محمد المطرود: شأنُ الكتابةِ الشخصي

0

كنتُ جربتُ في البدءِ مجاورةَ قافلةَ أبي الطيّبِ، كتبتُ الوزنَ وخبرتُ «النبطي قبلُ سَمعاً، وليسَ أوزانَ الفراهيدي الستةَ عشر والجوازات، فلمْ أصبحَ شاعراً ولا فارساً» أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها /ويسهرُ الخلقُ جراها ويختصمُ، ولمْ أسع لأعطيةٍ من الإخشيدي، بالكادِ تَحصّلتُ تصفيقَ رفاقي الشيوعيين آنذاك، وحفظتُ عن ظهر قلبي الأغنيةَ الطبقية: «اسمهُ مناضل، أطيب أكلهُ فلافل» منتصراً بذلك للأمميةِ العالمية، ومتنكّراً لهزائمي الوطنيةِ والشخصيةِ، بدءاً من و«عد بلفور المشؤوم» وانتهاء بيتمي وزواج أبي، وتحوله في أحسنِ أحوالهِ إلى زوج أم، لم يسعدهُ كثيراً الابن الذي حفظ نشيدَ السلام العالمي مع لحنهِ، وعزفهُ على الغيتارِ بنشاز شديدٍ، فالبدو يجيدونَ العزفَ على الربابةِ، وإذا ما أرادوا أن يهبوا صوتها حزناً شديداً يقولون «الربابة تجوحُ» وكذلك يقولون» جوحة الذئب» ولكأنّ بصيرتهم قادتهم إلى أنّ لا سلامَ في الأفق، بينما تكاثرتْ على المكان الذئاب الغريبة.
قررتُ أنْ أكونَ الماغوط، فلم أتقن الألف الليّنة المائلة في لهجةِ أهلِ السلميةِ، فسالمتُ حظي، وقلتُ كما قال:» سأخون وطني» وأحلامي بعدَ أن عرفتُ أنّ «الفرح ليسَ مهنتي» ولا مهنةَ أهلي الذين يخوضونَ في الماء والنار والمجاعة، وأصبحوا وهباً مشاعاً بين سلطة القمع وهوان المعارضات. كذلك بطبعي البدوي، بتلك الحمولة الكافية من الجلافة، لم يعجبني سكيرُ (الميسات) بقدر كرهي لمريديهِ ومتصوفتهِ، وطريقتهم في الاستكانةِ تحت عباءته، وإعجابي برياض الصالح الحسين تلميذه النجيب، والمتفوق عليهِ حسب القاعدةِ النيتشويه» التلميذ يكافئُ معلمهُ أسوأ مكافأة، إذا بقي تلميذاً».

لقد مات المعلّم والتلاميذ

بكّرتُ بقراءةِ «أوراقِ الزيتونِ» و«العصافيرُ تموتُ في الجليل» وصرتُ أنكشُ أسناني من لحمِ مغتصبي، وقلتُ بعدَ أنْ اشتدّ عودُ فهمي للشعرِ: وداعاً محمود درويش، لنْ أكونَ مثلكَ شاعر الأرض المحتلّة، من المحيطِ إلى الخليج، ومن» خلافة بلاد المغرب» إلى» إدارة شرق الفرات». وأنا مُحتلٌّ ومختلّ التوازن والجهات، وكما افترقَ صاحب» لماذا تركتَ الحصان وحيداً» عن فاشية اللغةِ المبكّرة، افترقت عن النبرة العاليةِ، وتعدد الأصواتِ وتذبذبها في نصي، لصالحِ اللغةِ، بعيداً عن التفاصيلِ وشعرية السرافيس بين البرامكة ونهر عيشة على أطراف دمشق.
اهتديتُ إلى أحمد مطر، لم أحبّه شاعراً، أحببتُ شتيمتهُ وزهدهُ في الغياب، وتعرّفتُ شبيههُ راشد حسين، ورددتُ معه «اللّه أصبحَ غائباً» إلى أنْ هددَني حرّاسُ الفضيلةِ فتركتهُ، وبحثتُ عن وادٍ آخرَ أهيمُ فيهِ لأتعرّفَ جنيّةَ الشعرِ، بعدَ أنْ عرفتُ صيغةَ الله المذكّرة من أصدقائي الذينَ يَسكرونَ معي، ويُصلّونَ الفجرَ في الجامعِ القريبِ من الحانة.
هاتِها أيها النادل، فأنا بدوي، ومن الظمأ «يجرح لساني لهاتي»… أقرأهُ النوّاب مهجوراً من أتباعهِ بحجةِ الحداثةِ، وتخلّف قصيدته عن (انفجاراتهم الشعريةِ) وقد نسوا الحربَ التي في قصيدتهِ، أصيحُ يا النوّابُ ببُحتي التي تُشبه بحته: ها هم أولادُ القحبةِ كبروا كثيراً، استوطنوا رأسَ الثورِ، وخروجهم صارَ معجزة. يلزمنا دهر كاملٌ من الشتائم لنوابِ الله على الأرض، ويلزمنا ألف شاعر شتّام ليجرح ذواتنا، وجرّاح واحدٌ مخلصٌ يرتّق فتوق أرواحنا، ويجمّل ندوبنا ولو إلى حين.
لجأتُ فيما لجأتُ في قراءاتي إلى قاسم حداد، وحمدتُ الربّ أنْ اجتمعنا في جنةِ «هاينريش بول» في وقتٍ كانت أصوات الانفجارات ووقعاتُ البراميل في بلدي، تأخذُ حصتها من كلّ بيت، وكان الهدوء في بلدي البديلِ (أرض الجرمان) مفاجئاً وصادماً، ولولا رعاية هذا الكائن الذي من صنفِ المعلمين التاريخيين، لكنتُ استسلمتُ للصوتِ العالي في داخلي، وبقيتُ في كنفِ الشتات غير آبهٍ بالهدوء الذي تحصّلتهُ، لم نكنْ في حصة الجغرافيا التي اجتمعنا فيها إلا أولاداً ناقصي عطفٍ وفاقدي أهلٍ وعائلةٍ، فكانَ لنا أباً وزوجهُ الكريمة أمّاً، يقرؤنا، ويصوّب بخطّ الرصاص، لئلّا يجرحنا أو يحبطنا. لم أكن بعيداً عن سليم بركات، رصانة اللغة، وأجواء الحكاية، من الزرازير إلى الحجل إلى الكراكي، ومن العلاقةِ الجغرافية إلى العلاقة البيولوجية مع الكرد بحكم خؤولة الكرد لي، ومن علاقة ملتبسة ونادرة بين الضيف والمضيف لغوياً، وإذ كنتُ أنتمي للأمّ العربية كلمة وبناءً وإعراباً بوصفي صاحبَ الدار، كانَ سليمو مُضيفاً ويبزّ أهل الدار في شؤونهم، إلى أن رأيتُ بحكم نفسي الموّارة، والأمّارةُ بالخروج على النسق، كيف أنّ المريدين يقتلونَ حجّتهم أولاً، ويقتلونَ علامتهم في أنفسهم، فخرجتُ على الدار عن الدار، وعشتُ شبهَ غريبٍ، لم يطربني كثيراً صديقي «الوفي» الذي يسكرُ كثيراً في أوقاتِ فراغه حين سماني «سليم بركات العرب» ثمّ بعدَ وقتٍ ليسَ وفيرا، رأى في عنواني «آلام ذئب الجنوب» نديّة مع شمالات بركات، ومنذ تلكَ الكتابة، نام هو في كأسهِ، وانطلقتُ أنا إلى عناوين أخرى لها علاقة بي وبالجنوب والذئاب.
أخيراً: هجرتُ فكرةَ أنْ أكونَ شاعراً عظيماً أو ثائراً أو صاحبَ بسطةِ أخلاقٍ، ولو صَحّ لي الأمرُ سأشكّلُ منَ الوحلِ الطيّع ثلاثةَ طليان معفّرة بأثارِ الحريقِ وذئباً منَ البرونزِ، وسأبقى طيلةَ حياتي المقبلة راعياً، يَحرسُ مشهدَ الحقولِ المحترقةِ في فيلم واقعي طويلٍ، طويلٍ جداً.
البارحةَ قررتُ الكتابةَ عن المسرّات، وانتصرتُ للحيواناتِ الضعيفةِ في داخلي، أولاً: سَدَدَتُ ثغرةً في السماءِ، كانَ الحزنُ ينزلُ منها بغزارةٍ، قيلَ أنّها أثرٌ من طائرة معاديةٍ، عادتُها أنْ تتركَ ندوباً عميقةً بالقربِ من وجوهِ الملائكة والأطفال الذين» سيخبرون الله عن كل شيء». ثانياً: كنتُ طيلةَ فترةٍ الكتابة وتلعثمي بها، أبكي بشدةٍ من هولِ الفرحِ، حتى أنيّ وجدتُ كميةً كافيةً من قطنِ الكلماتِ، حَشوتُ بهِ فمَ الحزنِ في قلبي.
لو قدر لي أنْ أكتبَ بسلاسةٍ، فأنا بحاجةٍ لفتحِ نافذةٍ أو شقّ صغيرٍ أطلّ منهُ على عالمي الذي كانَ، على تلك السهوب المتراميةِ من الذكريات بين مسقطِ رأسي وأطراف جبل سنجار، حيث بحيرةٌ من السراب تعومُ فيها قطعانٌ من الذئابِ الشجاعةِ. ولو سئلتٌ يوماً عن أمنيةٍ، أو تجسّدَ أمامي ماردُ تحقيقِ الرغبات، سأسألُ عن الساعةِ الخامسةِ والعشرين، الذي لم أنجزهُ في خمسين عاما، أنجزهُ في الساعةِ الإضافية.

*القدس العربي