحياة أن تجمعنا أربعة حيطان. – كن رجلا إذن ومن ناحيتي سأكون خدّامة تحت رجليك!نجحت في استفزازي . تكلمت مع “أصلان” . كان واضحا جدا:- نصيحتي لك ألا تفعلها ، لكن لو صممت سأدعمك سرا بكل الطرق أما علنا ستكون عدوي وسنتبرأ منك جميعا تضامنا مع أمك” موقف ممتاز لم أتوقعه منه . هذا يعني أن كثيرا من العقبات المادية سوف تُذلّل. تحولت فعلا لفتى شاشة الستينيات المدلل الذي يجهز سيارته بالمؤن واللوجستيات الضرورية و ينتظر السندريلا في المكان المحدد مع أول ضوء للفجر، تماما كما يحدث في السينما . في الموعد المتفق عليه، كانت دموعي تبلل الوسادة مثل المراهقات العاجزات . ليتني كنت مراهقة و عاجزة فعلى الأقل سيكون هناك من يلتمس لي العذر . لكني طويل مثل هامان بشارب يقف عليه الصقر مثل مجرم هارب في الصعيد. أغلقت الموبايل و التحفت بالجبن و النذالة وبت لا أعرف ما سيأتي به الصباح.
*مجلة ميريت الثقافية